تقارير

مسيحيو حلب.. الغالبية هاجرت والقليل المتبقي يضع أسماءها بقوائم السفر

بينما كانت جورجيت سعادة، ذات الـ/55/ عاماً، منهمكة في توضيب منزلها وإسدال الستائر على نوافذها ووضع الأقمشة، لتغطية الكراسي والطاولات الموجودة في غرف منزلها الثلاث مع اقتراب موعد السفر، يجلس زوجها جرجس سعادة /66/ عاماً يتأمَّل ألبوم الصور، مستعيداً شريط الذّاكرة عن اللَّحظات التي طواها وسيطويها النسيان.

الرجل الستيني الذي كان يعمل بائعاً لقطع تبديل السيارات في حي السليمانية وسط مدينة حلب حيث يقيم، يقلّب صفحات الألبوم، ممرّراً أمام عينيه مشاهد له ولأسرته ولمكان عمله ولابنتيه وولده الوحيد، الذين غادروه جميعاً.

“جرجس” الذي رفض مراراً وتكراراً دعوات ابنته المقيمة في أستراليا ولم يلبِّ دعوات ابنه وابنته المقيمين في ألمانيا؛ وافق أخيراً، وعلى مضض، ترك ماضيه وذكرياته والسَّفر إلى أستراليا.

يقول “جرجس” لمنصة “مجهر”: “قهرتني الظروف وأجبرتني على مغادرة البلد وترك معشوقتي حلب، في هذه المدينة نشأتُ وترعرعتُ طفلاً، ويافعاً طويتُ مرحلة الشباب، وها أنا إذ أضحيت عجوزاً؛ من المؤكد أن الرحيل عن منزلي وترك ذكرياتي في المدرسة والحي والكنيسة ومكان العمل، لا يلائم من وصل لمرحلة متقدمة من العمر مثلي”.

ويضيف “لكن ما باليد حيلة، الظروف باتت قاهرة ومعظم أقاربي وجيراني ومعارفي غادروا واتخذوا طريق الهجرة، وأظن أن معظهم ذهب برحلة الذهاب بلا عودة، فالبناية التي أقطنها وكلها من المسحيين لم يتبقّى فيها سوى ثلاثة منازل لم يغادرها أهلها، وأغلب الظن أنهم لن يتأخروا كثيراً عن اتخاذ قرار الرحيل”.

حالة “جرجس” لا تختلف عن حالة كابي مشلح/ 41 عاماً، والذي يعمل مهندساً في بلدية حلب، قرر إنهاء وظيفته والسفر إلى فرنسا كي يلم الشمل مع عائلته التي سبقته إلى هناك منذ حوالي العام.

“كابي” الذي صرح لمنصة “مجهر” عن سعادته بقرب لقائه بزوجته وطفليه؛ عبَّر عن أسفه من مصير المسحيين في حلب وهجرتهم التي تضاعفت في السنوات الأخيرة، بحيث تحولوا إلى أقليات في أحياء كانت تاريخياً، يعتبرون فيها الأغلبية.

ويقول المهندس الأربعيني: “معظم أقاربي خارج سوريا، الكثير منهم غادر في بداية الأحداث مع اشتداد المعارك بين المسلحين والحكومة”.

وتابع حديثه “أحياء كالسليمانية والميدان والجديدة إضافة للسريان القديمة والجديدة ومحطة بغداد والعزيزية، كانت في فترة الحرب هدفاً لقذائف المعارضة التي أمطرتها بوابل يومي من القذائف والصواريخ”.

ويضيف كابي: “القصف والاستهداف أدى لهجرة كثيفة وغير مسبوقة للمسيحيين من هذه الأحياء التي كانوا يشكّلون نسبة 90٪ من عدد سكانها، لكنهم باتوا اليوم لايشكلون سوى 30٪ بأفضل الأحوال، فالغالبية هذه هاجرت ولاتزال تضع اسمها على قوائم السفر والرحيل، فمن غادر في بداية الأحداث بسبب الحرب والتهديدات الأمنية وتجنّباً للاقتتال، يغادرها في هذه الأيام بسبب الأوضاع الاقتصادية المزرية”.

وقال أيضاً “أنتظر بفارغ الصبر أن يأتي موعد رحلتي لأسافر وانضم لعائلتي التي سبقتني إلى هناك قبل حوالي العام، مع أنني حزين على مغادرة هذا البلد، لكنني سأبدأ حياة جديدة هناك وستبقى معي الذكريات”.

بدوره الأب طوني مارون/35 عاماً، وهو كاهن في كنيسة الموارنة في حي الجديدة في حلب، يسرد لمنصة “مجهر” الأسباب التاريخية والراهنة التي حوّلت مسيحيي حلب إلى أقلية، ويقول إن نسبة المسيحيين الآن لا تتخطى 1٪ من مجموع الأهالي، بعد أن كانوا حتى نهاية الستينيات يشكلون ما بين 35 إلى 40٪ من مجموع السكان.

ويقول الأب طوني: “لا أريد الغوصَ في سرديات التاريخ وخفاياه، أريد أن أتكلم عن أسباب هجرة المسيحيين، في العقد الأخير أي بفترة الحرب والأحداث السورية، فمع الشرارة الأولى لهذه الأحداث، تم وضع المكون المسيحي ضمن دائرة الاستهداف، ومن جهات عدة، وخاصة تركيا والفصائل الإسلامية المنضوية تحت لوائها”.

وأضاف “مع مطلع العام2012 ؛ قامت هذه الفصائل باختطاف المطرانين “يوحنا إبراهيم” و”بولس يازجي”، وهما أهم رجال الدين المسيحي في حلب، كما اختطف الكثير من المدنيين وتم طلب فدى وأرقام مالية ضخمة من ذويهم لإطلاق سراحهم، وبعضهم فُقِدَ أثره بشكل كامل، والبعض تمّت تصفيته”.

وتابع بالقول “الإسلاميون المدعومون من حكومة أنقرة، وأنا هنا أتّهم هذه الحكومة لأنها كانت الراعي الرسمي لكل المتشددين الإسلاميين بمختلف تسمياتهم وتشكيلاتهم، استهدفوا بشكل عنيف وممنهج كل ما هو مسيحي في حلب، من كنائس وأديرة ومنازل ومحال تجارية وورش صناعية، وكما هو معروف في حلب المسيحيين في هذه المدينة لهم ثقل تجاري وصناعي كبير ووازن، هذا الاستهداف والقصف الهمجي الذي كان مدرجاً على أجندة هذه الحرب برعاية تركيا، أدّى لموجة هجرة مسيحية من حلب، هي الأكبر منذ عقود طويلة”.

وأضاف الأب طوني “هذه الهجرة ستسبب خللاً بالتركيبة السكانية في عاصمة سوريا الاقتصادية، وستؤدي لضعف المنتوج الصناعي والمردود التجاري، إضافة لخمول الحركة الثقافية والفنية، فالمسيحيين هم أحد أهم الأعمدة التي تتكئ عليها الصناعة والتجارة والحركة الثقافية في حلب”.

تقرير: سامر عقّاد

زر الذهاب إلى الأعلى