آراء وتحليلات

إقليم كردستان بين التدخّلات التّركية والإيرانية وصراعات الغاز والنفّط

حسن حسن | مجهر

 لا شَكَّ أنَّ انسحاب شركات النَّفط والغاز من إقليم كُردستان؛ كان له تداعياته السِّياسيّة على مستقبل الفيدراليّة، وعلى علاقات الإقليم مع أنقرة وبغداد وطهران، وقدرته على جذب الاستثمارات الدّوليّة التي تَشتدُّ الحاجة إليها.

ينتح إقليم كُردستان العراق ما بين /400/ إلى /500/ ألف برميل نفط يوميّاً ويَتُمُّ تصدير أغلبه، ويبقى /25/ ألف برميل للاستهلاك المحلّيّ، بينما يبلغ إنتاج العراق نحو /5/ ملايين برميل يوميّاً.

في 15 فبراير/ شباط الماضي، أصدرت المحكمة الفيدراليّة العراقيّة العليا مرسوماً يفيد بأنَّ قانون الموارد الطبيعيّة الذي أقرَّتهُ حكومة إقليم كُردستان (KRG) في عام 2007 غير دستوريّ، ممّا قد يؤدّي إلى قلب صناعة النَّفط والغاز في المنطقة.

 وأصدرت أيضاً حكماً بـ”عدم قانونيّة صادرات وعقود نفط حكومة إقليم كُردستان مع شركات النَّفط الدّوليّة، ومنحت المحكمة الحكومة الفيدراليّة الحقَّ في إلغاء هذه العقود، والمطالبة بمُلكيّة نفط حكومة إقليم كُردستان، وتحميل أربيل مسؤوليّة عائدات النَّفط السّابقة، مقابل مخصَّصات الميزانيّة المُتلقّاة من بغداد.

تقول وزارة الموارد الطبيعيّة في حكومة كُردستان إنَّها مستعدِّة لتسليم إيرادات /250/ ألف برميل يوميّاً من النَّفط إلى الحكومة الاتّحاديّة، مقابل ضمان الحقوق والمُستحقّات الماليّة للإقليم، لكنَّها ترفض إخضاع النَّفط لإدارة مركزيّة.

إجمالاً، هناك /57/ عقداً بين شركات عالميّة وإقليم كُردستان منذ عام 2005 إلى الآن، وعشرات من تلك الشَّركات صغيرة ومتوسِّطة، وقليل منها شركات “عملاقة”.

شركة “بيكر هيوز” الأميركيّة العاملة في مجال خدمات حقول النَّفط، أعلنت انسحابها من العمل في إقليم كُردستان العراق. وفتحت خطوة الشَّركة المذكورة الباب واسعاً أمام تكهُّنات وتوقّعات بانسحاب شركات عالميّة كبرى أمثال “هاليبرتون” و”شلمبرجر” الأميركيّتين، لتلحقا بشركة “هيوز”، بعد قرار وزارة النَّفط وضع الشَّركات النَّفطية العاملة في الإقليم التي لم تقطع علاقتها مع الإقليم ضمن (القائمة السَّوداء) وإنهاء تعاقداتها.

وكانت حكومة إقليم كُردستان، التي يُهيمن عليها الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ، قد انفردت في التَّعاقد مع الدّول والشَّرِكات الأجنبيّة لاستثمار النَّفط والغاز في جنوب كُردستان، وبمعزلٍ عن وزارة النَّفط الاتّحاديّة، موقِّعَةً عقوداً مع شركات نفط عالميّة كبرى، من بينها “إكسون موبيل” و”روسنفت” و”جينل”، لتطوير حقولها النَّفطيّة التي تَضُخُّ نحو /500/ ألف برميل يوميّاً.

علاقة الانسحاب بالتدخُّلات الإيرانيّة والتُّركيّة

تزامن قرار انسحاب الشَّركتين الأميركيّتين مع استقالة نوّاب الكتلة الصدريّة، ومع استئناف المفاوضات النَّوويّة غير المباشرة بين طهران وواشنطن في العاصمة القطريّة (الدوحة)، وكذلك زيارة مصطفى الكاظمي إلى كُلٍّ من السُّعودية وإيران، وكُلّ ذلك كان له دور في انسحاب تلك الشَّركات من جنوب كُردستان، كبادرة حسن نيّة أميركيّة تجاه حلفاء إيران في العراق، ليعكس رغبةً أمريكيّة في استئناف المفاوضات الأميركيّة – الإيرانيّة.

يقول بعض العراقيين إنَّ الموضوع لا علاقة له بالعلاقات بين أميركا وإيران، إنَّما هو وسيلة ضغط يمكن استثمارها سياسيّاً لتشكيل الحكومة العراقيّة المقبلة. والهاجس السِّياسيّ موجودٌ في القصف الإيرانيّ لحقول الغاز والنَّفط في إقليم كُردستان، وآخر قصف إيرانيّ كان على حقل “خورمار” الغازيّ، رُبَّما لغاية سياسيّة لمنع الإقليم من تصدير الغاز إلى تركيّا، خصوصاً أنَّ الأخيرة هي السّوق الرَّئيسة للغاز الإيرانيّ. ورُبَّما حتّى تدخل بمعارضة روسيّة لهذا الخطّ؛ لأنَّه رُبَّما يَمُرُّ عبر خطّ “نافوكو” الذي يعبر من تركيّا إلى أوروبا.

“مخالب تركيّا” للسَّيطرة المباشرة على الإقليم وموارده

أطلقت تركيّا فجر الاثنين 18 إبريل/ نيسان 2022، عمليّة ” قفل المخلب” لاحتلال المزيد من أراضي الإقليم في مناطق “متينا، زاب، آفاشين، وباسيان” شماليّ العراق. وهذه العمليّة هي استمرار لعمليّات سابقة مشابهة. ففي 23 إبريل/ نيسان 2021، أطلقت الدّولة التُّركيّة عمليّتي مخلب “البرق” و”الصاعقة” ضمن نفس الإطار.

وفي 16 يونيو/ حزيران 2020، أطلقت عمليّة ” مخلب النِّسر”.

هناك هدف آخر جديد لهذه العمليّة، وهي تأمين الممرِّ الجغرافيّ الذي ستمُرُّ فيه أنابيب نقل الغاز التي ستنفُّذها شركة “كار” للطاقة، عبر إبعاد تهديدات حزب العُمّال الكُردستانيّ عن هذا الممرِّ. يذكر إنَّ الشروع بهذا المشروع بين أنقرة وأربيل تَمَّ الاتِّفاق عليه منذ فترة، أي أنَّ القصف الإيرانيّ على أربيل واستهداف منزل رئيس شركة “كار” للطّاقة في أحد جوانبه هو رسالة إيرانيّة لتركيّا والإقليم للتَّراجع عن هذه الخطوة.

تركيّا تعمل منذ بداية الحرب الرّوسيّة – الأوكرانيّة على إيجاد بديل للغاز الرّوسيّ إلى أوروبا عبر تركيّا. وتَمَّ الاتِّفاق مع إسرائيل خلال زيارة الرَّئيس الإسرائيليّ إلى تركيّا في مارس/ آذار الماضي، على تفعيل اتّفاق سابق بين الدَّولتين؛ يتمثَّل في إقامة خطّ أنابيب تحت البَّحر من تركيّا إلى حقل “ليفياثان” أحد أكبر حقول الغاز الطبيعيّ في البحر المتوسِّط، ومن ثُمَّ ليتدفَّق الغاز إلى تركيّا وجيرانها في جنوب أوروبا الذين يبحثون عن بدائل للطّاقة، بعيداً عن روسيّا.

وكانت مصادر قد قالت لوكالة الأنباء العراقيّة (واع)، إنَّ شركة “شلمبرجر” الأميركيّة بعثت برسالة مع وثيقة رسميّة إلى وزارة النَّفط العراقيّة تتضمَّن التزامها بقرار المحكمة الاتّحاديّة رقم 59 الذي ينصّ على عدم التَّعامل مع إقليم كُردستان بخصوص النَّفط.

وكانت شركة “بيكر هيوز” الأميركيّة، العملاق العالميّ في مجال خدمات حقول النَّفط، أعلنت في وقت سابق انسحابها من إقليم كُردستان؛ تنفيذاً لقرار المحكمة الاتّحاديّة.

التّداعيات على السِّياسة الدّاخليّة العراقيّة وتشكيل الحكومة

 قرار الإقليم السّابق بعدم التزامه بقرار المحكمة الاتّحاديّة، القاضي بعدم شرعيّة تصدير حكومة الإقليم للنَّفط والغاز، وهو أمرٌ يجعل التيّار الصَّدري وتحالف “السِّيادة” في حرج كبير، وهما يدعوان إلى الإصلاح والعدالة في توزيع الموارد، ويفسح المجال أمام الأطراف الإقليميّة، وفي مقدِّمتها إيران، إلى توظيف هذا الموضوع بما يخدم نفوذها ومصالحها في العراق. إذ تفيد الأنباء التي وردت عن زيارة الوفد الإيرانيّ الأخيرة إلى أربيل بقيادة “حسن دانائي فر”، أنَّ إيران عرضت على الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ وحكومة الإقليم إلغاء قرار المحكمة الاتّحاديّة، مقابل إلغاء التَّحالف مع الكُتلة الصَّدريّة، وقد رفض الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ هذا العرض.

إيران، وفي ضوء التَّنافس الجيوسياسيّ مع تركيّا، وحرصاً على عدم تشكيل حكومة أغلبيّة وطنيّة، يمكن أن تُعيدَ المحاولة مَرَّةً أخرى وتحقِّقَ أهدافها.

على الرَّغم من سلامته القانونيّة؛ فقد تسبَّب الحكم بالفعل في إحداث صدمة بين مختلف الجهات الفاعلة التي تناور خلال فترة تشكيل الحكومة العراقيّة المتقلِّبة. يعتقد الحزب الدّيمقراطي الكُردستانيّ، الذي يُهيمن على صناعة وسياسة الطّاقة في حكومة إقليم كُردستان، أنَّ قرار مجلس الأمن الاتّحاديّ بشأن مسألة تَمَّ رفعها قبل عشر سنوات له دوافع سياسيّة، أي محاولة معاقبة الكُرد لانضمامهم إلى مقتدى الصدر، الذي يطمح لقيادة حكومة ذات أغلبيّة من شأنها تهميش منافسيه الشِّيعة الرّئيسيين. يقود هؤلاء المنافسين رئيس الوزراء السّابق نوري المالكي، وقد تحالفوا مع الميليشيّات الموالية لإيران التي تمنحهم نفوذاً كبيراً على ما يُسمّى بـ”الدّولة العميقة”، ناهيك عن طائرات الميليشيّات بدون طيّار التي استخدمت لمهاجمة حكومة إقليم كُردستان.

تهميش الدّيمقراطي الكُردستانيّ للاتّحاد الوطنيّ؛ أفسح المجال أمام بغداد لمعاقبة الإقليم

ومن المفارقات؛ أنَّ انسحاب شركات النَّفط أثار أيضاً شماتة ملحوظة داخل حكومة إقليم كُردستان، حيث أدرك السُكّان أنَّ ممارسات قادتهم النَّفطية المشكوك فيها كانت تُغذّي الفساد والمحسوبيّة أكثر من الوظائف والخدمات العامّة.

في غضون ذلك، لا يزال الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ منفصلاً عن شريكه القديم في حكومة إقليم كُردستان، الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ. وبدلاً من التوحُّد وإطلاق النّار مجدَّداً على صناعة الملوك في السِّياسة العراقيّة الممزَّقة؛ استخدم الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ تحالفه مع “الصدر” و”الحلبوسي” لتهميش الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ. وقبل أن يَصدم حكم مجلس الأمن الاتّحاديّ الكُرد؛ كان الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ منشغلاً في إنفاق رأس مال سياسيّ هائل لحرمان “برهم صالح”، أحد كبار الشَّخصيّات في الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ، من ولاية ثانية كرئيس. تخشى حكومة إقليم كُردستان الآن من حدوث المزيد من ردود الفعل السَّلبيّة من بغداد، بما في ذلك أوامر المحكمة التي تؤثِّر على سيطرتها على الحدود والممثّلين الأجانب.

الآثار المترتِّبة على الطّاقة

من المؤكَّد أنَّ صادرات النَّفط العراقيّة لن تتغيّر في أيِّ وقتٍ قريبٍ – لا تزال تركيّا تسمح لنفط الإقليم بالتدفُّق إلى الأسواق الدّوليّة. علاوةً على ذلك؛ فإنَّ شركات النَّفط التي لديها تكاليف باهظة وحصص كبيرة في حكومة إقليم كُردستان، مثل Genel Energy و DNO، ستبقى بالتَّأكيد في مكانها.

ومع ذلك؛ من المحتمل أن تشعر الشَّركات التي في طريقها للخروج (على سبيل المثال، Exxon) بالقرار، في حين أنَّ الشَّركات التي تضع قدماً في الباب (على سبيل المثال، Chevron) قد تكون متشكِّكة الآن بشأن زيادة الاستثمار. قد تتَّضح قريباً تأثيرات أخرى متداخلة، فالشَّركات التي لها حصَّة في كُلٍّ من العراق الفيدراليّ وحكومة إقليم كُردستان (مثل غازبروم وتوتال) قد تجد نفسها في وضع غير مستقرٍّ. قد يتوقّف “سيتي بنك” عن معالجة مدفوعات حكومة إقليم كُردستان لشركات النَّفط؛ وقد توقف مؤسَّسة تمويل التنمية الدّوليّة الأميركيّة استثمارات رأسماليّة في مشاريع الطّاقة العراقيّة، ومن المحتمل أن تجد بغداد وأربيل صعوبة أكبر في التَّعاون على تعزيز قطّاعات الغاز الطبيعيّ وزيادة توليد الطاقة، وفطم البلاد عن الإمدادات الإيرانيّة المبالغ فيها.

الضحيَّة المُحتمَلة الأخرى هي العلاقات العراقيّة التُّركيّة. لن تكون هناك صناعة نفط تابعة لحكومة إقليم كُردستان بدون رعاية تركيّة، فقد سمحت أنقرة للكُرد بتصدير النَّفط عبر خط الأنابيب العراقيّ التُّركيّ منذ عام 2014، حيث وصل إلى متوسّط ​​/430/ ألف برميل يوميّاً في عام 2021. وقد اتَّخذت بغداد أنقرة للتَّحكيم في هذه القضيّة في غرفة التِّجارة الدّوليّة، مُطالِبةً بتعويض قدره /24/ مليار دولار أمريكيّ، بعد سنوات من التَّأخير.

إلى أين ستسير الفيدراليّة النَّفطية؟

عند صياغة دستور العراق ما بعد صدّام حسين؛ كَرَّسَ واضعو المسوَّدة مبادئ فيدراليّة النَّفط، مع وضع هدفين رئيسيين في الاعتبار: تجنُّب عودة ظهور دكتاتوريّة مركزيّة أخرى، وضمان أنَّ الصناعة المُعيلة في البلاد تخدم المصلحة العامَّة وتَظَلُّ مسؤولة أمام الشَّعب. دعا الميثاق إلى قانون جديد للنَّفط والغاز يُكرِّسُ إدارة الهيدروكربونات المشتركة بين الحكومات الفيدراليّة والإقليميّة والمحلّيّة.

ومع ذلك؛ من النّاحية العمليّة، لا يزال لدى العراق صناعتان متشعّبتان للطّاقة، فقد عادت بغداد إلى عاداتها القديمة في المركزيّة، وأصبحت حكومة إقليم كُردستان شبه مستقلّة، بعد محاولة فاشلة لتحقيق الاستقلال الكامل، ولم يتَّخذ أيٌّ من الجانبين إجراءات جادَّة بشأن قانون النَّفط، واختارا بدلاً من ذلك صفقات المصافحة المؤقَّتة.

موقف الولايات المُتَّحِدة الأميركيّة

 ينظرُ المسؤولون الأمريكيّون إلى الخلاف القانونيّ حول إدارة النَّفط باعتباره مسألة داخليّة. كانت آخر مَرَّة توسَّطت فيها واشنطن بجدّيّة في صفقة نفط بين أربيل وبغداد عام 2008. كانت إدارة بايدن أكثر استثماراً في الحَدِّ من اعتماد البلاد على الغاز الإيرانيّ والممارسات الضارَّة بيئيّاً مثل حرق الدّيزل لتوليد الطّاقة والحرق.

واشنطن تَنصَحُ المسؤولين في أربيل وبغداد لإعادة التَّركيز على إيجاد حَلٍّ قانونيٍّ دائمٍ لخلافات إدارة الطّاقة الخاصّة بهما، مما يمنح الولايات المُتَّحدة فرصةً للعبِ دورٍ عميقٍ وبَنّاءٍ في ضمان استمرار تدفُّق النَّفط إلى الأسواق، وأن تتدفَّق العائدات إلى الشَّعب العراقيّ بدلاً من الميليشيّات والمسؤولين الفاسدين.

من النّاحية الواقعيّة؛ سيستغرق مثل هذا الحوار شهوراً أو سنوات لإصدار قانون جديد، لذلك في غضون ذلك، يجب على واشنطن حَثَّ بغداد وأربيل على طمأنة شركات النَّفط العالميّة والبنوك الأميركيّة التي لديها بَصمَةً كبيرة في العراق، لذلك قد تحتاج واشنطن إلى إعادة بناء الثِّقة بين أربيل وبغداد قبل كُلِّ شيء.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها

زر الذهاب إلى الأعلى