آراء وتحليلات

روسيا والدوران في الحلقة المفرغة.. المصالحة التركية – السورية نموذجا

جميل رشيد

المتتبّع لتطوّرات ما تُسمّى بالمصالحة التُّركيّة – السُّوريّة؛ يمكنه بسهولة فهم التعقيدات التي تَلُفُّ مسارها، وحجم الاعتراضات الدّاخليّة والخارجيّة التي تواجهها، ومنذ اللَّحظة اجتماع وزراء دفاع تركيّا، سوريّا وروسيّا ورؤساء أجهزة استخباراتهم في موسكو الشَّهر الماضي.

إنَّ مشهد ضرب رئيس ما يُسمّى “الإئتلاف” المدعو “سالم المسلط” في شوارع إعزاز في تظاهرة الجمعة الماضية، إنَّما تختصر في طيّاتها الكثير من الدّروس الواجب على الإئتلاف فهمها، والتي تُعبُّر فيما تُعبّر عن رفضٍ شعبيٍّ مطلقٍ لهذه المنصَّة، التي طالما ارتبط مصيرها بتركيّا وانفصلت عن سوريّتها، وهو دلالة رمزيّة على رفض سياسات الإئتلاف ومن ورائها حزب العدالة والتنمية، كمال قال أمجد عثمان المتحدّث باسم الإدارة الذّاتيّة.

نبض الشّارع المعارض لأيّ مصالحة بين تركيّا وسوريّا؛ مَرَدُّهُ حالة الإحباط المسيطرة على النّاس، وفقدانِها أيَّ بصيص أمل من أن تحقّق لهم تركيّا أيّاً من مطالبهم في العودة إلى منازلهم ومدنهم، وعدم إيلائها أيَّ أهميّة للظروف السيّئة التي يَمرّون بها، بعد أن باتوا ضحيّة للابتزاز التُّركيّ، وتنكيل وقمع ما تُسمّى المعارضة، بشقّيها العسكريّ والسِّياسيّ، على حَدٍّ سواء.

يُدرِكُ المواطن السُّوريّ البسيط في تلك المناطق أنَّ الغدر التُّركيّ بهم، والتفافها على مطالبهم مع المعارضة التّابعة لهم، وضعت مصيرهم على كَفِّ عفريتٍ. ومباركة ما يُسمّى رئيس “الحكومة المؤقَّتة” المدعو “عبد الرَّحمن مصطفى”، هي ترجمة مباشرة لتوجّهات حكومة أردوغان. فرغم أنَّ “مصطفى” نفى التَّصريحات التي أدلى بها لقناة تلفزيونيّة تركيّة، إلا أنَّ الرؤية العامّة وموقف جميع أطياف المعارضة المرتبطة بتركيّا، لا يمكنها أن تخالف أو تعارض السِّياسة التُّركيّة بأيِّ حالٍ من الأحوال.

حضور “سالم المسلط” إلى إعزاز، لم يكن للمشاركة في التَّظاهرات المعارِضة للمصالحة؛ بل جاء ليهدّئ الشّارع المنتفض في وجه الإئتلاف وتركيّا، محاولاً التستّر على فضائحهم، بعدما تحوَّل الإئتلاف إلى عبء كبير على كاهل السُّوريّين.

لا تتورّع تركيّا، وخاصَّةً أردوغان، عن الالتفاف على أصدقائها، والمساومة عليهم مع أيِّ طرف كان، طالما أنَّ مصلحتها تقتضي ذلك. فبعد أن ظهرت المواقف الرّافضة للمصالحة، بدءاً من الولايات المتّحدة الأمريكيّة ودول الاتّحاد الأوروبيّ، نوعاً ما، جاء الموقف العربيّ عبر مصر والسّعوديّة، اللتان أعلنتا ومن خلال موقفهما الرّافض لأيِّ عمليّة عسكريّة تركيّة على الأراضي السُّوريّ، أنَّها لا تؤيّد أيَّ مصالحة بين تركيّا وسوريّا، على الأقلّ في الظروف الرّاهنة، لتدلو إيران بدلوها أخيراً، وتُبطن ما لا تُعلنه، كما اعتادت عليها سياستها الخارجيّة الإيرانيّة. فحضور وزير خارجيّتها “اللَّهيان” إلى دمشق، إنَّما تنطوي على المتابعة الإيرانيّة الحثيثة لمسار اللقاءات بين المسؤولين الأتراك والسُّوريّين، فضلاً عن محاولاتها تجيير أيَّ مصالحة بين الطرفين لتخدم وجودها في سوريّا، وبما يحقَّق لها الدَّيمومة والاستمرار.

من جانبها روسيّا السّاعية إلى تقويض الوجود الأمريكيّ في سوريّا، وتستخدم تركيّا رأس حربة في صراعها مع الولايات المتّحدة، يبدو أنَّها لن تحقِّقَ أهدافها في إتمام هذه الصفقة، بل ستكون كسابقاتها، أستانا وسوتشي، التي مُنِيَتْ بالفشل. التدخّل الإيرانيّ في مسار المصالحة، ولو بشكل خفيّ غير ظاهر، رُبَّما ينبّئ بتغيير في اتّجاهات وأهداف المصالحة. فتصريح الرَّئيس السُّوريّ بأنَّ لا مصالحة دون قبول تركيّا بالشَّرط السُّوريّ الأوَّلي؛ ألا وهو الانسحاب من الأراضي السُّوريّة، إنَّما يُفيد بتلقّيه الدَّعم والمساندة من إيران، والذي ساهم في تأجيل موعد اللّقاء بين وزيرَي خارجيّة البلدين الذي كان من المقرَّر أن يُعقد الأربعاء الماضي في موسكو.

بدوره أعلن وزير الخارجيّة التُّركيّ مولود جاويش أوغلو بأنَّ موعد اللّقاء قد تَمَّ تأجيله إلى أوائل شهر فبراير/ شباط القادم، وهو يفيد بأنَّ منغِّصاتٍ واعتراضاتٍ عديدة كان لها الدَّور في تأجيله، وأوَّلُها الاعتراض السُّوريّ، حيث خَفَّت الضغوط الرّوسيّة على الحكومة السُّوريّة، نوعاً ما، بعد دخول إيران على مسار المصالحة، ولو بشكل غير مباشر.

من جانبها تعمل الولايات المتّحدة الأمريكيّة على حشد المواقف المعارضة للمصالحة، عبر ممارسة تأثيرها على بعض الدّول العربيّة، كما أنَّ زيارة جاويش أوغلو المُقرَّرة إلى واشنطن في 17 الجاري، سوف تضع النِّقاط على الحروف من جانب الولايات المتّحدة، ويبدو أنَّها تعمل في اتّجاه إفشال هذه المصالحة، وحرمان الرَّئيس الرّوسيّ والتُّركيّ من كسب ورقة رابحة لهما في أوكرانيا وسوريّا. وعلى ضوء هذه الزّيارة؛ يُتوقَّع أن تُبدي تركيّا مقاربة مختلفة من مسألة المصالحة برُمَّتها.

فبعد أن هدَّدَت الولايات المتّحدة تركيّا من مَغبَّةِ أيَّ معارضة لانضمام السُّويد وفنلندا إلى حلف “النّاتو”، وربطت حصول تركيّا على قطع غيار طائرات الـ(إف – 16) بموافقتها على انضمام الدَّولتين، وهذه كانت صفعة إضافيّة تلقَّتها تركيّا، ومن حيث لا تدري، لتُضاف إلى جملة العقوبات المفروضة عليها.

تُدرِكُ الولايات المتَّحدة أنَّ إحداث أيَّ تغيير جيوسياسيٍّ في منطقة الشَّرق الأوسط خارج التَّرتيبات التي وضعتها، وغير المنسجمة مع مصالحها، لا تَقبل بها بأيِّ شكل من الأشكال، فهي قد حدَّدَت شروطاً واضحة لإجراء أَّ مصالحة مع الحكومة السُّوريّة، وربطتها بالقرارات الدّوليّة، ورفض أيّ صفقاتٍ منفرِدةٍ.

المناورة الرّوسيّة في عقد هذه الصفقة؛ تأتي كنوع من الالتفاف على القرارات الدّوليّة الخاصَّةِ بحَلِّ الأزمة السُّوريّة، فروسيّا تبحث عن ثغرة يمكن لها أن تعوّضها خساراتها المدويّة في أوكرانيا، فبالإضافة إلى رِهانها على الدَّور التُّركيّ في سوريّا، ومحاولة جذب تركيّا واستقطابها إلى مشروعها الأوراسيّ، فضلاً عن سعيها لإبعاد تركيّا عن حلف “النّاتو”، وهو الموضوع الذي بات يُناقش في أروقة الحلف وبعض الدَّوائر الغربيّة، إلا أنَّ الأهمَّ من كُلِّ ذلك هو محاولة بوتين إنقاذ نفسه من المستنقع الأوكرانيّ بمساعدة تركيّا، عبر إضعاف التَّحالف الغربيّ المُضاد له، وتُمثِّلُ سوريّا السّاحة والمعترك الرَّئيسي والهام له.

بدورها الإدارة الذّاتيّة أبدت موقفاً واضحاً من عمليّة المصالحة، وَدَعَتْ السُّوريّين إلى إسقاطه، لأنَّ شروط أيّ مصالحة فعليّة متوازنة لم تكتمل بعد، بل هي أقرب إلى صفقة، ولن تجد لها أيّ معنى لدى السُّوريّين، في ظِلِّ استمرار تركيّا احتلال مناطق شاسعة من الأراضي السُّوريّة، والتَّلويح بشَنِّ عدوانٍ جديدٍ. فإن كانت تركيّا جادَّةً في عملية المصالحة؛ يُفترض بها أن تُوقف كُلّ اعتداءاتها على الأراضي السُّوريّة، وتُنهي احتلالها لها، دون قيدٍ أو شرطٍ، وتبدأ بسحب قوّاتها الغازية من جميع المناطق السُّوريّة، وتَكُفَّ عن دعم المرتزقة التّابعين لها، على أن تعود دولة جارَّةً مسالمة، عوضاً من تهديدها لأمن وسلامة سوريّا وأهلها.

إنَّ تصريح نائب رئيس حزب العدالة والتنمية “ياسين آكتاي” بأنَّ مشاكل تركيّا لن تنتهي إلا بالسَّيطرة على حلب وتوطين جميع اللّاجئين السّوريّين على أراضيها فيها؛ إنَّما تُفصح بشكل جليٍّ عن نوايا أردوغان وحزبه من عمليّة المصالحة، وهي بالتّالي نقطة انطلاق له لضمان الفوز في الانتخابات القادمة.

تركيّا وأردوغان في وضع لا تُحسد عليه، فبعد الرَّفض الأمريكيّ الواضح لعمليّة المصالحة، وكذلك العربيّ عبر البيان المصريّ – السُّعوديّ المشترك، ودخول إيران إلى جانب الحكومة السُّوريّة، وتقوية شروط تفاوضها مع تركيّا؛ جاءت معارضة حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة في رفض أيِّ لقاءٍ مع مسؤولي حزب العدالة والتنمية، لتُشَكِّلَ المسمار الأخير في نعش نظام أردوغان الدّيكتاتوريّ المتداعي، ومعه ما تُسمّى المعارضة السُّوريّة التّابعة له.

اتّساعُ جبهة المعارضة للمصالحة رُبَّما تتوسَّع خلال الأيّام القادمة؛ وستُلقي بظلالها على أيّ لقاءات تُعقد لاحقاً بين مسؤولي الطرفين، بل ستساهم في تقوية أوراق تفاوض الحكومة السُّوريّة مع الجانب الآخر، كما أنَّها ستُضعف الاندفاعة الرّوسيّة في إنجاز المصالحة في وقتٍ قصيرٍ.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..

زر الذهاب إلى الأعلى