آراء وتحليلات

“التّنف”.. الإطلالة الأمريكية الوحيدة من الجنوب

أيمن الشّوفي | مجهر

تُفضِّلُ الولايات المتّحدة الأمريكيّة الحدودَ السُّوريّة دوماً، ومن هناك استطاعت تدوين حضورها عبر قواعدَ عسكريّة عديدة أنشأتها، مثل التي في تل بيدر والشدّادي والمالكيّة ورميلان وخراب عشق، وكُلُّها على الحدود الشِّماليّة، وأيضاً قاعدتها الوحيدة، ورُبَّما الأهمّ، على الحدود الجنوبيّة في منطقة التَّنف.

تحرص الولايات المتّحدة أيضاً على استحضار الجانب الرَّمزيّ من تواجدها العسكريّ الحدوديّ ذاك، إذ توحي بأنَّها تقف على الباب طيلة الوقت، وبمقدورها الدُّخول متى شاءت، والنِّظام السُّوريّ وحلفاءه يفهمون ذلك جيّداً، ويدارونه قدر المستطاع، ويكتفون بوصف التَّواجد العسكريّ الأمريكيّ بأنَّه تواجدٌ لـ”جيش احتلال”، يدبّجون هذا التَّوصيف بكثيرٍ من مفردات الاستعطاف السِّياسيّ في المحافل الدّوليّة خلال جولات دبلوماسيّتهم الفاشلة غالب الأمر.

التَّنف مخيَّمٌ وفصيلٌ معارضٌ

اختارت الولايات المتّحدة الأمريكيّة عام 2016 منطقة التَّنف عند تقاطع الحدود السُّوريّة مع العراق والأردنّ، لتُشَيّد فيها قاعدتها العسكريّة الوحيدة في الجنوب السُّوريّ، بحيث تَجلَّت مَهمَّة قاعدة التّنف الأساسيّة من النّاحية اللّوجستيّة في تقديم الدَّعم للتَّحالف الدّوليّ أثناء مواجهاته المضنية مع تنظيم الدّولة الإسلاميّة، ثُمَّ أضيفت لتلك المهمَّة مهامٌ أخرى كالحدِّ من النُّفوذ الإيرانيّ وتوابعه الميليشياويّة داخل سوريّا، ومراقبة ورصد الحدود بهدف لجم نموّ عمليّات تهريب المخدِّرات والأسلحة في تلك المنطقة.

تُطِلُّ الولايات المتَّحدة على الجنوب السّوريّ إذاً من تلك القاعدة، والتي تحصي تواجد نحو مئتي جنديٍّ أمريكيٍّ، بالإضافة إلى امتلاكها راجمات صواريخ متطوّرة من طراز “هايمارس”، وطائرات مُسيَّرة عن بعد تستخدمها عند الضرورة. لكن وبعد تمكّن التَّحالف الدّوليّ من “داعش”؛ اضطَّلعت قاعدة التَّنف العسكريّة بمهام جديدة، منها، وأبرزها، كان احتضان وتدريب فصيل ما يُعرف باسم “جيش مغاوير الثَّورة” والذي تجاوز عدد المنتسبين إليه 300 مقاتل، وأغلب مكوِّناته كانت تنحدر أصلاً من منطقة دير الزور السّوريّة، وكلّفته واشنطن بحماية المنطقة من سطوة تهريب المخدِّرات والأسلحة التي يمارسها الوجود الإيرانيّ بشَهِيَّةٍ لا تنقطع في أغلب المساحة السّوريّة.

كما حظِيَ مخيّم “الرُّكبان” للّاجئين السّوريين القريب من القاعدة بحصّةٍ من الحماية والأمان النَّفسي في مقارعة خصومة الأيّام التي تنال دائماً من نازحي الخيام، وترمي كاهلهم بصنوفٍ شتّى من الإرهاق، علماً بأنَّ تعداد اللّاجئين في ذاك المُخيّم تقلّص بمرور الوقت من 50 ألف لاجئ، إلى قرابة 10 آلاف لاجئ في الوقت الحالي.

الدّائرة التي جذبت صراعاً إليها

ظهرت المنطقة العازلة، وهي دائرة نصف قطرها 55 كيلو متراً، ومركزها قاعدة التَّنف العسكريّة، بموجب صيغة تفاهمٍ أمريكيّة – روسيّة في العام ذاته الذي تأسَّست فيه، ومع ذلك لم تهنأ التَّنف بالهدوء الذي افترضت أن تجذبَه إليها صيغةُ التَّفاهم تلك، إذ بقيت القاعدة ومحيطها الحيويّ على تماسٍ مباشرٍ مع الخصومة الإستراتيجيّة لقوى الأمر الواقع التي تمسك بالأرض السّوريّة وبقرار نظامها السِّياسيّ، أي روسيّا وإيران وما يتبع لهما من تشكيلات رديفة.

مرّات عديدة تلقّت قاعدة التَّنف العسكريّة هجمات متفاوتة الشِدَّة من الرّوس والإيرانيّين ومن النِّظام السّوريّ نفسه، ووجهة تلك الهجمات كانت دوماً جيش “مغاوير الثَّورة”، الفصيل المعارض المُسلَّح الذي يزعج وجوده ودعمه من الأمريكان نظامَ دمشق وحلفاءه، وآخر تلك الهجمات حدثت خلال شهر يونيو/ حزيران من العام الحالي، ونفَّذتها مقاتلتا سوخوي روسيّتان. طبعاً الرّوس تجنّبوا إصابة أهداف أمريكيّة مباشرة ضمن القاعدة، ولم يقترب قصفهم ذاك من أيّ جنديٍّ أمريكيٍّ، أرادوا مجدَّداً صفع جيش “مغاوير الثَّورة”، وتحجيمه، وإبلاغ واشنطن بصورة غير مباشرة أنَّ الرّوس وإن شغلتهم حربهم على أوكرانيا، إلا أنَّ وجودهم الدّاعم لنظام بشّارٍ باقٍ، وهذا الهجوم لم يُثِرْ حفيظة إدارة بايدن، بل بقيت دبلوماسيّةُ إدارته هادئةً غير مستفَزَّة، وفق فرضيّة أنَّ أمريكا تقف على الباب، قواعدها العسكريّة الحدوديّة في سوريّا هي الباب، وبمقدورها الدّخول متى شاءت، وفي الوقت الذي تختار، ولعلَّ في هذه الفرضيّة الجيوسياسيّة معنى إستراتيجيّ عميق تدركه دمشق وموسكو وطهران، ويحسبون له كُلَّ الحساب.

ثُمَّ أنَّ قاعدة التَّنف العسكريّة لم تكتفِ بالتنغيص على تهريب السِّلاح والمخدّرات الذي تُديرهُ إيران وميليشيّاتها على الطريق الدّوليّ السَّريع بين دمشق وبغداد، والذي يقع ضمن المدى المُجدي لعمل القاعدة الأمريكيّة؛ بل نسجت خلال العام الماضي تحالفاً جديداً مع حزب اللّواء السّوريّ، وجناحه العسكريّ قوّة مكافحة الإرهاب في السّويداء، المحافظة القريبة من القاعدة ومن التَّحالف الدّوليّ لمكافحة الإرهاب، وتمكَّنت قوّة مكافحة الإرهاب أواخر شهر فبراير/ شباط من العام الحالي من تسليم “جودت حمزة” أحد عملاء “حزب الله” في السّويداء إلى جيش “مغاوير الثّورة” في قاعدة التَّنف العسكريّة.

تُجاهِرُ قاعدة التَّنف العسكريّة إذاً بإنتاجها لفرضيّة التَّوازن الإستراتيجيّ، وتدوين هذا التَّوازن على الأرض التي ترعاها روسيّا وإيران بما تمثّلان من حسابات سياسيّة وبراغماتيّة مختلفة عن الحسابات الأمريكيّة، فلا تريد الإدارة الأمريكيّة منذ أوباما، مروراً بترامب، ووصولاً إلى بايدن المصادقة كلّيّاً على تمكين أحد الأطراف المحلّيّين أو الدّوليّين، وإطلاق يده بالكامل في الشَّأن السّوريّ، فهي بالإضافة إلى قواعدها العسكريّة على الحدود السّوريّة تملك موقفاً وازناً في مباحثات الحَلِّ السِّياسيّ، وإن لا تزال مُتعثِّرة، غير أنَّ قاعدة التَّنف تبدو الباب الأكثر إغراءً لواشنطن إن قرَّرت العبور، وهي قد تفعل متى نضج الظرف الموضوعيّ المواتي، وهذا الإنضاج مَهمَّةٌ تولّاها النِّظام السّوريّ، ويُحقِّقُ نجاحات متتاليةً ومُبهِرةً، في أغلبِ الأحيانِ.

الآراء المنشورة في المنصة تعبّر عن وجهة نظر كتّابها

زر الذهاب إلى الأعلى