آراء وتحليلات

الناتو الشرق أوسطي.. بين الوهم والحقيقة

محمد عيسى | مجهر

حلفٌ إقليميٌّ شرق أوسطيّ ﻻ يَضُمُّ أيّاً من تركيّا أو إيران، هو ما تجري حوله أحاديث الإعلاميّين وما تتداوله الأوساط السِّياسيّة في كُلٍّ من واشنطن وتل أبيب عن النيَّةِ في إنشائه أو البحث فيه، عشيّة زيارة الرَّئيس الأمريكيّ بايدن للمنطقة، والتي بدأها مُستهّلاً جولته بزيارة إسرائيل، ولتشمل أراضي السُّلطة الفلسطينيّة في رام الله، وتستكمل في السُّعوديّة، حيث تُعقد في الرِّياض قِمَّةُ مجلس التَّعاون الخليجيّ، ويَنضَمُّ إليها كُلٌّ من قادة مصر والأردنِّ. حلف جديد كان الرَّئيس الأمريكيّ قد أوحى إليه في مقال نشره بتاريخ التّاسع من الشَّهر الحالي في صحيفة “واشنطن بوست”، يقول فيه “ستكون الزِّيارة حاسمة بالنِّسبة للأمن القوميّ الأمريكيّ، ولضرورة التفوّقِ على الصِّين من خلال المنافسة معها”.

سَمَكَةٌ يريد بايدن نزعها من فَمِ الصِّين، من بين مَهامٍ عديدةٍ يأتي على رأسها ملفُّ الإرهاب ومشاكل الطّاقة والتَّطبيع مع إسرائيل، بالإضافة إلى ملفِّ إيران النَّوويّ، ستكون على أجندة مواضيع البحث. ولا بُدَّ أنَّها ستشكِّل الهواجس الأساسيّة التي على الحلف – إن كُتِبَ له أن يولد – أن يضطَّلِعَ بها أو يعمل من وجهة النَّظر الأمريكيّة على مواجهتها.

ولا شَكَّ بأنَّ الرّؤية الأمريكيّة هذه لم تكن لتحصل بمعزل عن جَوِّ الحرب الرُّوسيّة – الأوكرانيّة والتطوّرات والتحدّيات التي أفرزتها على السِّلمِ والاستقرار العالميّ. ما استدعى إعادة ترتيب الأوراق وتنظيم الأولويّات لدى ساسَة جميع الدّول المتأثِّرة بمفاعيل الصِّراع، أو السّاعية لتوظيفه والاستفادة منه في تعزيز مواقعها في الاقتصاد العالميّ، وبالتّالي زيادة نفوذها في السِّياسة العالميّة، أو درء المخاطر عنها ووقف ارتداداتها على مصالحها ريثما تنجلي أو تضع هذه الحرب أوزارها.

وفي السِّياق؛ ومن جَوِّ المعطيات ذاتها، وكما هو الحاصل في المنعطفات الكبرى؛ تسعى بعض الدّول الصَّغيرة نسبيّاً؛ بالتطفُّلِ على الصِّراع والاستفادة ممّا يُشيعهُ من معادلات مستجِدَّةٍ، فتنفذ من خلال بعض الصّدوع النّاشئة أو تتوفَّر لها ظروف لرفع سعر مقايضاتها، أو لتمرير مشاريعها وتحقيق مآربها، ومثل ذلك هو ما بات يحصل في الحالة التُّركيّة والإيرانيّة، على قَدَمِ المساواة.

ولا تخرج الحالة الإسرائيليّة أو تَشُذُّ عن هذا التّوصيف كثيراً، فإسرائيل التي نجحت في فرض نفسها كقوَّةٍ عسكريّة وتقنيّة رئيسيّة في الإقليم؛ تَجِدُ نفسها وهي تستضيف الرِّئاسة الأمريكيّة، وهي المُرَشَّحة أو المطبخ الذي تجري على موقده طَبخة الحلف آنِفِ الذِّكر. تجد إسرائيل نفسها أنَّها تُعايِشُ وضعاً قلِقاً وأزمة وجود قلَّما تكرَّرت في حياة الدّول. فرغم أنَّها دولةُ عضوٍ متَّفق عليه في النّادي النَّوويّ العالميّ، وقد نجحت في فرض نفسها – وإلى حَدٍّ كبير – كعضو شبه “شقيقٍ” في منظومة الدّول والحكومات العربيّة، وكما يُسجَّلُ بعد بدء دورة الرَّبيع العربيّ وما لحق بالمزاج العام من تشوّهات، تراجعاً لافتاً في انشغال الرَّأي العام العربيّ في مواجهة مخاطرها. إسرائيل التي روَّضت الحالة العربيّة؛ تضعها مشاريع الدّول الإقليميّة في موقع سَلَّةِ المهملات أو شَمّاعةِ الانتصارات ومنطقة الفتوحات الكبرى للطامحين في إحياء عصر الخلافة والفتوحات في أنقرة أو طهران.

وأيّاً تكن الظروف التي ينشأ في رحمها “النّاتو العربيّ” أو “الشَّرق أوسطيّ” المنتظر؛ فلا مَناصَ من أنَّه سيكون حدثاً ستأخذنا الذَّاكرة من خلاله إلى خمسينات القرن الماضي حيث الموعد الذي ولد فيه “حلف بغداد” كفرعٍ متجذِّرٍ مع حلف الأطلسيّ نفسه، وليحمل نفس المهام والأهداف. حلفٌ كانت قد دعت إليه الولايات المُتَّحدة واشتركت به ورَعَتْهُ المملكة المُتَّحدة، وقد ضَمَّ بالإضافة إليهما كُلّاً من تركيّا والعراق نوري السَّعيد، وليصل إلى باكستان. وكان من مهامه الرَّئيسيّة إجهاض المَدِّ اليساريّ بعد ثورة يوليو/ تمّوز عام 1952 في مصر ومجيء عبد النّاصر وقطع الطَّريق على الصُّعود الشّيوعيّ الذي بدأ يتنامى في الأوساط العُمّاليّة والشَّعبيّة في كُلٍّ من سوريّا والعراق. ومع سقوطه عربيّاً بعد سقوط المَلكيّة بالعراق في 14 يوليو/ تمّوز من عام 1958على يد عبد الكريم قاسم؛ تغيَّرَ اسم الحلف ليصبح “مُنظَّمة معاهدة الدّول المركزيّة”.

إزاء ذلك؛ فإنَّ الموضوعيّة تستدعي القول بأنَّ الحلفَ، وإن انهزمَ على المسرح العربيّ من حيث الشَّكلِ وخرج اسم الدّول العربيّة من قائمة الدّول المنضوية فيه بعد خروج العراق؛ إلا أنَّه قد انتصر مصمِّمو الحلف بتحقيق أهدافهم بوسائل أخرى. ومن نافل القول إنَّ حركة التحرُّر العربيّة، ببعديها الوطنيّ والاجتماعيّ، وبكُلِّ أسفٍ، فقد سجَّلت هزيمةً ماحِقَةً بعد ذلك.

أمّا عن الفُرَصِ المُتاحة اليوم لحلفِ المنطقة العربيّة وإسرائيل في النَّجاح والاستمرار في تحقيق أهداف السّاعين إلى تشييده؛ فلا شَكَّ بأنَّها فرص جدّيّة، ولا يجب أن يغيبَ عن البال أنَّ ولوج دولٍ تمتلك طاقةً بشريّةً، وبالتّالي عسكريّة كمصر، بالتّوازي مع الإمكانيّات الاقتصاديّة التي سيوفِّرُها القطبُ الخليجيُّ ممثَّلاً بالطرف السُّعوديّ، الذي إذا تكامل مع العامل الإسرائيليّ بميّزاته العلميّة والعسكريّة المتفوِّقة؛ ستتيح الظروف ثالوثاً نادراً من شروط القوّة، ولن يَحبُوَ طويلاً؛ بل قد يَعدو بسرعة فائقة.

بعد كُلِّ ذلك؛ يبقى السّؤال الأهمّ الذي يتوجَّب على البحث أن يُجيبَ عليه: ما تأثير حلف من هذا النَّوع، في حال حالفه الحظُّ في الولادة، على المشهد السُّوري، وانعكاسه على تطوّرات الحَلِّ في الأزمة السُّوريّة، التي باتت رهناً بمفاعيل العوامل الخارجيّة، وساحةً مستباحَةً من قبل الدّول المتنافسة والمتدخلة وحتّى المُحتَرِبة في الأزمة. وعليه فسيكون عندها، وفي حدود المعطيات المتوفِّرة والقراءات الصَّحيحة والواقعيّة للصِّراع على المنطقة وفيها؛ أنَّ التأثير سيكون كبيراً، والاحتراب سيكون شديداً، والنتائج ستكون محكومة بما ستفرزه موازين القوى.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها

زر الذهاب إلى الأعلى