آراء وتحليلات

في خفايا المشهد الانتخابي التركي

جميل رشيد

كشفت الانتخابات التُّركيّة عن عمق الفجوة السِّياسيّة وضعف الثَّقافة الانتخابيّة لدى المواطن التُّركيّ، رغم الإقبال المرتفع عليها، وبالتالي وقوعه– أي المواطن التُّركيّ – أسيراً للديماغوجيا والتعبَويّة الشَّعبويّة، ومن كلا الطرفين المتنافسين، تحالف “الجمهور” الحاكم بقيادة حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القوميّة، وتحالف “الأمّة” السُّداسي.

حالة التّشويش الإعلاميّ التي رافقت عملية الاقتراع، أدخلت المواطن التُّركيّ في مَتاهاتٍ، لم يعد معها قادراً على الإدلاء بصوته بحُرّيّة، إضافة إلى حالة التَّرهيب التي شهدتها عدد من الدّوائر الانتخابيّة، ما حدا ببعض المراقبين الأجنبيّين القادمين من أوروبا، إلى التَّشكيك بنزاهة الانتخابات، واتّهام أردوغان وحزبه بتسخير مؤسَّسات الدَّولة صالحه، حتّى أنَّ وسائل الإعلام غَطَّت حملته الانتخابيّة، مقابل تجاهل حملة منافسه كمال كليجدار أوغلو، وشوَّشت على الرَّأي العام نتائج الانتخابات، عبر ادعائه فوز أردوغان، لتضطر معها المفوضيّة العليا للانتخابات إلى تفنيد أكاذيبها عِدَّةَ مّرّاتٍ.

حالة الانقسام والتخبُّط السِّياسيّ في تركيّا تَجلَّت أمام صناديق الانتخاب بشكل لا ريبَ فيها، وعكستها النتائج. فرغم البروباغاندا المُكثَّفة لأردوغان وحزبه، إضافة إلى كافَّة التيّارات الإسلامويّة المتحالفة معه، مثل “HUDA – PAR”،  واستخدامه الدّين سلاحاً نافذاً وقويّاً له، إلا أنَّ النتائج لم تأتِ وفق توقُّعاته، ولم يتمكَّن من حسم النتيجة لصالحه والفوز بمنصب رئاسة الجمهوريّة، وللمرَّة الثّالثة، وعدد الأصوات التي حصل عليها هذه المَرَّة، جاءت أقلّ منها في عام 2018، وكذلك الحال بالنّسبة للانتخابات البرلمانيّة، حيث لم يحصل، هو وتحالفه، على الأغلبيّة المُطلقة التي تُخوّله لتشكيل حكومة بمفرده، ما يشير إلى أنَّه مضطَرٌّ للتَّحالف مع إحدى الأحزاب أو الكتل البرلمانيّة لتشكيل حكومة ائتلافيّة، وهو ما لا يَصُبُّ في مصلحته، الأمر الذي قد يدفع باتجاه إجراء انتخابات مُبكّرة.

غير أنَّ اللّافت في هذه الانتخابات أنَّ حزب اليسار الأخضر، وكذلك حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة الذي شارك في الانتخابات باسم “اليسار الأخضر”، سَجَّلَ تراجعاً في عدد الأصوات التي نالها، بمقدار مليون صوت، أي حصوله على نحو سِتّةِ ملايين صوت، وتمكَّن من إيصال /63/ عضواً له إلى البرلمان نصفهم من النّساء. وحصوله على ما نسبته /8.7/ من نسبة الأصوات في تركيّا، في حين حصل في الانتخابات الماضية على نسبة /10.5/ أي نحو سبعة ملايين صوت على مستوى تركيّا.

لا شَكَّ أنَّ الحملة القمعيّة التي شَنَّها أردوغان على حزب الشُّعوب واعتقال معظم قياداته، أثَّرَ في حراكه السِّياسيّ وقَيَّدَ حُرّيّة عمله، إلى أنَّ تأخُّرُهُ في طرح خياراته للمشاركة في الانتخابات ومن ثُمَّ إقرار المشاركة باسم حزب “اليسار الأخضر”، دفع بناخبه ليدخل في حالة من الضياع وفقدان البوصلة، كما أنَّ وقوفه إلى جانب مرشَّح تحالف “الأمَّة” كمال كليجدار أوغلو دفعبالكثير من ناخبيه للتصويت لصالح مرشَّحي تحالف كليجدار أوغلو في الانتخابات البرلمانيّة أيضاً. ورغم نيله العدد الأكبر من الأصوات في المحافظات الكُرديّة، إلا أنَّ إحجام العديد من النّاخبين الآخرين عن التَّصويت لمرشَّحيه، مَرَدُّهُ ضعف الدّعاية الانتخابيّة وعدم تمكّنه من الإفلات من الحدود التي وضعها له أردوغان في ممارسة السِّياسة، أضف إلى ذلك بُعدَهُ عن القضيّة الكُرديّة والهَمِّ الكُرديّ، والغرق في التُّركيّاتية المُفرطة، ما دفع العديد من النّاخبين للابتعاد عنه وعدم قناعتهم بتمثيله لمطالبهم وحقوقهم الكُرديّة.

من جانب آخر صعود الكتلة القومويّة التُّركيّة داخل تحالفي “الأمَّة” و”الجمهور” مؤشِّرٌ خطيرٌ على تصاعد النَّزعة القومويّة التُّركيّة لدى فئات واسعة من المجتمع التُّركيّ، وهو ما راهنَ عليه كلا الطرفين. فلقد لعب أردوغان على الوترين القومويّ والدّينيّ في استقطاب شرائحَ عديدة من المجتمع التُّركيّ، رغم أنَّه فشل في إضعاف خصمه عبر توجيه تُهمَة العلمانيّة والعلويّة له. إلا أنَّه،وقُبيلَ الانتخابات، تمكَّنَ من جذب القومويّين الأتراك حوله، عبر اتّهام حزب الشَّعب الجمهوريّ وزعيمه بعلاقاته مع حزب العُمّال الكُردستانيّ، ليُسعِّرَ من مشاعر العداء للكُرد داخل تركيّا وخارجها، وهي كذبة فنَّدها العضو القياديّ في حزب العُمّال الكُردستانيّ “دوران كالكان”، عندما قال “إنْ كانَ اللّقاء مع حركتنا تُهمَةُ، فإنَّ أكثر من التقى بنا وفاوَضَنا هو أردوغان وحزبه”.

ورغم الوعود المعسولة التي أطلقها أردوغان بتحسين الواقع المعيشيّ، حيث أصدر قراراً قبل الانتخابات بيوم، يَنُصُّ على زيادة الرَّواتب، وكذلك تغنّىبـ”إنجازاته” في تدشين محطّة “أكويو” النَّوويّة ومعمل السيّارات، إلا أنَّها لم تفلح في منحه الفوز.

لكنَّ المدهش في سياق الانتخابات أنَّ أردوغان حصد أكثر الأصوات في المناطق التي تعرَّضت للزلزال، وكذلك في أرياف الأناضول وليس في المدن الكبرى، وهذا ما يؤكِّد على استخدامه الدّين سلاحاً في خداع تلك الفئات، وتمكّنه الإفلات من المسؤوليّة والمحاسبة لما آلت إليه الأوضاع بعد الزلزال وقبله.

غير أنَّ كليجدار أوغلو أيضاً لم يطرح برنامجاًمتقدّماً على أردوغان، ليمكّنه بالدَّرجة الأولى من إقناع الشَّعب الكُرديّ بالتَّصويت له، فجميع الكرد يدركون جيّداً أنَّه سليل ثقافة الأتاتوركيّة ويُدينُلها حتّى العظم، وهو الأشَدُّ عداءً للكُرد والقضيّة الكُرديّة، واختيار حزب اليسار الأخضر التَّصويت له في الانتخابات الرِّئاسيّة، جاء مرغماً، وكَمن يختار سيّئاً بين اثنين كُلُّ واحد منهما أسوأ من الآخر. القناعة التي تَشكَّلت لدى الكُرد وحزب اليسار أنَّ سقوط أردوغان رُبَّما يُمهّد لدحر الدِّيكتاتوريّة والانتقال من النِّظام الرِّئاسيّ المُطلق الصلاحيّات إلى النِّظام البرلمانيّ التَعدُّديّ، وبالإمكان أن يحمل معه تطوّرات على الصعيد الدّاخليّ وتغيير الدّستور ونيل الكُرد جزءاً من حقوقهم.

كما أنَّ التَّحالفات الأخرى لم يكن لها وزنٌ انتخابيٌّ يُشهد لها، رغم تبجُّحِ البعض بأنَّه يُمثّل بيضَةَ القبّان في التوازنات الانتخابيّة. فالمرشَّح الثّالث لانتخابات الرِّئاسة “سنان أوغان” لم يحصد سوى 5% من نسبة الأصوات، ما يعني إبعاده من السِّباق الانتخابيّ بعد الانتقال إلى الجولة الثّانية.

إنَّ البازار الانتخابيّ في تركيّا لازال على أشُدّه، خاصَّةً من قبل “أوغان” الذي هدَّدَ كلا الطرفين، أردوغان وكليجدار أوغلو، بأنَّه لن يمنح أصوات ناخبيه لأيٍّ منهما “دون ثمن”، وطالب الاثنين بالابتعاد عن الحركات الإرهابيّة، حسب وصفه، حيث دعا أردوغان لنبذ حزب “HUDA – PAR” من تحالفه، وكذلك طالب كليجدار أوغلو بقطع علاقاته مع حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة، إضافة إلى اشتراطه بأن يكون نائب الرَّئيس من حزبه، وتعيين عدد من الوزراء منه أيضاً. هذه الشُّروط التَّعجيزيّة لن يَرُدَّ عليها أحد، لكنَّه سيحاول أن يؤثِّرَ في المزاج الشَّعبيّ عبر تحالفه مع عِدَّةِ أحزابٍ قوميّة يمينيّة مُتطرّفة، حتّى أنَّه سيسعى إلى تفكيك التَّحالف السُّداسيّ الذي حزب كليجدار أوغلو جزء منه، عبر اللَّعب على الوتر القوميّ، خاصَّةً أنَّه وزعيمة حزب “الخيّر” ميرال أكشينار قد انشقّا من حزب الحركة القوميّة الفاشي، فهو يراهن على المساومة بالورقة القوميّة ضُدَّ الطرفين.

لكن السّائد والمؤكَّد في الأوساط السِّياسيّة التُّركيّة والكُرديّة، أنَّه وبعد انتقال الانتخابات إلى الجولة الثانية التي ستُجرى في 28 الشَّهر الجاري، فإنَّ حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة، وبما يحمله من ثقل وازن في السِّياسة التُّركيّة، سيغدو لأصوات ناخبيه كلمة الفصل في تحديد الرَّئيس المُقبل لتركيّا، فقد عُرِفَ عنه سابقاً بأنَّه “صانع الملوك”، وأردوغان يُدرك هذه الحقيقة جيّداً، وسيحاول خلال هذه الفترة التأثير على القواعد الشَّعبيّة لحزب الشُّعوب، عبر نعته بشتّى الصفات الإرهابيّة، إلى جانب شَنِّ حملات اعتقال ضُدَّ عناصره الفاعلين والقياديّين، ورفع سويّة لغة الخطاب القومويّالتُّركيّ العنصريّ ضُدَّ الكُرد.

لم يصدر عن القوى الدّوليّة أيُّ رَدُّ فعلٍ على الانتخابات، سوى تصريح مقتَضب من الرَّئيس الأمريكيّ بايدن، قال فيه بأنَّه “سيتعامل مع الرَّئيس التُّركيّ المُقبل، بغَضِّ النَّظر من يكون”، وكأنَّه يُقرأ من بين سطور هذا التَّصريح أنَّه متأكِّدٌ من سقوط أردوغان في الجولة الثّانية، ولكن هل سيتخلّى الأخير عن كُرسيّ الحكم بسهولة بعد كُلّ هذا الخراب والدَّمار الذي خَلَّفه في تركيّا وخارجها؟

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..

زر الذهاب إلى الأعلى