آراء وتحليلات

أردوغان والفوز تحت سياط التهديد

جميل رشيد

شَكَّلت الانتخابات الرِّئاسيّة مرحلة مفصليّة هامّة في تاريخ تركيّا الحديث، وهي تستعدُّ للدخول إلى المئوية الأولى لتأسيس جمهوريّتها، تزامناً مع مرور مئة عام أيضاً على معاهدة لوزان، التي وَلَّدَت الجمهوريّة من رحم الإمبراطوريّة العثمانيّة المنهارة.

لقد تضافرت عِدَّةُ عوامل، داخليّة وخارجيّة، في التَّمهيد لفوز أردوغان بولاية ثالثة – وهي الأخيرة، حيث لا يُجيزُ له الدَّستور الذي وضعه أردوغان ترؤس البلاد لأربعة ولايات – وإن تكثَّفت بشكل أكثر فجاجةً في توظيف إمكانات الدّولة ومؤسَّساتها الإداريّة والإعلامية في خدمة حملته الانتخابية، والتأثير على مزاج النّاخب وترهيبه أحياناً كثيرة، عبر التلويح بورقة الاقتصاد الذي يعاني صعوبات جَمَّة، جرّاء السّياسات العشوائيّة لأردوغان وحكومته، وانتشار الفساد والمحسوبيات ضمن أجهزة الدَّولة، ليزيد زلزال 6 فبراير/ شباط من أعباء الاقتصاد التُّركيّ، وعجزه عن تلبية مُتطلّبات السُكّان المتضرّرين لما بعد الكارثة، وكذلك اللّعب – وبمهارة فائقة – بورقة الدّين وتوظيفه، وكذلك اعتماده خطاباً شعبويّاً توجَّهفيه إلى الفئات المهمَّشة، دون أن يغيّر من أوضاعهم المادية والمعيشيّة.

مفارقة كبيرة أظهرتها الانتخابات التُّركيّة، تمثَّلت في إعادة إحياء الشِّعارات القومويّة التُّركيّة المتناغمة مع الخطاب الدّينيّ الشَّعبويّ، وضعف التيّارات الممثلة لخطاب المواطنة و الدّيمقراطيّة الجامع، والذي يتجاوز الهُويّات والانتماءات الإيديولوجيّة والعقائديّة، بل كانت الهُويّات الفرعية، الدّينيّة والمذهبيّة والعرقيّة، حاضرةً بكُلّ قوّة في برامج المرَشَّحَين لمنصب الرِّئاسة، واعتمد عليها أردوغان بالذّات في استحضار كُلّ عوامل الندّيّة الإيديولوجيّة والتّاريخ، التي وصلت حَدَّ العداء الذي يَنسف بُنية وكيان الدَّولة، ليختصره في هيئة الحزب والزَّعيم، ما أحدث شروخاً في العقل الجمعيّ المكوّن على الولاء للجمهوريّة على المذهب الأتاتوركيّ، وإن كانت برمّتها هي نتيجة عوامل زمنيّة معيّنة وتحصيل حاصل للمعاهدات والاتّفاقيّات التي وَلَّدَت الجمهوريّة.

فإن كان يُنظر إلى الانتخابات من خلال النتيجة بأنَّها تكريس لديكتاتوريّة أردوغان على الدَّولة والمجتمع وتَفَرُّدِه بقراراتها الاقتصاديّة والسِّياسيّة؛ فإنَّها في الجانب الآخر عكست قوّة وتأثير البروباغاندا الدّيماغوجيّة للسُّلطة والمعارضة بأحزابها وقواها ونُخَبِها السِّياسيّة والثَّقافيّة على النّاخب التُّركيّ، ووضعه أمام خيارين لا ثالث لهما: الأوَّل ترهيبه بالحفاظ على كيان الدولة عبر الولاء له، والادّعاء بأنَّه فقط الوحيد القادر على حماية الجمهوريّة وإرثها وقيمها، والثّاني السَّيطرة عليه وتحديد خياراته الانتخابيّة، من خلال فرض حالة من التشتُّت الفكريّ والذّهنيّ إزاء الوعود الانتخابيّة، وإبقائه ضمن دوّامة، وهذه الحالةتسود في كُلّ الحملات الانتخابيّة، وسرعان ما تتبخّر  تلك الوعود بعد انقضائها. فيما غاب عن خطاب كلا الطرفين، السُّلطة والمعارضة، الاهتمام بأوضاع البلاد التي تعاني مشاكل وأزمات بنيويّة تتعلَّق بمستقبل البلاد، خاصَّةً القضيّةِ الكُرديّة وتَبِعاتها. فلم يبدِ أيُّ طرفٍ مقاربات صحيحة وجدّيّة حيالَ طرح حلول واقعيّة وجريئة يمكن لها أن تفتح الآفاق أمام حَلٍّ سياسيٍّ للقضيّةِ الكُرديّةِ، التي طالما تؤرّق كُلّ الحكومات والأنظمة المتعاقبة في تركيّا، على العكس من ذلك، جرى تهميش الكُرد، ومورست على نُخَبِهم السِّياسيّة، وخاصة حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة، جميع أساليب الضغط على قاعدته الشَّعبيّة والانتخابية، وأدَّت مفاعيلها في تراجع عدد الأصوات التي حصل عليها، حيث تراجعت النِّسبة من 10.5% في الانتخابات البرلمانيّة عام 2018، إلى 8.9% في هذه الانتخابات.

فقد أظهرت هذه الانتخابات توافقاً بين المعارضة والسلطة في رفع نبرة خطابهما المُعادي للكُرد وقضيّتهم، بل لجأ أردوغان إلى اتّباع التَّشهير بكُلّ ما يَمُتُّ للكُرد بصلة، وجعله أحد مواضيعه الرَّئيسيّة للترويج لحملته الانتخابيّة، واعتبر أنَّ أيَّ مقاربة من الكُرد ومن قنديل بمثابة وصمة عار تلاحق المعارضة، مُلمّحاً إلى تحالف كليجدار أوغلو مع حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة، وهو ما اضطرَّ معه مرشح المعارضة الرضوخ لضغوطات أردوغان، ويتوعَّد بمحاربة قنديل في حال فوزه في الانتخابات.

لم يكن أحد داخل تركيّا وخارجها يتوقَّع ألا يفوز أردوغان، نظراً لأنَّه كرَّسَ كُلّ شيء في تركيّا لصالحه، كما هدَّدَ بإشعال البلاد في حال خسارته. ويمكن القول إنَّها كانت انتخابات تحت سياط الخوف والتَّرهيب والتَّهديد، وتحالف المرشَّح اليمينيّ المتطرّف “سنان أوغان” ومعاداته للكُرد واللاجئين، لم يؤثّر كثيراً في تغيير النتائج، مثلما كان تحالف اليمينيّ الآخر والعنصريّ”أوميد أوزداغ” أيضاً، والذي تحالف مع كليجدار أوغلو، فما كان أردوغان بحاجته هو ما نسبته 2% من الأصوات ليحقّق الفوز. كما أنّه تمكَّنَ ببراعة الاستفادة من ضعف المعارضة، بشقّيها التُّركيّة والكُرديّة، ليميل إليه قسم من أنصارهما.

لكن ما ثَبُتَ أنَّ أردوغان اعتمد على الفئات والشَّرائح الرّيفيّة أكثر، فيما ركَّزَت المعارضة ثقلها على الفئات المدينيّة في المدن الكبرى مثل إسطنبول والعاصمة أنقرة وأضنه مرسين، وإزمير ومدن أخرى. كما أنَّ أسلوب الخداع الذي اتّبعه أردوغان مكَّنَه من استقطاب عدد أكبر من النّاخبين، ليوهم بأنَّه الأفضل لمستقبلهم ومستقبل تركيّا، وهو الأقدر على إجراء التحوّلات السِّياسيّة والاقتصاديّة، وبما يلبّي حاجات ورغبات كُلّ الأتراك.

فيما أظهر الشَّعب الكُرديّ نفوره من أردوغان، حيث لم ينل في الجولتين الأولى والثّانية لانتخابات الرِّئاسة، على نسب كبيرة من أصوات النّاخبين الكُرد، حسبما بيَّنت المفوضيّة العليا للانتخابات، ولكن الكرد في ذات الوقت لم يتمكّنوا من إيصال مرشَّح أحزابهم السِّياسيّة، كمال كليجدار أوغلو، إلى الرِّئاسة، حيث انعكس هذا الفشل في عدم تحقيق نسبة كبيرة في الانتخابات البرلمانيّة أيضاً.

يواجه الرَّئيس التُّركيّ تحدّيات كبيرة بعد الانتخابات، تتمثّل في أربعة رئيسيّة، أوَّلها محاربة التَضخُّم، وإعادة الإعمار ما دمَّره الزلزال، وانضمام السّويد إلى حلف النّاتو، وملفّ المصالحة مع سوريّا.

وفي أوَّلِ خطاب له بعد الفوز؛ توعَّدَ أردوغان بإنهاء ملفّ اللّاجئين السُّوريّين، وبالطريقة التي خطَّطَ لها، عبر تهجيرهم قسريّاً، وتوطينهم في المستوطنات التي يُقيمها في المناطق التي يحتلّها في الشَّمال السُّوريّ وبدعم قطري ومن جماعات الإخوان المسلمين الإرهابيّة، وأولى تلك المناطق هي عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض.

ففي غمرة احتفالات المرتزقة التّابعين لتركيّا بفوز أردوغان؛ أصيبَ عِدَّةُ مواطنين سوريّين بجروح في إطلاق النّار في مناطق تحتلّها تركيّا في سوريّا، خاصَّةً في عفرين،وسري كانيه، وهو الأمر الذي يُشيرُ إلى أنَّ المرتزقة تنفَّسوا الصُعدَاء بهذا الفوز، غير آبهين بالمخطَّط القذر الذي يُعِدُّه أردوغان لهم.

إنَّ مسألة التَضخُّم الذي تعاني منه تركيّا، وهبوط قيمة اللّيرة التُّركيّة غداة الإعلان عن فوز أردوغان لتصل إلى /20.05/ ليرة تركيّة مقابل الدّولار الأمريكيّ، لهوَ مؤشِّرٌ على حجم التَضخُّم الكبير السّائد في تركيّا جرّاء سياسات أردوغان المتهوّرة، ولم ينفعه خفضه لمعدّلات الفائدة، كما أثقلت كاهل الاقتصاد تبعات الزلزال المدمّر، ولم تسعفه المليارات التي أودعتها السّعوديّة وقطر في البنك المركزيّالتُّركيّ فيتعزيز مكانة اللّيرة التُّركيّة.

كما أنَّ إعادة إعمار ما دمَّره الزلزال، والذي راح ضحيّته /50/ ألف مواطن تركيّ، وتشريد نحو ثلاثة ملايين آخرين، لن يتمكّن أردوغان من تنفيذ وعوده بإنشاء /650/ ألف مسكن لهم، نظراً للأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي يَمُرُّ بها هو والاقتصاد التُّركيّ، وإحجام عِدَّةِ دول خاصَّةً الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبيّ، بما فيها صندوق النَّقد الدّوليّ، عن تمويل مشروع الإعمار، كذلك دول الخليج تتوجَّس من تقديم أيّ مساعدات لها، في ظِلِّ تململ أردوغان واستمراره في احتضان جماعات الإخوان المسلمين وتوفير الملاذات الآمنة لهم.

كما أنَّ ملفَّ موافقته على انضمام السّويد إلى حلف النّاتو، هو الآخر تَحَدٌّ كبير أمامه، فهو سيبلع تلك السّكين، وعلى الحَدَّيْنِ، مرغماً، ولا يملك رفاهية الرَّفض في ظِلِّ موازين القوى العالميّ الرّاهن، والضغوط التي تمارسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة عليه في الملفِّ الأوكراني، ستجعله يوافق، ودون الشّروط التي وضعها أمام السّويد في تسليم كُلّ من له صلة بحزب العُمّال الكُردستانيّ وجماعة “الخدمة” التّابعة لفتح الله غولان.

فيما القضيّة الأكثر تعقيداً أمام أردوغان هي المصالحة مع سوريّا، فرغم أنَّه كان يستجدي عقد لقاء مع الرَّئيس السُّوريّ بشّار الأسد، إلا أنَّه غداة إعلان فوزه، انبرى المتحدّث باسم الرِّئاسة إبراهيم كالن للقول “لا خطط للقاء بين أردوغان ونظيره السُّوريّ بشّار الأسد على المدى القريب، وإنَّ مثل هذا اللقاء يعتمد على الخطوات التي ستتّخذها سوريّا مستقبلاً”. فيما يُعَدُّ تراجعاً عن دعوة أردوغان عن لقاء الأسد، وهذا الأمر سينعكس ميدانيّاً في إعادة التوتّر إلى الميدان، ولتبدأ مناوشات متبادلة مع قوّات الحكومة السُّوريّة على سائر الجبهات مثلما يحصل الآن في جبهات إدلب وجبل الزاوية، وكذلك تصعيده وتسخينه في نقاط التَّماس مع قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة أيضاً. ورغم الضغط الرّوسيّ للمُضيِّ قُدُماً بملفِّ المصالحة، إلا أنَّ ثَمَّةَ مُستجدّات إقليميّة تَحُدُّ من قدرة الرّوس على تحقيق اختراق جدّيٍّ وفعليٍّ في جدار الأزمة المستفحلة بين سوريّا وتركيّا والتي راكمتها سنين الأزمة، وأوَّلها عودة سوريّا إلى الجامعة العربيّة، وهي التي لا تَسُرُّ روسيّا ومعها تركيّا وإيران أيضاً.

الكُلُّ يترقَّب تشكيل أردوغان لحكومته، لمعرفة الخيوط الأساسيّة للسِّياسة التي سينتهجها داخليّاً وخارجيّاً، رغم أنَّ 16 وزيراً حاليّاً هم أعضاء في البرلمان وسيؤدّون القَسَم. فحجم التحدّيات أمامه تجعله غير قادر على حلحلتها دفعة واحدة، وأوَّلها الملفُّ الاقتصاديّ وعلاقاته مع دول الجوار، وفي مقدّمتها سوريّا والعراق وأرمينيا واليونان. لكنَّ الاعتقاد السّائد في الأوساط السِّياسيّة الإقليميّة والدّوليّة، هو أنَّ أردوغان سيذهب أكثر في سياساته المتشدِّدة، ويوغل أكثر في معاداته للشَّعب الكُرديّ والفئات والشَّرائح المعارضة له، حيث وفي اليوم الأوَّل لفوزه؛ شَنَّ حملة اعتقالات طالت أعداداً كبيرة من الشُبّان المعارضين لسياساته، إضافة إلى تهديده بالسَّيطرة على رئاسة البلديّات، ووضع ما يُسمّونه في التُّركيّة “القيّوم”، أي البديل من الرّؤساء المنتخَبين.

رغم تلقّي أردوغان برقيات التَّهنئة من رؤساء عِدَّةِ دول، وعلى رأسها الرَّئيس الأمريكيّ جو بايدن، إلا أنَّ تفاؤلٌ مَشوبٌ بالحذر يَسودُ العالم أجمع من كيفيّة التَّعامل مع أردوغان، وتترقّب العديد من القيادات والأطراف إعلان أردوغان عن سياسة حكومته، وهل سيطرأ عليها أيُّ تعديل، أم سيستمرّ على نهجه السّابق في التَّصعيد، وهذا ما ستكشف عنه الأيّام القليلة القادمة.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..

زر الذهاب إلى الأعلى