آراء وتحليلات

(قـسـد) وسياسة مسك العصا من المنتصف

جميل رشيد

يتزايد الحديث في الأوساط السِّياسيّة والإعلاميّة السُّوريّة والدّوليّة، حول مواجهات عسكريّة قد تندلع بين الولايات المتّحدةالأمريكيّة وإيران ومن ورائها روسيّا على الأراضي السُّوريّة، وقد تتطوّر إلى حرب مفتوحة، بعد استقدام الطرفين قوّات ومُعدّات عسكريّة نوعيّة لها إلى المنطقة.

لا شَكَّ أنَّ أيَّ مواجهة بين الطرفين ستُلقي بظلالها على كامل المنطقة، ولن تبقى محصورة ضمن الجغرافيا السُّوريةّ، ويمكن أن تنجَرُّ إليها أطراف أخرى، ما تتسبَّب في اندلاع حرب شاملة، ورُبَّما تنقل الصراع الرّوسيّ الأوكرانيّ، والرّوسيّ مع الدّول الغربيّة إلى الشَّرق الأوسط، ذاك الشَّرق الذي يئنُّ أصلاً تحت ثقل صراعات وحروب إثنيّة وعرقيّة ودينيّة لا نهاية لها.

وجاء تصريح جنرال أمريكيّ بأنَّ “الرَدَّ الأمريكيّ على أيِّ تحرُّشٍ إيرانيّ قادم بقوّات التَّحالف أو القوّات الأمريكيّة سيكون خمسة أضعاف الرّدود السّابقة”، ليقطع هذا التَّصريح الشَكَّ باليقين بأنَّ الولايات المتّحدة ذاهبة إلى أبعد ممّا قد يتصوَّره البعض بأنَّها جلبت مزيداً من أسلحتها المتطوّرة لمحاربة تنظيم “داعش” الإرهابيّ فقط، أو لتعزيز أمن قوّاتها في المنطقة، حيث وصلت طائرات أمريكيّة حديثة إلى مطارات الخليج، إضافة إلى الغوّاصة الأمريكيّة “يو إس إس فرجينيا”، مع مئات صواريخ توماهوك متوسّطة المدى، مع تعزيزات عسكريّة من “الفرقة الجبليّة” إلى مناطق شرق الفرات، إضافة إلى استقدامها عربات “برادلي” القتاليّة المتطوّرة، هذا فضلاً عن المناورات التي أجرتها مع قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة و”الصناديد” و”جيش سوريّا الحُرّة”.

هذا التصعيد غير المسبوق من جانب الولايات المتّحدة؛ قابله تحشيد إيران للميليشيات التّابعة لها في منطقة البوكمال والميادين، حيث المعقل الرَّئيسيّ لها، إلى جانب إفراغ بعض المدن من سكّانها المدنيّين، وفرارهم إلى المناطق الدّاخليّة السُّورية، ما يشي وكأنَّ الحرب ستقع غداً.

روسيّا التي تراقب الأوضاع عن كثب، لم تحرّك ساكناً، فهي منشغلة بخساراتها اليوميّة في أوكرانيا، ولكنَّها واصلت حربها الإعلاميّة ضُدَّ التَّواجد الأمريكيّ في سوريّا، مُدَّعية أنَّه وجود غير شرعيّ، ويتوجَّب على الولايات المتّحدة سحب قوّاتها فوراً، معتبرة أنَّها “تنتهك السِّيادة السُّوريّة”.

أمام هذا التطوّر الدّراماتيكيّ؛ يُعتبر موقف قوّات سوريّاالدّيمقراطيّة الحاسم والأكثر تأثيراً في توجيه مسار أيّ عمليّة عسكريّة قد تقع مستقبلاً، لسببين رئيسيّين، أوَّلهما، سيطرتها الفعليّة على الأرض، وبالتّالي قدرتها على إفشالها ونجاحها في ذات الوقت، والسَّبب الثّاني، باعتبارها قوّة منضبطة ولها قيادة موحَّدة، فإنَّها ستتمكَّن من فرض قراراتها وإيقاعها وإلزام جميع الأطراف بها، ما يعني إجهاض كُلّ محاولة – ومن أيّ طرف كان – في التأثير على مواقفها وإرغامها على المشاركة في المواجهات، أو إثارة القلاقل ضمن صفوف قوّاتها، عاشت وهذا ما تتميّز بها (قسد) عن غيرها من الميليشيات الأخرى في الساحة السورية التي تحولت إلى مرتزقة بيد القوى الخارجيّة، وما أكثرها.

وأفصحت (قسد) موقفها من أيِّ عملٍعسكريٍّقد تُقدم عليه الولايات المتّحدة ضُدَّ إيران، من خلال تصريح أدلت به لقناة العربيّة “الحدث”، قالت فيه إنَّها لن تشارك في أيّ عمليّة عسكريّة ضُدَّ إيران، وهو ما شَكَّلَ ارتياحاً لدى العديد من الأوساط السِّياسيّة الوطنيّة والدّيمقراطيّة السُّوريّة، ولتؤكِّد (قسد) مَرَّةً أخرى أنَّها لا تنجَرُّ إلى مخطَّطات الغير التي لا تتناسب مع مبادئها الوطنيّة السُّوريّة.

حاولت الولايات المتّحدة خلال الأيّام القليلة الماضية إحداث شرخٍ بين القوى المنضوية تحت لواء قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة، حيث سعت لاستمالة بعض القوّات، منها قوّات مجلس دير الزور العسكريّ وقوّات “الصناديد” وزعماء العشائر في المنطقة، ولكنَّها محاولة باءت بالفشل، وجاء الرَدُّ على لسان قائد مجلس دير الزور العسكريّ “أحمد الخبيل/ أبو خولة”، الذي أكَّدَ أنَّ مرجعيَّتهم في أيِّ قرار يتّخذونه هي قيادة (قسد)، ولم ينفِ وجود بعض الخلافات بينهم حول الأمور التَّنظيميّة العسكريّة الدّاخليّة.

إنَّ أيَّ مواجهة عسكريّة أمريكيّة مع إيران إن لم تشارك فيها (قسد) محكومة بالفشل، وهذه الحقيقة تُدركها الولايات المتّحدة جيّداً، ورُبَّما تحاول الأخيرة ممارسة الضغوط على (قسد) عبر تأليب الاحتلال التُّركيّ في تصعيد عدوانه ضُدَّ مناطق شمال وشرق سوريّا، إن كان عبر الطائرات المُسيَّرة أو القصف، وحتّى شَنِّ عدوانٍ برّيٍّ محدود على بعض المناطق مثل عين عيسى أو منبج أو كوباني أو تل رفعت.

الإدارة الذّاتيّة ومعها قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة حافظت طيلة عمر الأزمة السُّوريّة على موقف حياديٍّ من جميع الأطراف في السّاحة السُّوريّة، ولم تراهن على أيٍّ منها، وظَلَّت تتعامل بندّيّة وبالمِثلِ معها، دون أن تتَّخذ مواقف عدائيّة منها. وفي هذه المرحلة الحرجة من عمر الأزمة السُّوريّة، لا يوجد أيُّ مسوِّغٍ أو سبب يدفعها لتدخل في مواجهات هي غير معنيّة بها، ولن تجعل من نفسها وقوداً في هذه المعركة التي هي في جوهرها تدور حول مصالح الطرفين، وليس لها فيها لا ناقة ولا جمل، حيث تحاول الولايات المتّحدة لَيَّ ذراع إيران في مفاوضاتها حول ملفِّها النَّوويّ، وتقليص تواجدها في سوريّا، خاصَّةً على حدود إسرائيل، بعد أن فشلت روسيّا في تنفيذ ضماناتها بإبعاد إيران والميليشيّات التّابعة مثل حزب الله عن الجولان.

فالولايات المتّحدة ترمي من خلال هذا التَّصعيد إلى إغلاق الكريدور البرّيّ أمام تدفّق الأسلحة الإيرانيّة إلى ميليشياتها في سوريّا عن طريق معبر البوكمال، وتسعى إلى وصل مناطق الـ/55/ كيلو أيّ التنف مع مناطق سيطرة قوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة، وكذلك السَّيطرة على منطقة الحدود السُّوريّة الأردنيّة، لقطع الطريق على تهريب المُخدِّرات إلى الأردنِّ ومنها إلى دول الخليج.

إنَّ نقل الولايات المتّحدة صراعها مع إيران إلى مناطق الإدارة الذّاتيّة، يعني إدخالها بمزيد من حالة الفوضى والحروب واللا استقرار، على عكس ما تدَّعي أنَّ هدفها هو إرساء السَّلام والقضاء على خطر تنظيم “داعش” الإرهابيّ. وبالتأكيد إنَّ أيَّ حرب من هذا القبيل سيستفيد منها التَّنظيم الإرهابيّ ليُعيدَ تنظيم صفوفه ويَشُنَّ هجماته في جميع المناطق، ما ينفي معها مبرّرات وجود قوّاتالتَّحالفالدّوليّ التي تدَّعي مراراً أنَّها تتواجد على الأراضي السُّوريّة بهدف مكافحة التَّنظيم الإرهابيّ.

تُدرك القيادة الأمريكيّة أنَّ أيَّ مواجهة محتملة مع إيران، حتى إن شاركت فيها إسرائيل أيضاً عبر القصف الجوّيّ لبعض المقرّات الإيرانيّة، لن تُنهيَ الوجود الإيرانيّ في سوريّا، بل ستزيد من انتشارها، وعلى مبدأ المثل القائل “الضربة التي لا تَقتلُك تقوّيك”، فإنَّها – أي إيران – ستعزّز من قوّاتها العسكريّة وتفرض سيطرتها على المناطق التي لم تكن قد وصلتها من قبل.

في المقلب الآخر؛ ستستغلُّ دولة الاحتلال التُّركيّ حالة الحرب والفوضى السّائدة في المنطقة، وتوجّه مزيداً من اعتداءاتها ضُدَّقوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة ومناطق الإدارة الذّاتيّة، وسترُدُّ عليها (قسد) بقوّة، ما يزيد من اشتعال الحرائق على السّاحة السُّوريّة، والولايات المتّحدة هي بغنى عن هذا التَّصعيد والتوتّر الذي سينسف كُلَّ جهودها السّابقة في الوصول إلى حَلٍّ للأزمة السُّوريّة. وهي – أي دولة الاحتلال التُّركيّ– تتحيَّن الفرصة لتنفيذ مآربها وأهدافها التي طالما كانت تُهدِّدُ بها من أكثر من عام.

حتى وإن وقعت مواجهة ما بين الطرفين؛ فإنَّها ستنحصر ضمن بعض العمليّات العسكريّة الجراحيّة المحدودة ضُدَّ مواقع عسكريّة إيرانيّة، ولن تتطوَّرَ إلى حرب شاملة قد تأتي على الأخضر واليابس، وهي لا تغدو أكثر من خطّة أمريكيّة لإضعاف إيران وفرض شروطها في أيّ عمليّة تفاوضيّة مُرتَقبة بشأن ملفِّها النَّوويّ. ويبدو أنَّقوّاتسوريّاالدّيمقراطيّة أدركت مراميَ وأهداف الولايات المتّحدة من هذا التَّصعيد.

كذلك فإنَّ أيَّ مشاركة من جانب قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة قد يُبدّد آمالها في إطلاق حوار مستقبليٍّ بينها وبين الحكومة السُّوريّة، على اعتبار أنَّ إيران أحد أهمّ الحلفاء الرَّئيسيّين لدمشق قبل الأزمة وخلالها وبعدها، ولها تأثير كبير عليها، وكذلك ستخلق حالة عداء لها مع روسيّا، التي تتطلَّع إلى دور فاعل لها لإطلاق حوار مع دمشق، فهي لن تغامر بمكانتها وثقلها السِّياسيّ على مذبح المصالح الأمريكيّة، وتغدو طرفاً في صراعات القوى الدّوليّة على السّاحة السُّوريّة.

زر الذهاب إلى الأعلى