آراء وتحليلات

الحرب الصاخبة والحروب المنسيّة

محمد محمود بشار

جرت العادة أن يتبنّى قادة الدول التي تشن أعنف الحروب وأكثرها دموية، الخطاب الأكثر سلمية.

قبل وأثناء الحروب الدموية، يلجأ أمراؤها إلى الدعوة إلى السلم والتأكيد مراراً وتكراراً على الأهداف (النبيلة) حسب زعمهم، والتي سوف تتحقق في المرحلة التي ستلي انتهاء الحرب.

تاريخ البشرية هو صدى للحروب التي تم خوضها، فمناطق سيطرة الإمبراطوريات وحدود الدول والإمارات تم رسمها بالدم، وتم تعبيد الطريق إلى السلم بملايين الجثث من ضحايا تلك الحروب.

فالحرب هي الحرب لا يوجد أي تعريف آخر لها، ولا توجد هناك حرب نظيفة وأخرى قذرة، مهما اختلفت الجغرافيا وتعدد القادة والرؤساء والأمراء، يبقى إزهاق الأرواح هو وقود كل الحروب، حيث يحتفل البشر بقتلهم لبعضهم البعض مع إعلان وقف إطلاق النار وإسدال الستار على مشهد دموي مليء بقصص مختلفة عن الدمار والقتل.

  • الأشهر الحُبلى بالدماء

من الصعب أن يفارق شهر أكتوبر/ تشرين الأول مخيَّلة الإنسان العربي من دون أن يتذكر حرب أكتوبر أو “حرب العاشر من رمضان” كما تُعرف في مصر، أو “حرب تشرين التحريرية” كما هي معروفة في سوريا،أو “حرب يوم الغفران” بحسب التسمية الاسرائيلية التي تم خوضها في سنة 1973، وحتى الآن مازال الشك حول من انتصر في تلك المعركة يكتنف المشهد العام.

جاء أكتوبر في هذا العام أيضاً حاملاً حرباً جديدة، بين إسرائيل الدولة الأكثر قوة في الشرق الأوسط والأكثر دعماً في العالم أجمع، وحركة “حماس” الفلسطينية التي تدير قطاع غزة المحاصر من كل الجهات.

هذه الحركة التي تتلقى الدعم من أطراف ودول مختلفة ولكنها في هذه الحرب قد تفقد أغلب داعميها، لأن إسرائيل ترى بأن اعتداءات السابع من أكتوبر من قبل “حماس” على مدن وقرى ونقاط إسرائيلية في منطقة غلاف غزة، هي شرارة لحرب تهدد الوجود الإسرائيلي، وإن لم تكن إسرائيل تمتلك ما يكفي من القوة لتم محوها من الوجود، لذلك جاء الرد الإسرائيلي عنيفاً ومدمّراً.

هذه الحرب حالياًهي الأكثر صخباً في العالم، حيث خَفُتت أصوات الحروب الأخرى في مناطق مختلفة من العالم، وباتت أسماء مثل “يحيى السّنوار”، وهو الزعيم الفعلي لحركة “حماس”داخل غزة وكذلك “أبو عبيدة” الناطق باسم “كتائب القسّام”، وفي الطرف المقابل “بنيامين نتنياهو” رئيس الحكومة الإسرائيلية و”يوآف غالانت” وزير الدفاع الإسرائيلي وغيرهم من طرفي الصراع، تتكرر في نشرات الأخبار أكثر من اسم الرئيس الأمريكي أو الأمين العام للأمم المتحدة وحتى أكثر من اسم الرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

حتى أن التوجه العالمي نحو الاهتمام بالصحافة البيئية والمؤتمرات الكبرى التي تم عقدها لمناقشة خطورة التغييرات المناخية، لم تَحُدّ من بريق هذه الحرب.

بات المتلقي الذي ينهل الأخبار بشكل فوري من مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع النت وشاشات التلفزة، يعيش حالة الحرب بين إسرائيل و”حماس” بكل تفاصيلها، ميدانياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً وكل مآسيها.

باتت الحروب الأخرى شبه منسيّة، ولكنها مستمرة في نفس الوقت من دون هوادة، فالمدافع تضرب والطائرات تقصف وكل جيش ينفث نيرانه بوجه الآخر.

يبدو أن البشر اعتادوا على انعدام المساواة حتى في الظلم والقتل والحروب، فكما أنه هناك دولة أغنى من دولة وعائلة أكثر رفاهية من عائلة أخرى، فهناك حرب تحتلّ الحيّز الأكبر من المشهد الإعلامي والسياسي وتكون حديث الساعة لكل الشعوب في كل الدول، وهناك حرب لاتقل عن الأولى دمويَّة وعنفاً ولكنها مُهمَّشة إعلامياً وسياسياً.

وقد يكون ما خفي أعظم مما بانَ وظهر، ولربما تُحاكُ خلف هذه المشاهد الصاخبة خيوط لاتفاقيات جديدة لإدارة العالم أجمع بكل دوله وتفاصيله، فلا قلب للسياسات الخارجية للدول العظمى، فلغة المصالح هي التي تسود ولا مكان لأي لغة أخرى، طبعاً نفس الكلام ينطبق على الدول الضعيفة والصاعدة حديثاً، إلا أنه يبقى للدول العظمى كلمة الحسم في أكثر الملفات سخونة وأهمية.

زر الذهاب إلى الأعلى