قصص

في محاكَمَةِ عناصرِ “داعش” ومسؤوليَّةُ المجتمع الدّوليّ

جميل رشيد

مُجدَّداً تصدَّرت قضيَّة محاكمة عناصر تنظيم “داعش” الإرهابيّ، واجهة الأحداث في شمال وشرق سوريّا، بعد إعلان ممثّل الإدارة الذّاتيّة في أوروبا الدّكتور “عبد الكريم عمر” عن قرب البدء بعقد جلسات المحاكمة في مناطق شمال وشرق سوريّا.

يبدو أنَّ عوامل عديدة توفَّرت لدى الإدارة الذّاتيّة عوامل وهيَّئت أرضيَّة ملائمة للبدء بمحاكمة عناصر التَّنظيم، منها ما هو متعلِّقٌ بالظروف السِّياسيّة والأمنيَّة السّائدة في مناطق شمال وشرق سوريّا، ومنحى الحرب ضُدَّ التَّنظيم ومدى التقدُّم الذي أحرزته خلال السَّنوات القليلة الماضية في مكافحته بعد القضاء على التَّنظيم جغرافيّاً، والضربات الموجِعة التي وجَّهتها له بعدها، وليس أقلُّها قتل زعمائه بالتَّعاون مع قوّات التَّحالف الدّوليّ، علاوة على تمكُّنها من إعداد البُنيَة القانونيَّة والحقوقيَّة لتشكيل تلك المحكمة، وأوَّلها وجود قُضاةٍ يتمتَّعون بالخبرة القانونيَّة في إدارة المحكمة وإنفاذ القانون، وأهمّ من ذلك اختيارها القوانين المناسبة التي ستستند إليها المحكمة كأساس لا بُدَّ منه في المحكمة في المحاكمات والقضايا الإجرائيَّة، لتتمكّنَ بموجبها من إصدار أحكامها، وكُلُّ التَّرجيحات تميلُ باتّجاه اتّخاذ القانون السُّوريّ كمرجعيَّة لها. وفي هذا الإطار لا ضير في الاستناد إلى فقرات ومواد من القانون الدّوليّ في أصول محاكمة الإرهابيّين. هذا فضلاً عن تحمّلها الأعباء الماديَّة الباهظة التي ستترتَّب على المحاكمات، وكذلك حفظ أمن أعضاء المحكمة وعناصر التَّنظيم خلال سير جلسات المحاكمات.

ولكنّالسؤال الأساسيّ والجوهريّ الذي يتبادر إلى ذهن المرء؛ هل ستكون المحاكمات سُرّيّة، أم علنيَّة مفتوحة أمام الإعلام والرَّأي العام؟ وهذا ما لم تُفصح عنه الإدارة حتّى الآن، وبالتَّأكيد قبل البدء بجلسات المحاكمة سيَتُمُّ الإعلان عن بعض التَّفاصيل المتعلِّقة بها. إلا أنَّ فتح ملف المحاكمات سيكشف الكثير من الأمور التي لاتزال سُرّيّة والتي لا يعلم بها أحد، ورُبَّما تتسبَّب في تعرية العديد من الأطراف والقوى والدّول التي دعمت التَّنظيم وموَّلته وساعدته على التمدّد في الجغرافيا السُّوريّة والعراقيَّة، وكذلك ضلوعها في التغطية على عدد من الأعمال الإرهابيَّة التي ارتكبها التَّنظيم في العديد من الدّول الغربيَّة، إضافة إلى كشف مخطَّطاته المستقبليَّة وهيكليَّته التَّنظيميَّة في سوريّا ودول أخرى. ورُبَّما العديد من الدّول لا ترغب في إجراء هذه المحاكمات، وخاصَّةًالدّول المتورِّطة مع التَّنظيمالإرهابيّ في أعمال إرهابيَّة مثل دولة الاحتلال التُّركيّ، وستعمل على عرقلة عمل المحكمة بشتّى الوسائل، وهو ما يتوجَّب على الإدارة الذّاتيّة أن تأخذها بالحُسبان وتتداركها.

لا شَكَّ أنَّ قرار البدء بالمحاكمات سيكون له وقعه الكبير في الأوساط السِّياسيّة والإعلاميَّة، لجهة تَفرُّدِ الإدارة بها، وعدم إعلان أيّ طرف دوليّ المشاركة فيها، خاصَّةً بعد أن وصلت الإدارة إلى حالة عجز مع المجتمع الدّوليّ نظراً لإلحاحها الشَّديد على ضرورة تشكيل محكمة دوليَّة لمحاكمة تلك العناصر الإرهابيّة، خصوصاً مع الدّول المشاركة في التَّحالف الدّوليّ لمحاربة الإرهاب، فتنصُّلِ الأخير– أي التَّحالف الدّوليّ – من مسؤوليّاته؛ دفع الإدارة إلى اتّخاذ القرار بشكل منفرد لتشكيل المحكمة وعرض تلك العناصر أمامها. إلا أنَّ القرارات التي ستصدرها المحكمة ستأخذ صفة دوليَّة بحكم امتثال عناصر أجنبيَّة كثيرة أمامها، إضافة إلى استنادها إلى القانون الدّوليّ، ما يكسِبَها صفة الشَّرعيَّة الدّوليّة.

إنَّ قضيَّة التَّعامل مع ملفِّ محتجزي عناصر تنظيم “داعش” الإرهابيّ كان – ولا يزال – يُرهِقُ الإدارة الذّاتيّة أمنيّاً وسياسيّاً وماديّاً منذ أن بدء حملاتها العسكريَّة المتعدِّدة ضُدَّه في أكثر من منطقة بشمال وشرق سوريّا، وهي من دفعت أكثر أكلاف المواجهة مع التَّنظيم الإرهابيّ، ومن دماء أبناء المنطقة، رغم مشاركة قوّات التَّحالف الدّوليّ مع قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة فيها أيضاً. والملفُّ لا يزال يستنزف الكثير من طاقات وقدرات الإدارة، دون أن يساهم المجتمع الدّوليّ في تخفيف أعباء الإدارة، بل أغاض الطرف عن معاناة الإدارة في كيفيَّة إغلاق هذا الملفّ الذي طالما يؤرّق العالم أجمع، وتَرَكَها لوحدها في المواجهة. وعلى العكس من ذلك؛ كان من المُفترَض أن تُبذل جهودٌ دوليَّةٌ مشتركة لنزع فتيل القنبلة الموقوتة التي تُهدِّدُ دائماً بالانفجار في أيّ لحظة، لا أن يَتُمَّ التَّعامل معه بانتقائيَّة، أو أن يُخضِعَ البعض القضيَّة لميزان الاستثمار السِّياسيّ، حيث أنَّ القضيَّة بقضِّها وقضيضها هي قضيَّةُ “إرهاب صرف” عابر للحدود والجغرافيا، ولا تَخُصُّ مناطق الإدارة الذّاتيّة أو سوريّا فقط. وفي هذا الإطار؛ فإنَّ المسؤوليَّة الأكبر لطَيِّ ملفِّ محتجزي التَّنظيمتقع على عاتق الولايات المتّحدة الأمريكيّة، باعتبارها قائدة التَّحالف الدّوليّ، وتملك إمكانيّات ماديَّة ولوجستيَّة وعسكريَّة وقانونيَّة كبيرة، وحتّى أنَّه بإمكانها المساعدة في تشكيل محكمة دوليَّة، وأضعف الإيمان يتوجَّب عليها أن تبادر إلى إضفاء الشَّرعيَّة على المحكمة والقرارات التي ستصدر عنها لاحقاً، رغم أنَّها– أي المحكمة – تمتلك صفة الشَّرعيَّة القانونيَّة والشَّعبيَّة باعتبارها تصدر من جهة نالت الإجماع من قبل مكوّنات وشعوب المنطقة ككُلٍّ.

كما أنَّ الإدارة الذّاتيّة ستواجه مشكلة أخرى لا تَقِلُّ خطورة وصعوبة عن كيفيَّة سير جلسات المحاكمات، وهي مسألة أماكن الاحتجاز التي سيقضي فيها المحكومون أحكامهم، أي السّجون. فلا تتوفَّرُ حتّى الآن في مناطق الإدارة سجون لها بُنية تحتيَّة متطوِّرة مهيَّئة لاستيعاب هذا العدد الكبير من العناصر الإرهابيّة، إضافة إلى أنَّها– أي السّجون الحالية– عبارة عن مبانٍ لا تمتلك مقوِّمات أن تكون سجوناً يُحتَجَزُ فيها عُتاةُ العناصر الإرهابيّة في العالم، ويُفترض أن يكون لتلك السُّجون مواصفات خاصَّةً، يمكن للإدارة والمؤسَّسات الأمنية التّابعة لها التحكُّم بحركة المحتجزين داخلها وفرض الأمن والاستقرار فيها، لا أن يَعمدَ السُّجناء كُلَّ فترة إلى القيام بحالات الاستعصاء والتمرُّد كما حصل في سجن الصناعة بالحسكة قبل عامين، وكذلك في سجن الرِّقَّة خلال هذا العام.

يُعتقد أنَّ بقايا فلول التَّنظيم الإرهابيّ ستعمد إلى تكثيف عمليّاتها الإرهابيّة خلال فترة المحاكمات، وهذا ما سيزيد من أعباء قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة وقوى الأمن الدّاخليّ، وستضطَرُّ إلى إعلان حالة من الاستنفار بين صفوفها، بما يكفل حُسنَ سير المحاكمات، والحفاظ على استتاب الأمن والاستقرار في جميع مناطق شمال وشرق سوريّا.

إنَّ توقيت البدء بمحاكمة عناصر تنظيم “داعش” الإرهابيّ، يشير إلى تعافي الإدارة من الأزمات السّابقة التي مَرَّت بها وحَدَت دون البدء بها، رغم أنَّها كانت قد أعلنت عنها في وقت سابق، فضلاً عن توجُّهات الإدارة إلى إغلاق هذا الملفّ الذي طالما يُثقل كاهلها، بالتَّزامن مع المحاولات الجارية لإفراغ مُخيَّمي الهول وروج من عوائل التَّنظيمالإرهابيّ، عبر ممارسة الضغوط على الدّول التي لها رعايا في المُخيَّم لاستلامهم. وإن لم تتمكَّن الإدارة من إغلاق تلك المُخيَّمات بشكل نهائي، على الأقل ستخفِّف من تواجد تلك العوائل، التي باتت منبعاً لتفريخ عناصر إرهابيَّة تَرفُدُالتَّنظيم بعناصر أخرى، وخاصَّةً من الأطفال الذين ينهلون من فكر التَّنظيمالإرهابيّ ومن تعليماته في المخيّمات على أيدي زوجات عناصره، والمحاكمات ستفتح الطريق أمام إغلاق هذا الملفّ أيضاً.

بالتَّأكيد المحاكمات ستدخل المنطقة في مرحلة جديدة من التطوّرات السِّياسيّة والعسكريَّة، وستفرض وقائعَ مغايرة عمّا كان سائدةً قبلها، لجهة شروع العديد من الأطراف والقوى إلى إبداء مقاربات جديدة من الإدارة، والسَّعي للتّواصل معها بندّيّة وجدّيّة وبشفافيّة، ومحاول عقد اتّفاقيّات وشراكات على الصعيد السِّياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ معها، وهو ما يفتح الطريق أمامها لتمثيل الإدارة في المحافل الإقليميّة والدّوليّة، وبوادر هذا التوجَّه تجلّت خلال دعوة الإدارة الذّاتيّة للمشاركة في مؤتمر بروكسل الأخير للمانحين إلى الشَّعب السُّوريّ، وإن كان ذاك التَّمثيل تَمّ عبر تحالف المُنظَّمات الإنسانيَّة العاملة في مناطق الإدارة الذّاتيّة، وهذه الخطوة بحَدِّ ذاتها ستتحرِّرُ الإدارة الذّاتيّة من “الفيتو” الذي طالما كانت تفرضه دولة الاحتلال التُّركيّ عليها، وتَحُدُّ من مشاركتها في المؤتمرات والاجتماعات الدّوليّة بخصوص حَلِّ الأزمة السُّوريّة.

زر الذهاب إلى الأعلى