آراء وتحليلات

لماذا يفضّل اللّاجئون قواربَ الموتِ على بلدانهم الغارقة في الأزمات؟ (2)

حسن حسن

بينما يختلف علماء الهجرة حول ما إذا كانت الفترة الحالية قد أنتجت أكبر تدفُّقات للهجرة في تاريخ البشرية؛ فلا شكَّ في العدد الهائل من الأشخاص المعنيّين بالهجرة. تَحدُثُ العديد من الهجرات (الحركات) السكانية داخل البلدان، وغالباً تحدث من المناطق الريفية إلى الحضرية منها. ومع ذلك؛ فإن أبرز الحالات هي تلك التي تنطوي على عبور الحدود الوطنية نتيجة للأزمات الاقتصادية والحروب والأزمات الاجتماعية.

هجرة الشباب

لا يرغب الناس عادةً بالهجرة من أوطانهم إلى الخارج؛ ذلك أنّ الوطن عزيزٌ على قلب الإنسان، ولا يُستغنى عنه بحالٍ، ولكن ما يُرغِمُ الإنسان على الهجرة بلا شك هي أسبابٌ قاهرةٌ وتحدّيّاتٌ أكبر من أن يواجهها، وخاصَّةً العقبات التي تواجه فئة الشباب في المجتمع، الشباب الذين لهم أهدافهم وطموحاتهم المتوقّدة، والتي قد تختلف من شخص لآخر.

إن هجرة الشباب إلى الخارج لها أسبابها التي تدفعهم إليها، ومن أهمها:

أولاً – طلب العلم: فكثيرٌ من الشباب يلجأ للهجرة إلى الخارج لتحصيل العلم، فقد لا تُتاح أمام جميعهم التخصصات العلمية التي يطمحون لدراستها في أوطانهم، أو قد لا تلبي نوعية التعليم وجودته تطلعاتهم العلمية وروح الإبداع والبحث لديهم، وبالتالي تتوفر في الهجرة إلى الخارج، وخصوصاً إلى الدول المتقدمة، فرصةً للشباب لإثبات تفوّقهم العلمي، وإخراج مخزونهم الفكري، وإشباع رغباتهم في البحث والتحرّي عن كلّ ما هو جديدٌ ونافعٌ. العمل المناسب، على الأغلب، يدفع العديد من الشباب للهجرة إلى الخارج، للظفر بوظيفةٍ مناسبة تتلاءم مع مؤهّلاتهم العلمية، وتوفّر لهم دخلاً مناسباً يؤمن لهم الحياة الكريمة. فكثيرٌ من بلدان العالم الثالث تواجه مشكلاتٍ وتحدّياتٍ اقتصاديةً على رأسها البطالة، سواء الظاهرة منها أو المقنّعة، وما تسببه من يأسٍ في نفوس الشباب، وتولِّدُ لديهم رغبة عارمةٍ في الهجرة والبحث عن فرصٍ وآفاق جديدة.

ثانياً – العولمة: فمن نتائج العولمة تحوّل العالم إلى قريةٍ صغيرة، وهو ما سهَّلَ عمليّة التبادل الثقافي بين الناس، فالشباب المهاجر يتعرّف على ثقافات أخرى بكلّ سهولةٍ من خلال التلفاز أو شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، وقد تغريه تلك الثقافات، على الرغم من تعارضها مع قيمه القومية والثقافية والاجتماعية والدينية، وقد يشجعه ذلك على الهجرة إلى الخارج حتّى يكون جزءاً من تلك الثقافات التي أُغْرِمَ بها.

 ثالثاً – الحروب والنزاعات: فمن أهمّ الأسباب التي تشجع الشباب على الهجرة، كثرة النزاعات والحروب والمشاكل. فقد تصور وسائل إعلام بعض الدول في الخارج على أنّ بلادها أرضُ تحقيق الأحلام، بما لا يعكس الواقع الحقيقي والتحديات فيها.

يجب وضع الحركات السكانية في قلب العلوم السياسية والتاريخ المعاصر. فقد شهد القرن العشرين في جميع أنحاء العالم العديد من الحركات السكانية الرئيسية، منها صعود القومية والفاشية والأنظمة الشمولية وتفكك الإمبراطوريات وظهور الدول القومية الحديثة، كل ذلك أدى إلى حركة قسرية واسعة النطاق للشعوب.

الحروب والنزاعات

بالطبع، الحروب بين الدول ليست هي الدافع الوحيد لتحركات السكان على نطاق واسع، في حين أن ظاهرة اللاجئين ليست خاصَّة بأي حال من الأحوال بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فقد شكلت حلقات الهجرة القسرية جزءاً كبيراً من تاريخها بعد الحرب العالمية الثانية. تقسيم فلسطين في عام 1947، وما تلاها من حرب عام 1948، أدّى إلى ظهور موجة من أطول موجات اللاجئين وأكثرها مصيرية من الناحية السياسية. مخيمات اللاجئين في الأردن ولبنان وسوريا، وكذلك في قطاع غزة والضفة الغربية، هي تذكير دائم بالتهجير القسري لأكثر من /700/ ألف فلسطيني بين عامي 1947 و1948. كما أدَّت حرب يونيو/ حزيران 1967 إلى نزوح العديد من لاجئي عام 1948 للمرة الثانية، حيث أضيفت أيضاً إلى أعدادهم السابقة.

شهدت المنطقة العديد من عمليات النزوح القسري واسعة النطاق للسكان، فتركيا الحديثة نشأت من خلال تجريد أعداد كبيرة من غير الأتراك المقيمين في الإمبراطورية العثمانية من حقوقهم، وعلى الأخص تعاملها مع الأرمن والأكراد واليونانيين عن طريق الإبادات الجماعية. كما دفع تحرير الجزائر من الحكم الفرنسي مئات الآلاف من الموالين لفرنسا إلى البَرِّ الرئيسي لفرنسا. فيما أدَّت الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1991) إلى رحيل ربع السكان اللبنانيين، إضافة إلى أن الغزو العراقي للكويت عام 1990 ثم عاصفة الصحراء عام 1991، دفعت الكويتيين نحو هجرة جماعية، وتم طرد العمال المغتربين العرب وغير العرب من الكويت لاحقاً، فضلاً عن طرد مئات الآلاف من العمال اليمنيين من المملكة العربية السعودية، وهروب ملايين العراقيين خاصة من الكرد والشيعة هرباً من مجازر صدام حسين.

يمكن إرجاع موجات اللاجئين الحالية من بلاد الشام إلى حد كبير إلى غزو العراق عام 2003 والحرب الأهلية اللاحقة فيه، والتي أنتجت ما يقدر بنحو /6/ ملايين لاجئ وعدد مماثل من النازحين داخلياً. أدى التحول العرقي والطائفي في العراق إلى إثارة طائفية على مستوى المنطقة وحفَّزَ الحركات الجهادية، وهذا ما أدى إلى أن تشكّل التحركات السكانية (تدفّقات اللاجئين) ضغوطًا هائلة على البنية التحتية في الأردن وسوريا ودول مجاورة أخرى، مع إدخال وجود شبه دائم للمنظمات الدولية في الحوكمة اليومية لهؤلاء السكان غير المواطنين.

أثَّرت هذه الديناميكيات الإقليمية نفسها على الطريقة التي أثر بها ما يسمى بالربيع العربي على سوريا، والتي كانت أحد أكثر العناصر تدميراً فيها أزمة اللاجئين. تُقدّر الأمم المتحدة أن أكثر من /6/ ملايين سوري فرّوا من البلاد، بينما نزح نحو /10/ ملايين آخرين داخلياً. حجم نزوح السكان السوريين، داخلياً وخارج حدود البلاد، يمكن أن يصرف الانتباه عن الكوارث الموازية الأخرى.

لقد أدى انهيار الدولة الليبية إلى تدفق موجة من اللاجئين الليبيين، في حين يواصل المهاجرون من إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، والذين كان القذافي يعترض عبورهم عبر ليبيا، حيث كانوا يغادرون من هناك ومن أجزاء أخرى من ساحل شمال إفريقيا في طريقهم إلى أوروبا. أنتجت الحرب في اليمن أيضاً نزوحاً داخلياً هائلاً، ورغم أن الحصار البحري والبري منع معظمهم للفرار من البلاد، إلا أن تأثير وضع هؤلاء (وغيرهم) من اللاجئين لا يزال مستمراً في المنطقة، ليس فقط على الأمن الإقليمي، ولكن أيضاً على الاقتصاد السياسي الإقليمي والتنمية السياسية في المستقبل المنظور.

في دول مثل الأردن ولبنان، حيث يشكل اللاجئون (السوريون والعراقيون والفلسطينيون) أكثر من ربع إجمالي السكان، معظمهم لا يسكنون داخل مخيمات لاجئين متميزة جغرافياً.

كيف تسبَّبت البطاطس في هجرة ملايين الإيرلنديين نحو أمريكا؟

مجاعة البطاطس أودت ما بين عامي 1845 و1849 بحياة ما لا يقل عن مليون إيرلندي، وتزامنت هذه الكارثة مع حالة فقر مدقع عاش على وقعه الإيرلنديون بسبب قرون من الهيمنة البريطانية.

وبحسب مصادر تلك الفترة، أنفق الإيرلنديون آخر ما تبقى من مدخراتهم من أجل هذه الرحلة التي استغرقت /4/ أسابيع ونقلتهم لمسافة /3/ آلاف ميل نحو الولايات المتحدة في ظروف مزرية جداً، آملين بالحصول على الطعام وحياة أفضل بالجانب الآخر من المحيط الأطلسي، وفارق ربعهم الحياة بعرض الأطلسي، فيما عانى البقية من الجوع والعطش طيلة فترة الرحلة، حيث اكتفوا بوجبات هزيلة أثناء سفرهم.

وأسفرت مجاعة البطاطس خلال خمس سنوات فقط، ما بين 1845 و1850، عن وفاة ما يزيد عن مليون إيرلندي وهجرة نصف مليون آخرين نحو الولايات المتحدة، لتعاني بذلك البلاد من تراجع حادٍّ في عدد سكانها.

في مواجهة نوبات الفقر المدقع والمجاعة على مدى قرون؛ كان الشعب الإيرلندي من أوائل الشعوب التي وجدت في أمريكا أرضاً لفرص جديدة. اليوم؛ يتمتع الأمريكيون الإيرلنديون بمعدلات أعلى لملكية المنازل ومعدلات فقر أقل من معظم الأمريكيين الآخرين.

منذ استقلال الولايات المتحدة عام 1776، لعب أحفاد المهاجرين الإيرلنديين دوراً رائداً في الحياة السياسية هناك، ولذلك نجد بأن معظم رؤساء الولايات المتحدة كانوا من أصول إيرلندية.

ماذا يمكن أن يحدث للجيل القادم؟

أصدرت منظمة إنقاذ الطفولة مؤخراً تقريراً وثَّقَ لصدمة تكاد لا تُصدَّق بين الأطفال السوريين. مئات الآلاف من هؤلاء الأطفال لم يعرفوا شيئاً سوى الحرب والموت والنهب والخسارة، وعلى إثر ذلك انخفض معدل الالتحاق بالتعليم الابتدائي من /98/ بالمئة قبل الحرب إلى /61.5/ بالمئة هذا العام، مما دفع العديد من المراقبين إلى التكهّن بأن جيلاً كاملاً يواجه خطر الضياع من الناحية الإنسانية، وكذلك في إعادة بناء سوريا في المستقبل. لقد تم إجراء أبحاث مهمة على مستوى العالم حول تجربة الأطفال في مناطق الحروب، والتي تظهر التحديات الهائلة للجيل القادم. تظهر بعض الأبحاث قدراً أكبر من المرونة والقدرة على التكيّف مما كان متوقعاً، خاصة بعد انتهاء القتال.

كيف يمكن لوجود اللاجئين أو مخيمات/ تجمعات اللاجئين أن يساهم في زيادة التهديدات الأمنية والتطرف؟

 لقد قامت الميليشيات المتطرفة في الصراع السوري باقتلاع أو تهجير أعداد كبيرة من السكان، ويخشى الكثيرون، بناءً على التجارب التاريخية الماضية، أن تصبح مخيمات اللاجئين ومجتمعاتهم أرضية رئيسية لتجنيد المنظمات الجهادية والمتطرفين الآخرين.

إن إضفاء الطابع الأمني ​​على قضية اللاجئين، وفهم المشكلة في المقام الأول من خلال عدسة التهديدات الأمنية والتطرف، يحمل الكثير من التكاليف، فإن التطرف لا يجسّد سوى القليل جداً من التجربة الحية للغالبية العظمى من اللاجئين السوريين، فمعظمهم من الناس العاديين الذين يكافحون لإعادة بناء حياتهم على أنقاض الصدمة الغامرة. إن التعامل مع هؤلاء اللاجئين في المقام الأول على أنهم تهديدات أمنية محتملة، سواء من خلال زعزعة استقرار البلدان المضيفة، أو من خلال التجنيد في الإرهاب؛ يشكل ظلماً عميقاً لمشاكلهم الحقيقية. يجب على الباحثين إيجاد طرق للتعامل بجدية مع التحديات الأمنية التي تفرضها مجتمعات اللاجئين والنازحين الكبيرة، دون الاستسلام لإضفاء الطابع الأمني ​​غير المبرَّر على هؤلاء السكان.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..

زر الذهاب إلى الأعلى