آراء وتحليلات

هل سيتمكن أردوغان من الاستثمار في تفجير إسطنبول؟

جميل رشيد

شهدت الأيّام القليلة الماضية، الكثير من اللَّغط والجَّدل، حول التَّفجير الذي حصل في حي تقسيم بمدينة إسطنبول بتركيّا، ودارت تكهُّنات عديدة حول الجهة التي نفَّذت التَّفجير، إلا أنَّ السؤال الجوهريّ؛ يدور حول الجهة المستفيدة منه، ومن خلاله يمكن الاستدلال ومعرفة الجهة المنفِّذة، وكذلك الأبعاد السِياسيّة للعمليّة، إذا ما علمنا أنَّ هدفها سِياسيّ قبل أن يكون إرهابيّاً.

اعتاد حزب العدالة والتنمية وعلى رأسه أردوغان، على استدامة حكمه وسلطته مستفيداً من الأزمات، وكذلك تنتهج معظم أنظمة المنطقة ذاك النَّهج، ولأردوغان تجارب سابقة في هذا المجال، ولا ينقصه غياب الضمير ووزاع الأخلاق في الاستثمار في الإرهاب، لطالما أنَّه وصل إلى سُدَّة الحكم بوسائل وطرق إرهابيّة، ولا يزال يُسَخِّرُ معظم الحركات الإرهابيّة في العالم وفي المنطقة خصوصاً، في تنفيذ مآربه السِّياسيّة، وخاصَّةً في سوريّا وضُدَّ الشَّعب الكُرديّ بالتَّحديد. مثل التَّفجير الذي نفَّذه في مدينة سروج عام 2015، وأودى بحياة /32/ شابّاً اجتمعوا لدعم مقاومة كوباني، وكذلك التَّفجير ضمن تَجمُّعٍ انتخابيٍّ لحزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة في أنقرة في ذات العام، ومحاولة الانقلاب المزعومة التي خَطَّطَ لها أردوغان وحاشيته في 15 يوليو/ تمّوز عام 2016.

فكُلَّما وجد أردوغان نفسه مأزوماً ويسير في طريق فقدان الحاضنة الشَّعبية؛ يعمد إلى افتعال تفجيرات وحروب وهميّة وشَنِّ عدوانٍ خارجيٍّ، بهدف التَّأثير على المواطن التُّركيّ، وإلزامه على الرُّضوخ لسياساته واختياره له أمام صناديق الاقتراع، وتاريخه في السُّلطة يؤكِّدُ هذه الحقيقة التي لا تقبل النِّقاش. فهو يلعب على الوترين القومويّ التُّركيّ والدّينيّ، في تهييج وتأليب مشاعر الأتراك، خاصَّةً ضُدَّ الكُرد، ويستخدم كُلّ إمكانيّات الدَّولة وأجهزتها الأمنيّة الاستخباراتيّة والإعلاميّة في خدمة مصالحه، عبر الإيهام بأنَّ الخطر على تركيّا يأتي من الكُرد والحركات الكُرديّة، ومن خارج تركيّا أيضاً، لِيُقَدِّمَ نفسه على أنَّه الحامي والضامن لوحدة تركيّا وأمنها. فيما يحاول تمرير صفقات سِياسيّة وعسكريّة مع دول أخرى، مثل ممارسته سياسة الابتزاز مع كُلٍّ من السّويد وفنلندا بشأن انضمامهما إلى حلف النّاتو، ويوظِّف عضويّة بلاده في الحلف لصالح تمكين نظامه وإضعاف الحركة الكُرديّة.

لا شَكَّ أنَّ تفجير إسطنبول جاء في توقيت حسّاس بالنِّسبة لأردوغان، لجهة إمكانيّة توظيفه في خدمة أجنداته الانتخابيّة والدِّعائيّة، مع بدء العدِّ التَّنازليّ للانتخابات، في ظِلِّ مؤشِّرات استطلاعات الرَّأي بأنَّ شعبيَّته قد تراجعت كثيراً، فبات بحاجة إلى تغيير موازين القوى، بما يجعله مستعدّاً لخوض الانتخابات وتحقيق النِّسبة المطلوبة لتشكيل الحكومة، وكذلك الفوز بالرِّئاسة للدَّورة الثّالثة، وليعلن نفسه ديكتاتوراً أوحداً على تركيّا، خاصَّةً إذا ما تيقَّنا أنَّ تحالفه مع حزب الحركة القوميّة الفاشيّ يشهد تَصدُّعات كبيرة، إذ أكَّدَت استطلاعات الرَّأي أنَّ الأخير يَمُرُّ بأضعف مراحله، وبأنَّ شعبيّته تدنَّت إلى أقلّ من 7%، ما يعني خسارته في الانتخابات القادمة، وهو ما يدركه أردوغان جيّداً، فيسعى – وبكُلّ قوّة – إلى تغيير تحالفاته الانتخابيّة، فاتَّجه نحو حزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة (HDP)، فهو يدرك أنَّ الأخير بيضة القبّان الوازنة في أيِّ انتخابات، صحيح أنَّه لن يفوز بالأغلبيّة لتشكيل حكومة بمفرده، لكن بالمقابل لن يستطيع أيُّ حزبٍ من تشكيل حكومة دونه. وفي هذا الخصوص تدور تكهُّنات حول وقوف حزب الحركة القوميّة وراء تفجير إسطنبول، لإعادة حزب العدالة والتنمية وأردوغان إلى حظيرة تحالفه معه، وكذلك محاولة إلصاق التَّفجير بـ(HDP) لحظره نهائيّاً.

لا يختلف اثنان أنَّ أردوغان وحزبه يقفون وراء تفجير إسطنبول، خاصَّةً بعد تعدّد السرديّات الممجوجة حول الجهة المنفِّذة له. فعمد وزيره المافيوزي سليمان صويلو إلى توزيع اتّهاماته يميناً وشمالاً على الحركات الكُرديّة التي تعارض نظامه، ليقدِّم عِدَّةَ روايات متناقضة حول التَّفجير، كُلُّ واحدة تنفي سابقاتها، ما يشير، وبكُلِّ وضوح، إلى تَخبُّط النِّظام التُّركيّ، وفشله في تسويق التَّفجير ونتائجه وفق المُخطَّط القذر والخبيث الذي وضعته له. ناهيك عن سلسلة التَّفاصيل المُضلِّلة والتي لا يُصدِّقُها عاقل، بأنَّهم وخلال أقلّ من 18 ساعة تابعوا تسجيلات نحو /1200/ كاميرة مراقبة، واعتقلوا منفّذة التَّفجير “أحلام البشير” مع أكثر من /50/ شخصاً متورّطين فيه.

لن يستطيع أيِّ جهاز استخبارات في العالم، ومهما كانت قوّته، الوصول إلى منفِّذي هكذا جريمة غامضة، وبهذه السُّرعة، بل إنَّ العمليّة برُمَّتها هي من صنع الغرف السُرّيّة للاستخبارات التُّركيّة “الميت”، وبإيعاز من أردوغان، خصوصاً أنَّ أيَّ تفجير يأتي غداة مشاركة أردوغان في مؤتمر دوليّ، ليكسب عطف دول العالم وتأييدها لتنفيذ مخطّطاته. حيث إنَّ تفجير إسطنبول تزامن مع زيارة أردوغان للمشاركة في قمّة العشرين في بالي.

إدانة حزب العُمّال الكُردستانيّ للعمليّة، وكذلك قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة على لسان قائدها العام الجنرال مظلوم عبدي ووحدات حماية الشَّعب والإدارة الذّاتيّة، أدخل الاحتلال التُّركيّ ومعه أردوغان في الزّاوية الحرجة، لجهة فشله في إلصاق تهمة التَّفجير بها، حتّى أنَّ الإعلام العالميّ ركَّزَ على مسألة عدم وجود أيِّ ارتباطٍ بين نضال حزب العُمّال الكُردستانيّ ضُدَّ الجيش التُّركيّ وقوّاته الأمنيّة والاستخباراتيّة وتفجير إسطنبول، فذكرت عدَّة وسائل إعلام غربيّة بأنَّ العُمّال الكُردستانيّ لم يعمد إلى تنفيذ تفجيرات بين المدنيّين، بل جُلُّ عمليّاته تستهدف الجيش التُّركيّ وقوّاته الأمنيّة، وهو ما شَكَّلَ صفعةً قويّةً على وجه أردوغان ونظامه الفاشيّ وخاصَّةً وزيره داخليّته “صويلو”.

يبحث أردوغان عن مسوِّغات للاستفادة من تفجير إسطنبول وشَنِّ عدوانٍ جديدٍ على مناطق شمال وشرق سوريّا، عبر استخدام أداته الجديدة – القديمة “هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً” التي سمح لها بالتمدُّد والسَّيطرة على عفرين.

إلا أنَّ الثَّابت في جميع عمليّات العدوان التُّركيّة السّابقة على مناطق روج آفا وشمال وشرق سوريّا، أنَّ أردوغان لن يتجرَّأ على البدء بأيِّ عدوانٍ دون نيل الضوء الأخضر من الولايات المتَّحدة وروسيّا، ويحاول هذه المرَّة استثمار تفجير إسطنبول في شَنِّ العدوان، خاصَّةً بعد أن تلقّى صدوداً قاسية من إيران وروسيّا في قمَّة طهران في 19 يوليو/ تمّوز الماضي، وكذلك في قمّته مع بوتين في 5 أغسطس/ آب، فبات يفتِّش عن ذرائع أخرى تُبَرِّرُ له شَنَّ العدوان، إلا أنَّه – وفق كُلِّ المعطيات – هذه المرَّة أيضاً لم يتمكَّن من لَيِّ ذراع الولايات المتَّحدة وروسيّا. فلقائه مع الرَّئيس الأمريكيّ في بالي، لم يسفر عن نتائج تُرضي أردوغان وغروره في شَنِّ العدوان والتمدّد في المنطقة، حتّى أنَّ صفقة طائرات “F – 16″، ورغم موافقة الكونغرس الأمريكيّ عليها، إلا أنَّ قرار تنفيذها لايزال بيد بايدن، الذي عاد وربط موافقته عليها بإلغاء صفقة صواريخ “S – 400” الرّوسيّة، وهو ما لا يقبل به أردوغان. كذلك بات بايدن وإدارته تشكّكان في الدَّور التُّركيّ في الحرب الرّوسيّة – الأوكرانيّة، خاصَّةً بعد أن انحازت لصالح روسيّا، وغدا ما تفعله في أوكرانيا مثار تساؤلات عديدة داخل أروقة حلف “النّاتو”.

التَّحذير الصادر من القُنصليّة الأمريكيّة مساء أمس، بعدم سفر رعاياها إلى شمال وشرق سوريّا، وأنَّ هناك مؤشِّرات عن عدوان تركيّ على المنطقة، سُرعان ما نفته وزارة الخارجيّة الأمريكيّة، وكُلُّ الاعتقاد أنَّ الموقف الأمريكيّ من أيّ عدوانٍ لن يَخرج عن سياق المواقف الرَّسميّة، حيث حذَّرت واشنطن – وفي وقت سابق – أنقرة عبر وزير الخارجيّة أنطوني بلينكن، من أيّ تدخُّلٍ في سوريّا، عبر قوله إنَّ “أيَّ تصعيد في سوريّا هو أمرٌ نعارضه”.

وأيّ موافقة أمريكيّة على العدوان، تستدعي بالضرورة سحب قوّاتها المنتشرة في المناطق التي ينوي أردوغان غزوها، ولم يلمس أحد أيّ تحرُّكٍ أمريكيّ على الأرض حتّى الآن.

وروسيّا التي لم يصدر عنها أيِّ موقف رسميّ، يبدو أنَّها لازالت تُراقب الأوضاع عن كثب، وهي بكُلِّ الأحوال لا تغامر بالوقوف مع أردوغان ومنحه الموافقة على شَنِّ أيّ عدوان على مناطق شمال وشرق سوريّا، والتَّضحية بمكتسباتها في سوريّا، خاصَّةً أنَّ أردوغان لم يلتزم ببنود أيّ من الاتّفاقيّات التي وقَّعتها معها، إن كانت سوتشي الأولى والثّانية بخصوص انسحاب الإرهابيّين من إدلب وتسليم الطريق الدّوليّة (M4) إلى الحكومة السُّوريّة.

كذلك الموقف الصادر عن وزير الخارجيّة السُّوريّ فيصل المقداد باستعداد بلاده رَدَّ أيّ عدوانٍ تركيٍّ على الأراضي السُّوريّة، يمكن البناء عليه في بناء تحالف بين قوّات النِّظام وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة في تشكيل تحالف وجبهة عريضة لمقاومة أيِّ عدوانٍ تركيٍّ محتمل.

إنَّ شَنَّ الاحتلال التُّركيّ أيَّ عدوانٍ جديدٍ على مناطق شمال وشرق سوريّا من عدمه، مرهونٌ بالدَّرجة الأولى بموافقة الدّول الفاعلة على السّاحة السُّوريّة، وخاصَّةً الولايات المتَّحدة الأمريكيّة وروسيّا، والمناخ الإقليميّ والدّوليّ، وكذلك السُّوريّ، لا يشي بذلك ولا يخدم أردوغان وأطماعه التوسُّعيّة في المنطقة، كما أنَّ إحباط أيّ عدوانٍ – إن حصل – متروك لقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة ومن ورائها شعوب ومكوّنات شمال وشرق سوريّا، والقادمات من الأيّام ستشهد تطوّرات متسارعة، إلا أنَّها بالمُطلق لن تكون كما يشتهيها أردوغان.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..

زر الذهاب إلى الأعلى