آراء وتحليلات

المتغير والثابت في عدوان تركيا على شمال وشرق سوريا

جميل رشيد

تَراجَعت وتيرة التَّهديدات التُّركيّة في شَنِّ عدوانٍ برّيٍّ على مناطق شمال وشرق سوريّا، إثر جملةٍ من المُتغيّرات السِّياسيّة والعسكريّة، وإقليميّاً ودوليّاً، وضغطت باتّجاه لجم أيَّ مغامرة تركيّة غير محسوبة العواقب، لتلبّي نزوات أردوغان الانتخابيّة وأهوائه في تنفيذ أحلامه الطورانيّة.

ما لا شك فيه أنَّ دولة الاحتلال التُّركيّ، ورغم استخدامها أحدث ترسانتها التَّسليحيّة، من طائرات حربيّة ومُسيَّرة وكافَّة صنوف الأسلحة الثَّقيلة، في الهجمات المتواصلة منذ أكثر من ثلاثة عشر يوماً، إلا أنَّها لم تحقّق النتائج التي خطَّطَ لها الاحتلال، وأوَّلُها كسر إرادة الشَّعب في المنطقة، وزعزعة ثقته بقوّاته العسكريّة، وتالياً دفعه نحو النُّزوح وترك الأبواب مفتوحة أمامه لاحتلال مزيد من الأراضي. وثانيها؛ أنَّ قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، استطاعت، ومن خلال التَّدابير الوقائيّة التي اتَّخذتها في الحماية والدِّفاع، من امتصاص الضربات، وخاصَّةً الجوّيّة منها، وجعلها تُخيِّب أهداف وآمال من يقفون وراءها، ما اضطرَّ معه الاحتلال إلى تدوير بوصلته نحو استهداف المناطق المدنيّة والمنشآت الحيويّة مثل آبار النَّفط والغاز وصوامع الحبوب والمستشفيات والمدارس، بعد أن جُنَّ جنونه، فصَبَّ جام غضبه الأرعن على تلك المرافق، في مسعى لإلحاق أكبر الأضرار الماديّة بها، وجعل الشَّعب يعيش الفاقة والعوز، بعد فقدان الغاز وانقطاع الكهرباء عن معظم المناطق.

يبدو أنَّ الذَّريعة التي سَوَّقَ لها الاحتلال لتبرير شَنِّ الهجمات الجوّيّة والقصف البعيد، أي مؤامرة تفجير حي تقسيم بإسطنبول صار في خبر كان، ولم يعد يأتي على ذكره، بعد أن فَنَّدَ القائد العام لـ(قسد) الأكاذيب التُّركيّة في اتّهام قوّاته به، فوقعت تركيّا في دائرة الاتّهام المباشر وتكتَّمت على الموضوع، وبدأت تسوِّق لموضوع الهجوم البرّيّ على أنَّ إشارة البدء رَهنُ السّاعة وربع السّاعة، ليمارس حرباً نفسيّة خاصَّةً ضُدَّ شعبنا وشعبه، موهماً أنَّ جميع مشاكل تركيّا ستنتهي مجرّد البدء بالعدوان.

اعتاد النظام التُّركيّ على ممارسة سياسة شعبويّة رخيصة وقذرة وخادعة، ليهدف من ورائها إلى خلق قطيع أعمى يتبع سياساته الخرقاء، ولا يُناقش ويسأل عن أسباب ودوافع تصرّفات حكومته الفاشيّة، وهذه من أكبر المصائب التي ابتليت بها تركيّا، بل إنَّه عمد إلى استنساخ تلك التّجربة على مرتزقته وفي المناطق التي يحتلَّها في سوريّا أيضاً، وتجلَّت أكثر من خلال جماعة الإخوان المسلمين الإرهابيّة، التي تعمل وفق مبدأ التقيّة السِّياسيّة و”أطيعوا أولي الأمر منكم”، وهو الفقه الذي يتمسَّك به الإخوان.

تباينت المواقف الإقليميّة والدّوليّة حيال العدوان التُّركيّ على مناطق شمال وشرق سوريّا، حتّى أنَّ العديد من الدّول التزمت جانب الصَّمت، وبعضها ماطلت وتأخَّرت في التعليق على العدوان، وخاصَّةً الولايات المتّحدة الأمريكيّة. فمنذ ما قبل العدوان بأيّام، كانت الإشارات الصادرة من واشنطن تفيد بموافقتها الضمنيّة على العدوان، ولو على مضض، خاصَّةً حينما حذَّرت رعاياها من السَّفر إلى مناطق شمال وشرق سوريّا وإقليم جنوب كردستان أيضاً. وتركيّا تبحث عن تلك الإشارة للبدء بعدوانها، ويًرجَّح أنَّ الولايات المتّحدة فتحت المجال الجوّيّ أمام الطيران التُّركيّ للتَّحليق في أجواء مناطق شمال وشرق سوريّا، ولولا ذلك لم تجرَّأ أردوغان في زجِّ طيرانه بالمعركة، دون الموافقة الأمريكيّة.

رسائل سياسيّة متعدّدة أرسلتها تركيّا عبر طيرانها، وإلى عدَّة اتجاهات وقوى، وأقواها إلى الولايات المتّحدة، خاصَّةً أثناء قصفها قاعدة عسكريّة مشتركة لوحدات مكافحة الإرهاب (YAT) وقوّات التَّحالف الدّوليّ، مفادها أنّ تركيّا ستستهدف قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة حتّى ولو كانت المنطقة المستهدَفة تحت الحماية الأمريكيّة، هكذا أرادت لها تركيّا أن تكون. إلا أنّ الوقائع السِّياسيّة والعسكريّة على الأرض، دحضت التَّفكير التُّركيّ الساذج والسَّطحيّ، من خلال إعادة توزيع (قسد) لقوّاتها بشكل صحيح، بحيث تتفادى الغارات الجوّيّة التُّركيّة، وأعادت التمويه، لترتدَّ مفاعيل الرِّسالة التُّركيّة عليها نفسها.

كما أنَّ استهداف قوّات حكومة دمشق بشكل ممنهج ومخطَّط، أرادت تركيّا من ورائها إيصال رسالة إلى دمشق بأنَّ أيَّ تحالف مع (قسد) خطٌّ أحمرٌ، وستقف ضُدَّهُ بالمرصاد، وهو ما تبيَّنَ عدم جدواها أمام إصرار (قسد) على أن تضطلع قوّات حكومة دمشق بمهامها في حماية السِّيادة والحدود السُّوريّة، الأمر الذي دفع الأخيرة إلى حشد قوّات إضافيّة لها في مناطق التَّماس مع الاحتلال التُّركيّ.

روسيّا بدورها التزمت الصَّمت في الأسبوع الأوَّل من الضربات الجوّيّة، وكأنَّها تترقب لتتأكَّدَ من النوايا التُّركيّة وتمتحن قدراتها في إلحاق أضرار كبيرة بقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، إلى أن انجلى غبار المعارك نوعاً ما، فتحدَّثَ أكثر من مسؤول روسيٍّ ودعا إلى ضرورة وقف التَّصعيد والغارات الجوّيّة، رغم أنَّها هي الأخرى فتحت الأجواء السُّوريّة في البداية أمام الطيران التُّركيّ.

الثّابت في كُلِّ تلك المُتغيِّرات أنَّ (قسد) رسمت مساراً جديداً لسير المعارك، وكبّلت الإرادة التُّركيّة المنفلتة من عقالها بأكثر من قيد، فلقاءات قياداتها مع المسؤولين الأمريكيّين والرّوس، أنتجت حالة من الضغط على تركيّا، وفتحت المجال أمام دبلوماسيَّتها المرنة في التّعاطي مع العدوان اعتماداً على قدراتها العسكريّة ونباهة قياداتها في التحرّك السريع وتغيير التَّكتيكات وفق متطلَّبات الواقع.

المؤتمرات الصحفيّة التي عقدها القائد العام لـ(قسد) مظلوم عبدي بعد منتصف اللّيلة الأولى لوقوع العدوان، وكذلك المؤتمرات التي تلتها؛ كشفت أوراق الاحتلال التُّركيّ البالية، وأسقطت عنه ورقة التوت التي كانت تغطّي عورته. القضيّة الجوهريّة التي ركَّزَ عليها عبدي تمحورت حول أنَّ أيَّ عدوانٍ برّيٍّ تركيٍّ جديدٍ على مناطقهم لن يكون كسابقاته على عفرين وسري كانيه وكري سبي، وأكَّدَ أنَّ تركيّا ستواجه مقاومة شاملة وتاريخيّة، ستكون كفيلة بإلحاق الهزيمة بها. وهذا ما ولَّدَ راحةً نفسيّةً لدى الأهالي وعزَّزَ من ثقتهم بقوّات (قسد).

المُتغيّر الآخر، والذي ساهم في خفض تركيّا لهجتها التَّصعيديّة في شَنِّ العدوان البرّيّ، تمثَّلَ في تغيّر الموقف الأمريكيّ، والذي عبَّرَ عنه مسؤولون في وزارة الدِّفاع (البنتاغون)، وعلى رأسهم وزير الدِّفاع “لويد أوستن” عندما تحدَّث مع نظيره التُّركيّ أكّار، وقطع الشَكَّ باليقين عندما قال بأنَّ بلاده ضُدَّ أيّ عمليّة عسكريّة تركيّة ضُدَّ شركائهم في شمال وشرق سوريّا، ليعود بعدها أكّار ويطلب من أمريكا قطع الدَّعم عن (قسد) وتحويله إلى تركيّا، عبر التساؤل الذي طرحه؛ هل (قسد) حليفكم أم تركيّا؟ عليكم تحويل الدَّعم لتركيّا.

تَغيُّرُ الموقف الأمريكيّ استتبع تغييرات في مواقف عدَّة دول أوروبيّة وإقليميّة أيضاً، مثل فرنسا التي أعلنت معارضتها لأيّ عملٍ عسكريٍّ تركيٍّ جديد في سوريّا، وتحت أيّ ذريعة كانت، كما أنَّ روسيّا المهزومة في أوكرانيا، انصاعت – ولو بشكل غير مباشر – للتغيُّر في الموقف الأمريكيّ، وأبدت معارضتها للعدوان، بل حشدت المزيد من قوّاتها في جبهات ريف حلب الشّماليّ والشَّرقيّ، ونسَّقت المواقف مع (قسد) أيضاً، رغم ممالأتها لتركيّا ومحاولة استخدام الضغط على الإدارة الذّاتيّة و(قسد) لصالح حكومة دمشق، إلا أنَّ الثّابت في معادلة الأزمة السُّوريّة؛ أنَّ روسيّا غير قادرة على تحريك أيّ ملفٍّ دون موافقة الولايات المتّحدة، فالتَّنسيق بينهما لايزال جارياً كما كان ولم تُفسده مجريات الحرب في أوكرانيا.

إنَّ شَنَّ تركيّا العدوان من عدمه، مرهون بالدَّرجة الأولى بقدرة قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة على الرَّدعِ والمقاومة، وهي تعزَّزت بفعل اختبارها أسلوب الاحتلال التُّركيّ في المرّات السابقة، إضافة إلى قوَّة الضَّغط الذي شكّله الرَّأي العام العالميّ، خاصَّةً من قبل الدّول الفاعلة في الأزمة السُّوريّة، وهو على الأرجح أنَّ هذا الضغط سيدوم، على الأقلّ خلال الأشهر القليلة القادمة، ما يُكبّل أيَّ قدرة تركيّة في شَنِّ العدوان ويجعلها ترتدُّ على نفسها وتعلق جراحها وتعيد حساباتها.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..

زر الذهاب إلى الأعلى