آراء وتحليلات

استراتيجية “داعش” الجديدة في سوريا

مصدر الصورة: رويترز

جميل رشيد | مجهر

أعاد تنظيم “داعش” الإرهابيّ بعد هجومه الفاشل على سجن الصِّناعة في مدينة الحسكة، تنظيم صفوفه، على شكلٍ مغايرٍ لما هو معتاد، وبدأ ينشط في عِدَّةِ مناطق سوريّة، مستفيداً من الدَّعم والملاذ الآمن الذي توفِّره له قوّات الاحتلال التُّركيّ في مدينتي رأس العين وتل أبيض، وعفرين وباقي المناطق المحتلّة من قبلها.

لا شَكَّ أنّ الضربة المميتة للتَّنظيم الإرهابيّ التي تلقّاها في الثّالث والعشرين من مارس/ آذار 2019 بالباغوز، آخر معاقله في سوريّا، جعلته يلجأ إلى أسلوب التخفّي والعمل في الظلام، محاولاً لملمة خلاياه النّائمة. ومنذ ذلك التّاريخ يتَّخِذُ التَّنظيم الصَّحراء السُّوريّة الوسطى مركزاً أساسيّاً له؛ لجهة التموضع وإعادة العمل فيها. يَهدُف تنظيم “داعش” حاليّاً إلى زيادة مناطق سيطرته وإعادة تشكيل هياكله الأمنيّة والعسكريّة وتوسيع مناطق نفوذه، عبر تشكيل الخلايا النّائمة وتحريكها لتوجيه ضربات خاطفة، وتنفيذ الاغتيالات واستهداف النِّقاط العسكريّة والمدنيّة الثّابتة والمتحرِّكة أيضاً، وتفجير العبوات النّاسفة والسيّارات المفخَّخة، مستفيداً من هفوات أعدائه، ومستغلّاً الامتداد والطبيعة الجغرافيّة الصعبة، حيث تمرَّس أعضاؤه على القتال في أصعب الظروف والحالات، مثل العواصف الرَّمليّة التي تضرب مناطق مسرح عمليّاته ونشاطه الإرهابيّ.

بالرَّغم من عدم وجود أعداد معروفة لعناصر التَّنظيم في وسط سوريّا والبادية الشَّرقيّة؛ إلا أنَّهم يُقدَّرون بثلاثة آلاف مقاتل، حسب مصادر استخباراتيّة غربيّة. ففي حين تعاني منطقة انتشاره من وضعٍ اقتصاديٍّ مزرٍ؛ فإنَّ التَّنظيم يعتمد على موارد ماليّة عِدَّةٍ، أبرزها فرض الضرائب والإتاوات على السُكّان المحليّين والتُجّار، وكذلك “الغنائم” التي يستولي عليها من خلال نصب الكمائن ضُدَّ عناصر النِّظام السُّوريّ، بالإضافة إلى استفادة تنظيم داعش من مخزونه من المال والسِّلاح عندما كان في أوج سيطرته أعوام 2016 – 2017.

ما يُميّزُ الحراك العسكريّ لتنظيم “داعش” أنَّه يُركِّز هجماته على مناطق سيطرة النِّظام السُّوريّ وحلفائه من الفصائل الموالية لإيران، عبر توجيه ضربات مباغتة لقوّاته المنتشرة في البادية السُّوريّة، حيث يعتمد التَّنظيم بشكل أساسي على بادية تدمر (جبل أبو الرّجمين) والممتدّة حتّى السّويداء، والمتّصلة ببادية دير الزور، وصولاً إلى صحراء أثريا، الممتدَّة حتّى منطقة السَّلميّة التّابعة لمحافظة حماة، يتنقَّلُ عبرها ويستفيد من انتشاره على الحدود السُّوريّة الأردنيّة أيضاً للتزوّد بالمواد اللّوجستيّة والمُعِدّات العسكريّة، رغم أنَّ قسماً كبيراً من الأسلحة والذَّخائر تعود إلى فترة سيطرته على المنطقة، كان قد خبّأها في مستودعات سُرّيّة في البادية. فالتَّضاريس الوعرة والمعقَّدة من صحراء وجبال؛ تساعد “داعش” في عمليّات الاختباء والتمويه ونصب الكمائن، إضافة لحفاظه على خطوط الاتّصال مع عمقه في العراق، وتمنحه أريحيّة في التحرُّك والإفلات من الضربات الجوّيّة الرّوسيّة وملاحقة قوّات النِّظام السُّوريّ.

تُشكِّلُ جغرافيّة مناطق انتشار “داعش” الحاليّة في سوريّا، عامِلَ قوّة للتَّنظيم تمكِّنه من إعادة تنظيم نفسه، حيث يستفيد من غياب أيِّ إرادة عسكريّة حقيقيّة من جانب القوّة المنتشِرَة في تلك المناطق لمكافحة التَّنظيم فيها. فهذه المنطقة إمّا خالية من أيِّ قوّة عسكريّة محلّيّة، أو مشغولة من قبل قوّات النِّظام السُّوريّ وحلفائه مثل روسيّا وإيران، وهذه القوّات تسعى لتأمين وجودها ومصالحها الاقتصاديّة على الطُرُقات الرَّئيسيّة المؤدّية إلى الحواضر الأساسيّة مثل مدن دير الزور وحمص ودمشق ولا تبدو مكافحة التَّنظيم من أولويّاتها على المدى المنظور، على عكس قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة التي تُبدي إرادة حقيقيّة في مكافحة خلاياه النّائمة، وتُطلق الحملة تِلوَ الأخرى لضرب أوكاره، وتَنجح في اعتقال قيادات بارزة منه.

يَسعى التَّنظيم الإرهابيّ، جاهِداً، إلى إحياء نفسه، عبر تطوير هيكليّات أمنيّة “ولايات أمنيّة” في قلب الصَّحراء السُّوريّة، ونشرها على شكل خلايا أمنيّة، تتحرَّكُ بنشاطٍ في مناطق مختلفة من سوريّا، وبالأخصِّ في أرياف دير الزور والرَّقّة والسُّويداء. وتبدو، ومن خلال عمليّاته الإرهابيّة، أنَّ التَّنظيم يُركِّز على استهداف قيادات في الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة في مناطق شمال وشرق سوريّا، والعمل على بثِّ الرُّعب بين العشائر العربيّة هناك، لضمان عدم الانضمام إلى صفوف قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، وكذلك لتأمين شبكات التَّهريب لجلب العناصر الجُدُد إلى الصَّحراء السُّوريّة.

إنَّ تحرُّكات “داعش” النَّشِطة في سوريّا، ونظراً لغياب إستراتيجيّة واضحة لدى الأطراف الفاعلة في السّاحة السُّوريّة، باستثناء قوّات سوريّا الدّيمقراطية؛ يبدو جليّاً أنَّ خطر “داعش” لن يزول على المدى القريب والمتوسِّط. إلا أنَّ أوساط سياسيّة وعسكريّة واستخباراتيّة، وكذلك المجتمع الدّوليّ، وخاصَّة التَّحالف الدّوليّ لمكافحة التَّنظيم الإرهابيّ، لايزال يَجِدُ في قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة القُوَّة الوحيدة المؤهَّلة لاستمرار مكافحة التَّنظيم، رغم انشغالها في المناطق التي تحتلُّها تركيّا في الشَّمال السُّوريّ.

وقال القائد العام لقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة “مظلوم عبدي” في وقت سابق من الشَّهر الماضي، إنَّ “شَنَّ تركيّا لأيِّ عدوانٍ على مناطق شمال وشرق سوريّا، سيؤثِّر على مكافحتهم لتنظيم “داعش” الإرهابيّ، نظراً لانشغال قوّاتنا في ردِّ العدوان عن مناطقنا”، خاصَّة أنَّ العدوان سيمنح حُرّيّة الحركة للعناصر الموجودة في مُخيَّم الهول، حيث تُشكِّلُ قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في أيِّ وقت كان، والاحتلال التُّركيّ يمنح التَّنظيم جرعة إضافيّة لإحياء نفسه.

قضيّة التَّنظيم الإرهابيّ ووجوده يُشكِّلان خطراً على العالم أجمع، ومن الضروريِّ في هذا السِّياق، زيادة دعم قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، خاصَّة من جانب قوّات التَّحالف الدّوليّ، والعمل بجدّيّة على توفير دعم أمنيٍّ وعسكريٍّ كافٍ ومتزايد، يساهم في تطوير الهياكل الأمنيّة لـ(قسد). كما أنَّ الضغط على تركيّا والمرتزقة التّابعين لها في المناطق المحتلّة من قبلها، يعتبر مفتاح القضاء على “داعش” واجتثاث جذوره، وبالتّالي التَّأثير على حاضنته الشَّعبيّة في المناطق التي طالتها الحرب وأحيلت إلى خراب ودمار. كما أنَّ الشروع في إطلاق مشاريع تنمويّة وبناء البُنية التحتيّة وافتتاح المدارس وتوفير فرص العمل؛ إنَّما كُلّها عوامل تساعد في القضاء على البيئة التي ينمو ويتطوَّر فيها التَّنظيم الإرهابيّ.

من جانب آخر، تُعَدُّ المُخيَّمات والسُّجون التي تحوي الآلاف من مقاتلي وعوائل تنظيم “داعش” والخاضعة لسيطرة قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة مثل مُخيَّم الهول، الذي يحوي العدد الأكبر من عوائل التَّنظيم، هدفاً أساسيّاً لخلايا التَّنظيم. فالمُخيَّم يحوي الآلاف من “أشبال الخلافة” المُفعمين بالفكر “الداعشي” المتطرّف وإيديولوجيّته، والذين يرى فيهم التَّنظيم الأمل الكبير في إعادة إحيائه على المستويين الإقليميّ والعالميّ، كونهم ينحدرون من جنسيّات مختلفة حول العالم. ومطالبة الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة بضرورة تشكيل محكمة دوليّة لمقاضاة عناصر التَّنظيم المحتجزين لديها؛ لم تلقَ آذاناً صاغية لدى المجتمع الدّوليّ، كما أنَّ عزوف بعض الدّول عن استلام رعاياها من العناصر المُحتجزَة، يُشكِّلُ عبئاً إضافيّاً على الإدارة الذّاتيّة و(قسد). فالهجوم الوحشيّ والدَّمويّ الذي شَنَّه التَّنظيم في يناير/ كانون الثّاني الماضي على سجن الصِّناعة، جاء بتخطيط من دولة الاحتلال التُّركيّ، كما أفصحت عنه اعترافات عناصر من “داعش” تمكَّنت القوّات الأمنيّة التّابعة لـ(قسد) من إلقاء القبض عليها، وأكَّدَت أنّ غرفة عملياّت الهجوم كانت في مدينة سري كانيه/ رأس العين الواقعة تحت الاحتلال التُّركيّ.

يرى خبراء في مكافحة الإرهاب أنَّ إعادة إعمار المناطق المُحرَّرة من تنظيم “داعش”، والاهتمام في إرساء نظامٍ اقتصاديٍّ يحمي السُكّان المحليّين، سوف يَحُدُّ من التوجُّه نحو التطرُّفِ مجدَّداً، فالتَّجربة أثبتت أنَّ المعالجة الأمنيّة وحدها لن تكفي في القضاء على خطر التَّنظيم، فهو يتغذّى من البيئة الفقيرة والبعيدة عن التَّعليم والمُدمَّرة اقتصاديّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً.

تبقى إزالة خطر التَّنظيم الإرهابيّ مرهونةٌ بالجهود الدّوليّة في تقويض الأسس التي يعتمد عليها في إعادة تشكيل خلاياه، فرُغمَ أنَّ الولايات المُتَّحدة الأمريكيّة تمكَّنت من القضاء على زعماء التَّنظيم الإرهابيّ الرّئيسيَين، البغداديّ وقرداش، إلا أنَّ التَّنظيم لايزال يتمتَّعُ بقدرة على التحرّك، خاصَّة في سوريّا، وهو ما يفترض أن يواجه بحزمٍ دوليٍّ وإقليميٍّ، إن توفَّرت الإرادة في استئصاله من جذوره.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها

زر الذهاب إلى الأعلى