الانتخابات التركية سوريا
جميل رشيد
باتت الانتخابات التُّركيّة حديث السّاعة في الأوساطِالسِّياسيّة والدِّبلوماسيّة والإعلاميّة، حيث يفصلها أسبوع عن موعد إجرائها، مع اشتداد الحملات الدِّعائيّة من كلا الطرفين، التَّحالف الحاكم والمعارضة، وتزايد كَيلُ الاتّهامات لبعضهما، حتّى وصل بهما إلى حَدِّ التشكيك في وطنيّة بعضهما والعلاقة مع الإرهاب ودعمه، والسَّير وراء التَّحالف الرّوسيّ الصّينيّ والابتعاد عن القيم الغربيّة، فضلاً عن وَسْمِ التَّحالف الحاكم بالتشدُّدِ الدّينيّ، والاعتماد عليه كإحدى أبرز وسائل التَّرويج للبرامج الانتخابيّة وسبيلاً لاستغلال وكَسبِ الطبقة المُتديّنة، والدَّفع، وبالاعتماد عليها، نحو فرضِ القطيعة مع الغرب، عبر الادّعاء بأنَّه “الغربُ الكافر”.
إلا أنَّ أهمَّ مسألة محوريّة تَنقسم حولها المعارضة والتَّحالف الحاكم، وتُعَدُّ قضيّة مفصليّة، ورُبَّما تكون مصيريّة لكُلّ منهما، هي الأزمة السُّوريّة وتداعياتها على الدّاخل التُّركيّ، وحضورها بقوَّةٍ في الانتخابات التُّركيّة، إن كانت البرلمانيّة أو الرِّئاسيّة، على حَدٍّ سواء.
فمثلما مثَّلتتركيّا– ولا تزال – الجزء الأكبر من الأزمة السُّوريّة، عبر تدخّلاتها السّافرة فيها واحتلالها لأراضيها، فإنَّ ارتداداتها الآن تنعكس على داخلها عبر تخبُّط القوى السِّياسيّة التُّركيّة في كيفيّة التَّعامل معها، ولم تَعُدْ كما في السّابق، مصدراً للاستثمار فيها، من قبيل ابتزاز الدّول الغربيّة في قضيّة اللّاجئين، وأيضاً احتلال الأراضي السُّوريّة، عبر الاعتماد على أدواتها من السُّوريّين المرتبطين بها.
لا شَكَّ أنَّ القضيّة الكُرديّة أيضاً هي حاضرة في الانتخابات التُّركيّة، وتهافُتُ كلا الطرفين على محاولة اللَّعب بها كورقة أمام صناديق الانتخابات، لم يَعُد ينخدع بها الشَّعبُ الكُرديّ، فكلاهما وَجهانِ لعملةٍ واحدة، يتنكّران لحقوق الشَّعب الكُرديّ، ويرفضان وجودَه كُلّيّاً. وما التَّصريحات الصادرة من هذا الطرف أو ذاك، إلا محاولة لذرِّ الرَّماد في العيون واستمالة الكُرد لنيل أصواتهم.
ولجوء حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان للتَّفاوض مع الزَّعيمِ الكُرديّ الأسير عبد الله أوجَلان في سجن إيمرالي، عبر وفدٍ ترأّسه رئيس هيئة الاستخبارات حقّان فيدان شخصيّاً، ما هو إلا دليلٌ على قُوَّةِ الكرد، وإدراك أردوغان أنَّ أصواتهم رُبَّما تَحسم المعركة الانتخابيّة لصالح الطرف الذي يؤيّده الكُرد. ولكن ارتدَّ وفدُ أردوغان خائباً من مفاوضاته مع السيّد أوجلان، حيث وضع أمامه شروطاً، رُبَّما أكبر من حجم أردوغان وحزبه ليقبل با، ألا وهو طلب أوجلان من أردوغان الإعلان بشكل رسميٍّ ومكتوبٍ، وعلى جميع الوسائل الإعلاميّة، حَلَّ القضيّة الكُرديّة، وإطلاق سراحه مع الزَّعيم السّابق لحزب الشُّعوب الدّيمقراطيّة صلاح الدّين دميرتاش. إلا أنَّ أردوغان رفض شروطَ أوجلان، وعاد هذه المَرَّة ليعزف على الأسطوانة القديمة المشروخة ليدَّعي “بأنَّه مع الكُردِ وضُدَّ حزب العُمّال الكُردستاني” وليستمرّ في خداعه ويقول بأنَّه”يجب الفصل بين الكُرد وحزب العُمّال”، ويَقصد به الكُرد “الجيدين” الخانعين، المستسلمين، المؤيّدين لسياسته في الإنكار لحقوق شعبهم، والدّاعمين له في احتلال عفرين، سري كانيه، وكري سبي، هؤلاء الكُردِ الذين يساهمون معه في اعتقال الكُرد الوطنيّين الشُّرفاء، نعم هو يؤيّد ويدعم الكُرد المنسلخين عن كُرديّتهم، ويدَّعون بأنَّهم أتراك، مثل زعيم حزب “HUDA – PAR” الإسلاميّ الإرهابيّ.
كما أنَّ تأييد أطراف المعارضة السُّوريّة التّابعة لتركيّا لأردوغان، وخاصَّةً جماعة الإخوان المسلمين الإرهابيّة، أسفرت عن وجهها السافر الدّاعم لأردوغان عبر إصدارها لفتوى دينيّة، تَحُثُّ فيها المواطنين الأتراك، وكذلك السُّوريّين الحاصلين على الجنسيّة التُّركيّة، للتَّصويت لصالح أردوغان وحزبه، واعتبرته “واجباً شرعيّاً ونُصرةً للإسلام والمسلمين”، وهي تُعتبر انحيازاً واضحاً لخياراتها في تَسَيُّدِ التيّار الإسلاميّ السُّلطة في تركيّا، حيث أنَّها ربطت مصيرها به، أي بأردوغان وحزب العدالة والتنمية، وأيُّ خسارة للأخير في الانتخابات يعني أنَّ مصيرها بات على كفِّ عفريتٍ، ولذلك تُعِدُّ خسارَةَ أردوغان خسارةً لها أيضاً.
كذلك هرولة أردوغان نحو موسكو في سعيٍ لإنجاز انتصار في مسار المصالحة مع الحكومة السُّوريّة، ألجمته المبادرة العربيّة في الانفتاح على دمشق وتطبيع العلاقات معها، بعد القوَّة التي اكتسبتها الأخيرة من بعض الدّول العربيّة، وعلى رأسها السُّعوديّة ومصر، ما جعل أردوغان يصيب بخيبةِ أمل من حليفه الرّوسيّ بوتين في تقديم دَعمٍ له، رُبَّما كانسيساهم في فوزه بالانتخابات. كذلك لم تنفعه مناوراته البهلوانيّة الأخيرة في افتتاح مَحطَّةِ “أكويو” النوويّة في إزمير، وكذلك مصنع السيّارات التُّركيّة، والوعود التي أطلقها في زيادة الرَّواتب، وتخفيض سِنِّ التقاعد، وإعادة إعمار مساكن للمتضرّرين من الزلزال الأخير الذي ضرب بعض المحافظات التُّركيّة.
فيما محاولة الولايات المتّحدة الأمريكيّة سحب ورقة المعارضة من يد أردوغان، وإعادة هيكلتها، وبما يتوافق مع التوجُّهات الأمريكيّة حيال الأزمة السُّوريّة، أفقدت أردوغان الورقة القويّة، التي طالما كان يتلاعب بها ويبتزُّ بها الجميع بما فيها الدّول الأوروبيّة والولايات المتّحدة. فالزّيارة الأخيرة لوفد الإئتلاف لواشنطن واجتماعه مع مسؤولين أمريكيّين، وكذلك اللّقاء مع ممثّلي مجلس سوريّا الدّيمقراطيّة في الولايات المتّحدة، والذي أَعَدَّت له واشنطن، إنَّما يُشيرُ إلى معارضة أمريكيّة لفوز أردوغان في الانتخابات، وعرقلة مشاريعه لما قبل وبعد الانتخابات، وأهمُّها نزع ورقة المعارضة السُّوريّة من يديه، والعمل على دَعمِ المعارضة التُّركيّة المتمثّلة بالتَّحالف السداسي ومرشَّحه كمال كليجدار أوغلو. وحاول أردوغان الضرب على هذا الوتر، لاستقطاب القوميّين الأتراك وكسب أصواتهم، عبر الادّعاء بأنَّ منافسه، وفي حال فوزه في الانتخابات سيبيع تركيّا للغرب وللولايات المتّحدة، وهي كانت بمثابة النَّفخ في قُربَةٍ مثقوبة، ارتدَّ صداها عليه هو فقط، ولم تلقَ أيّ تجاوب لها في الأوساط الشَّعبيّة.
غير أنَّه وعلى الضفَّةِ الأخرى، فإنَّ فوز أردوغان أو خسارته، سيعيد المنطقة إلى المربَّعِ العنفيِّ الأوَّل، وخاصَّةً في سوريّا، وجميع الأطراف والدّول والقوى السِّياسيّة والعسكريّة، تخشى من مناورات أردوغان غير المحسوبة والمنفلتة من عقالها. فعلى الصَّعيد التُّركيّ حذَّرَ كليجدار أوغلو مناصريه من مَغبَّةِ الخروج من منازلهم في حال فوزه في الانتخابات، متوقِّعاً حملة شرسة واعتداءات من قبل مُناصري أردوغان من الإسلاميّين المتشدّدين، ويقصد بهم أنصاره من “داعش” و”النصرة” و”HUDA –PAR”. وسيحاول أردوغان تحريك أذرعه في سوريّا أيضاً، من خلال دفعهم لشَنِّ هجمات واعتداءات على مختلف مناطق شمال وشرق سوريّا، وكذلك مناطق سيطرة قوّات الحكومة السُّوريّة، وخاصَّةً تلك المُتاخمة لسيطرة “هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً”.
كما أنَّ صيغة التَّحالفات في المنطقة والعالم سيطرأ عليها الكثير من التغيير في حال خسارة أردوغان الانتخابات. فلا شَكَّ أنَّتركيّا ستَعمد إلى سحب قوّاتها من سوريّا ومن مناطق عديدة في المنطقة عاجلاً أو آجلاً في حال خسر أردوغان الانتخابات أو فاز فيها، وذلك تحت الضغط المتشكِّل عليها من قبل قوى ودول ترى في الوجود التُّركيّ بسوريّا احتلالاً يَستوفي كامل أركانه، كما أنَّتركيّا بالذّات باتت تدرك أنَّ استمرار احتلالها للأراضي السُّوريّةباتَ يَستنزِف طاقاتها الاقتصاديّة والبشريّة والعسكريّة، ولها تكلُفتها السِّياسيّة عليها، ولم تجنِ منها غير الخيبة وازدياد أعدائها بالدّاخل والخارج، وأنَّه من الأفضل لها الانسحاب منها وحفظ ماء وجهها.
مسألة الانسحاب حاضرةٌ بقوّة في البرامج الانتخابيّة للمعارضة بالدَّرجة الأولى، فيما يراوغ أردوغان في الإعلان عن الانسحاب، لأنَّه بمجرد الإعلان عنه، رُبَّما ينكفئ حوله الإسلاميّون المتشدّدون، وكذلك المعارضة السُّوريّة التّابعة له، ممّا قد يفقده ورقة قويَّة يراهن عليها في الانتخابات. ولكنَّ النتائج ستحدِّدُ، بسرعة مآل الاحتلال التُّركيّ في سوريّا، وهو بكُلّ الأحوال قابَ قوسين أو أدنى من الانتهاء، بعد استنفاده كُل حجج وذرائع احتلاله، خاصَّةً بعد زيارة وفد الإئتلاف لواشنطن، وتغيُّر المعادلات السِّياسيّة والعسكريّة في سوريّا والمنطقة.
لا شَكَّ أنَّ الانتخابات التُّركيّة، وما ستفرزه من نتائج على الصَّعيد التُّركيّ الدّاخليّ والإقليميّ والدّوليّ، ستكون حاسمة، لجهة تَغيُّر المشهد السِّياسيّ والعسكري، رغم أنَّ العديد من الأوساط السِّياسيّة والإعلاميّة ومراكز الاستطلاعات تتوقَّع سقوطاً مدويّاً لأردوغان، حتى أنَّ كُبريات الصُّحف والمجلّات الأوروبيّة تطرَّقت إلى الانتخابات التُّركيّة، فمجلة “دير شبيغل” الألمانيّة الشَّهيرة عرضت على غلافها صورة هلالٍ مكسورٍ وعرش مشروخٍ ووجهٍ مُتجهِّمٍ وعبوسٍ لأردوغان، وكتبت تحته “ماذا سيحدث إذا خسر أردوغان، رحيلٌ أم فوضى؟”. فيما انحازت مجلة “الإيكونوميست” للمعارضة من أجل إسقاط أردوغان لتغيير السِّياسَة الخارجيّة لتركيّا نحو الغرب، وعنونت غلافها بالقول “أنقذوا الدّيمقراطيّة: أردوغان يجب أن يَرحَل”. فيما كتبت صحيفة “لوبوان” الفرنسيّة على صدر صفحتها الأولى وتحت صورة أردوغان “أردوغان يهدِّدُ بالحرب ويحلم بالتوسُّع.. أردوغان النُّسخة الأخرى من بوتين.. أردوغان ينشر كراهيّة الغرب”. فيما نشرت “الإكسبرس” الفرنسيّة أيضاً صورة “نيجاتيف” لأردوغانعلى غلافها ومكتوب عليها “أردوغان خطر الفوضى.. انتخابات تركيّا مُجمَّع الأخطار “حليف بوتين”.. فوضى أردوغان: أوروبا واللّاجئين والشَّرق الأوسط”.
فهل ستشهد المنطقة رحيلاً هادئاً لأردوغان، بعدما عاشت فترة من الأعاصير والتدخّلات الدَّمويّة له في معظم دول المنطقة، أم سيعود أردوغان أقوى ممّا كان، ويفرض نفسه زعيماً أوحداً على تركيّا ويستمرُّ في زَعزَعَةِ أمن واستقرار منطقة الشَّرق الأوسط؟
هذا ما ستُحدِّدُه نتائجُ صناديقِ الاقتراعِ في 14 مايو/ أيّار الجاري.
الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..