آراء وتحليلات

أسبوعٌ، والسويداء غائبة عن الوعي !

أيمن الشّوفي

انحسرت أيّام العيد الطويلة عن السُّويداء، جنوب سوريّا، مخلِّفةً وراءها مزيداً من انزواء النّاس داخل خواءِ جيوبهم، وكأنَّ عيد الأضحى في السُّويداء، وفي سواها من مناطق سيطرة “قوات الأسد” صار معركةً يقينيّة يخوضها النّاس على خارطة البقاء، ويواجهونها بأدواتهم التَّقليديّة الحائرة بين التأقلم والرّضوخ.

سبعة أيّام لم يغادر فيها النّاس دوائرَ سكنهم الضيّقة، إذ كانت المواصلات بين القرى الدُّرزيّة ومركز المدينة شبه غائبة بسبب انخفاض مخصَّصات الوقود القادمة إلى المحافظة، ما جعل مناسَبة العيد محدودة الأثر داخل الفضاء الاجتماعيّ، ومقتصرَةً على المجال المكانيّ القريب، والمُتاحُ بلوغه بلا وسائل نقل. كما إنَّه العيد الأكثر قتامةً الذي عرفته الطائفة الدُّرزيّة خلال العقد الأخير، رُبَّما لأنَّه حمل أكثر من سابقيه مرادفاتِ الغلاء وغياب الوقود والكهرباء، وفقدان الأمل بأيِّ انفراجات قد يحملها إليهم حكومة الأسد.

السُّويداء سوقٌ سوداءُ فقط!

اتَّسعت السّوق السَّوداء التي تبيع البنزين والمازوت في الآونة الأخيرة، وبصورة ملحوظة على أطراف مدينة السُّويداء، وفي مداخلها الرَّئيسيّة، وهي أكشاكٌ صغيرةٌ نَمَتْ وازدادت عدداً تحت إشراف “الأمن العسكريّ”، الجهة الأمنيّة التي فوّضها “حكومة الأسد” بتعويم الجريمة المنظّمة هناك، وبجعل السُّوق السَّوداء تستفحلُ شأناً، دون أن يظهر عملها التَّخريبيّ جليّاً على هذه الشّاكلة للعيان، وإنَّما أخذت تُسيِّر مهامها تلك بواسطة عصابات محلّيّة بات لبعضها مقرّاتٍ رسميّةٍ تضاهي بجودتها وخدماتها ما تُقدِّمه الأفرعُ الأمنيّة لمرتاديها.

خلال أيّام العيد؛ أعادت “حكومة الأسد” تلاوةَ المشهد البصريّ الذي ملّهُ النّاس، عشراتُ السيّارات والآليّات المصطفّة أمام محطّات وقود قليلة وصلتها بعض المخصَّصات، يتعاركون عليها بالأصوات حيناً، ويُهدِّدون بعضهم بالأيدي والأسلحة حيناً آخر، من يَيْأس منهم سيشتري من السُّوق السَّوداء، واليائسون كُثُرٌ، وغنائم السُّوق السَّوداء للمحروقات في السُّويداء تزدهِرُ، ويتوالى نموَّها باضطِّراد لتقطفها أيادي العصابة، عصابة الحكم ذاتها

.

ولا يَنظر النِّظام السُّوريّ إلى السُّويداء على أنَّها محافظة ذات اقتصاد زراعيٍّ بدائيٍّ يقوم أساساً على سخاء السَّماء في الموسم المطريّ، وإنَّما يعتبرها طريدةً تُسمّنها الحوالات الخارجيّة التي تتدفَّقُ إليها بغزارة وبصورة يوميّة، لذا ينبغي عليه اصطيادها، وبصورةٍ يوميّة أيضاً.

ويبدو أنَّ هذا ما جعل نظام بشّار يوشك على تدشين حاجزٍ جديدٍ استكملت ملامح تشكيله النِّهائيّة خلال عطلة العيد المديدة، وهو يقع عند فَمِ السُّويداء من جهة دمشق، في منطقة “بَرّاق” الحدوديّة بين ريفي السُّويداء ودمشق، ذاك الحاجز يتبع للفرقة الرّابعة التي يترأسها “ماهر” شقيق الرئيس السوري “بشّار الأسد”، وسيكون حاجِزَ جبايةٍ واستخراج عمولات من جيوب سائقي الحافلات وسيّارات نقل البضائع، الأمر الذي من شأنه رفع الأسعار بصورة عامَّةٍ في محافظة الدُّروز المُتقِنة لجميع الفنون الجميلة من الصَّمت وحتّى الرّضوخ.

بقايا ساحة العيد

في ساحة السَّير التي حَطَّمَ المتظاهرون فيها تمثال “حافظ الأسد” عام 2015 عقب اغتيال قيادة حركة رجال الكرامة في عمليّة استخباراتيّة قذرة ومعقّدة؛ تجمَّعت بعضُ الخيول والبغال والدرّاجات النّاريّة في أيّام العيد لكي يستأجر الرّكوبَ عليها فِتيةٌ وأطفالٌ صغار، ولعلّهم بذلك يقلّدون من النّاحية النَّفسيّة فِعلَ الرَّحيل والمغادرة، وهم جيلٌ وُلِدَ في العتمة والبرد اللذين أنجبهما نظام بشّار بكثرة وبلا انقطاع، ولعلَّهم أيضاً وبها يفرِّجون عن انحباس أنفاسهم، تَجِدَهُم سُعَداءَ بملامحَ متهلِّلة إن ركبوا خيلاً أو بغلاً أو درّاجةً ناريّةً من ماركة عقّاد لنصف ساعة فقط.

في أيّام العيد أيضاً؛ انتقد قائد حركة رجال الكرامة الحالي الشِّيخ “يحيى الحجّار” تقصير “حكومة الأسد” بحقِّ السُّويداء، عاتب المسؤولين في النِّظام على الجوع وغياب المحروقات والكهرباء عن المحافظة، ورُبَّما لامَهُم بعض الشيء، من دون الإفصاح عن أيِّ إجراء قد تلوي إليه الحركة وتشكيلاتها المُسلَّحة، ليكون كلام الشَّيخ أشبَهَ بركوب الفتية في أروقة العيد الباردة على خيل هزيلة القِوام، أو درّاجة ناريّة مستأجَرَةً، عملٌ نفسيٌّ بسيطٌ للتَّرويح عن الرّوح المجتمعيّة المقهورة، وتقليدٌ ارتجاليٌّ لفعل الرَّحيل أو المغادرة، إذ لا يزال المجتمع الدُّرزيُّ مجتمعاً خاملاً من النّاحية السِّياسيّة، لم ينتج طوال السَّنوات الماضية أيَّ حراكٍ سياسيٍّ ناضجٍ متّسِمٍ بالدَّيمومة والاستمراريّة، بل إنَّ أقصى ما أنتجه كان وقفاتٍ احتجاجيّةٍ على ناصِية التَّعبير السِّياسيّ المتفاوِت بارتفاع سقفه بين وقفات كثيرة طالبت بتحسين الواقع الخدميّ، ووقفاتٍ قليلةٍ جدّاً نادت بإسقاط نظام حكومة الأسد.

حتّى ومع تلك الاحتجاجات لم يتغيَّر موقع السُّويداء داخل دائرة الفِعل السِّياسيّ، بعدما جَرَّبت هذه المحافظة عقيدَةَ المهادَنَةِ مع النظام السوري كحصيلة واقعيّة أفرزها تطبيع القوى السّائدة اجتماعيّاً لعلاقاتها مع النَّظْمِ السِّياسيّ القائم، فتَمَّ دَهسها هي ومكوّناتها الحيّة بلا أدنى اكتراثٍ، أو إحساسٍ بالشَّفقة، ورُبَّما يكون التغيير السِّياسيّ المُنتَظر في موقع الدُّروز وفعلهم الحيّ رهنَ صعود قوى اجتماعيّة جديدة غير القوى السّائدة حاليّاً، مثل حركة رجال الكرامة في نسختها الأولى، أي قبل العام 2015 تاريخ تصفية قادتها ومؤسِّسيها الأوائل، حينها فقط يمكن إطلاق سراح المحافظة المعتقَلَة في أقبية النِّظام، وفكِّ أغلالها إلى الأبد.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها

زر الذهاب إلى الأعلى