آراء وتحليلات

من يُحيي “داعش” وهي رَميم؟

جميل رشيد

تصاعدت في الآونة الأخيرة هجمات تنظيم “داعش” الإرهابيّ داخل سوريّا وخارجها، وبات يمتلك القدرة على التَحرُّك الميدانيّ والتَّواصل مع خلاياه النّائمة في أكثر من منطقة في العالم، وهذا بحَدِّ ذاته موضع تساؤل كبير عن كيفيَّة امتلاكه الإمكانيَّة على إحداث اختراقات أمنيَّة داخل العديد من البلدان، التي تَعُدُّ نفسها “محصَّنة” نوعاً ما من كُلِّ أشكال الإرهاب، رغم أنَّ لديها منظومة أمنيّة تحمي أسوارها وجغرافيَّتها من جميع الهجمات والاعتداءات.

هناك سؤال افتراضيّ يطرح نفسه بشكل بديهيّ – بعد تقلُّص قدرة التَّنظيم حتى وصل مرحلة العدم وإنهاء وجوده الجغرافيّ بعد معركة “الباغوز” التي مَرَّت الذِّكرى السَّنويَّة الخامسة لها قبل عِدَّةِ أيّام– لمصلحة أيَّةأطراف تَصُبُّ عمليَّة إعادة إحياء التَّنظيم الإرهابيّ من جديد، فهو دون شَكٍّ يفتك بالكُلِّ، ولا يفرِّقُ بين دين وآخر، أو دولة وغيرها، إنَّه إرهاب عابر للحدود ولا يفرِّقُ بين ضحاياه.

من خلال الإجابة على هذا السؤال؛ يمكننا فهم دوافع الأطراف التي تقف وراءه وتَمُدُّهُ بكُلِّ أسباب القوَّة، وهي لا تنفصل عن غيرها من الأسئلة والاستفسارات المتعلّقة بأهداف التَّنظيم المتمحورة حول إعادة إنشاء دولته المزعومة على جغرافية سوريّا والعراق بالدَّرجة الأولى.

تتقاطع خيوط عديدة تصل لحَدِّ التشابك في قضيَّة إحياء تنظيم “داعش” الإرهابيّ، ويشترك فيها أكثر من طرف دوليّ ومحلّيّ يَجِدُ في انبعاثه من جديد مصلحة إستراتيجيَّة له. وبعضها توزِّعُ الأدوار فيما بينها، وتضع إستراتيجيّات وتكتيكات معيَّنة أمام التَّنظيم، ليرفع من سويَّة عمليّاته الإرهابيّة ضُدَّ القوى التي ما فتئت تقدِّم القرابين لاجتثاث التَّنظيم من جذوره.

إنَّ العمليَّة الإرهابيّة التي نفَّذها التَّنظيم في موسكو، وراح ضحيَّتها عشرات المدنيَّين، تلقي الضوء بشكل جيّد على مساعي التَّنظيم في القيام بعمليّات إرهابيّة في مختلف دول العالم،وتؤكِّدُ أنَّ خطط التَّنظيم تتجاوز جغرافيَّة سوريّا والعراق والشَّرق الأوسط. ومن جانب آخر؛ تثبت أنَّه بات ألعوبة بيد استخبارات عِدَّةِ دول، تستخدمها في النَّيل من أعدائها. لا شَكَّ أنَّ فشل الطرفين، الرّوسيّ والأوكرانيّ ومن ورائه الغربيّ في حسم الحرب الدّائرة رحاها على جغرافيّة أوكرانيا لصالحه؛ يدفعهما للاستعانة بالتَّنظيمات الإرهابيّة المتطرِّفة للانتقام من الخصم.

تركيّا التي حسمت قرارها بالعودة إلى الحضن الغربيّ، بكُلِّ قوَّة، بعد موافقتها على انضمام السّويد إلى حلف “الناتو”. والزّيارة التي أجراها وفد رسميٌّ تركيٌّ رفيع المستوى إلى الولايات المتّحدة أوائل هذا الشَّهر، ضمن إطار بحث “القضايا الإستراتيجيَّة” بينهما، وموافقة الأخيرة على استئناف بيعها طائرات “إف – 16” وقطع غيارها، غيَّرت الكثير من المعطيات السّابقة. 

بالتَّأكيد الولايات المتّحدة فرضت شروطاً على تركيّا، وأوَّلها التَّعاون معها ومع الدّول الغربيّة بشكل كامل، وبما يتوافق مع التوجُّهات والمصالح الغربيّة في أوكرانيا وضُدَّ روسيّا. 

ولا يمكن إعطاء تفسير آخر على العمليَّة الإرهابيّة في موسكو إلا ضمن هذا الإطار، خاصَّةً بعد أن اعترف أحد منفّذي العمليّة بأنَّهم قدموا من تركيّا، وأنَّه تلقّى تدريبات إرهابيّة فيها على أيدي أحد قادات التَّنظيم.

لقد لجأ التَّنظيم إلى أسلوب جديد في تنفيذ عمليّاته الإرهابيّة، عبر توجيه ضربات إلى المركز والأطراف، إن اعتبرنا أن سوريّا والعراق هما المركز. 

فنسب عمليَّة موسكو إلى قسم “خراسان” في التَّنظيم؛ يؤكِّدُ أنَّ التَّنظيم لا يزال يحتفظ بفروعه التَّنظيميّة في عِدَّةِ مناطق من العالم، وأنَّ تركيّا أعدَّت لهم ملاذات آمنة في عدد من الدّول تحتفظ تركيّا فيها بنفوذ وسيطرة عسكريَّة وسياسيَّة، مثل أذربيجان. 

وحسب تصريحات رئيس جهاز الاستخبارات التُّركيّة السّابق أنَّ منفّذي عمليَّة موسكو انطلقوا من تركيّا نحو روسيّا قبيل تنفيذ عمليَّتهم، وحاول أن يُبعِدَ الشُّبُهات عن دور بلاده في تدريبهم والتخطيط للعمليَّة، عبر الادّعاء أنَّ هؤلاء الأشخاص مرّوا من مطارات بلاده دون علمها أو تسجيل تواجدهم فيها.

مدينة “ديلوك/ عنتاب” تُعَدُّ معقِلاً رئيسيّاً لتنظيم “داعش”، وفق تقارير استخباراتيَّة غربيَّة عديدة، ومظاهر تواجد التَّنظيم منتشرة في عِدَّة أحياء ومناطق منها، فهم يتحرَّكون بكُلِّ حُرّيّة،وتحت مرأى ومسمع الاستخبارات التُّركيّة. والحملة الأخيرة التي شَنَّتها الدَّولة التُّركيّة ضُدَّ بعض عناصر التَّنظيم على أراضيها واعتقالهم، ما هي إلا للتمويه على النَّشاطات السُرّيّة الأخرى، وهي الأقوى، للتَّنظيم داخل تركيّا، بعد أن غدا التَّنظيم السِّلاح الأمضى بيدها تُهدِّدُ بها خصومها وأعداءها في كُلِّ السّاحات، وخاصَّةً في سوريّا والعراق.

كثَّفَ التَّنظيم من وتيرة عمليّاته الإرهابيّة ضُدَّ قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة وقوّات الحكومة السُّوريَّة، ويكاد لا يَمُرُّ يوم إلا ويستهدف فيها عناصر ومنشآت وعربات،وللطرفين، رغم العمليّات الأمنيَّة المستمرّة للأولى ضُدَّ أوكار ومخابئ التَّنظيم. 

ولم يعد الحديث عن تَحرُّكات التَّنظيم في عمق البادية السُّوريَّة وحدها مقنعاً وكافياً لتفسير الضربات اليوميَّة التي يوجهها للجانبين. وليس صحيحاً أنَّ التَّنظيم بعد مقتل العديد من قياداته من الصفِّ الأوَّلِ، وخاصَّةً زعمائه مثل “البغدادي” و”قاراداش” وغيرهم، وأنَّ له القدرة على ترميم نفسه بهذه السُّرعة ويمتلك تلك القوَّة الضاربة، هذا عدا عن صعوبة المسائل اللّوجستيَّة والتَّمويل، والتي لها الدَّور الرَّئيسيّ في نهوض التَّنظيم مَرَّةً أخرى، وامتلاكه الجرأة في الضرب بكُلِّ الاتّجاهات، دون أيِّ روادع لافتة.

إنَّ تفكيك بنية التَّنظيم وتوجيه ضربات قاصمة له، يتطلَّب جُهداً وتعاوناً دوليّاً، كما قال قائد قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة “مظلوم عبدي” غداة تعليقه على عمليَّة موسكو. 

ويبدو أنَّ هذه الإرادة غير موجودة لدى العديد من الأطراف والقوى، حتّى تلك التي تتلقّى ضربات دامية من التَّنظيم، باستثناء قوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة. والتَّحالف الدّوليّ لمكافحة الإرهاب بهيكليَّته الحالية، لم يعد كافياً وقادراً على استئصال التَّنظيم وفكره وإيديولوجيَّته من الوجود. فقد تحوَّل التَّحالف إلى حالة نمطيَّة غير فاعلة مثلما هو مطلوب، ويتطلَّب منه إعادة رسم إستراتيجيَّة جديدة على ضوء تحرُّكات التَّنظيم وانتشاره من جديد في عِدَّةِ دول. ويأتي على رأس أولويّات مهام التَّحالف الضغط على الأطراف التي تزوِّد التَّنظيم بكُلِّ أسباب التمدُّدِ والانتشار، وعلى رأسها تركيّا، حيث أنَّ التَّحالف لديه من الأدلَّة والمعلومات الموثَّقة ما يمكِّنَه من مواجهة تركيّا لقطع دعمها للتَّنظيم، لا أن تغُضَّ الطرف عنه في توجيه ضربات إلى خصوم دول التَّحالف وعلى رأسها الولايات المتّحدة ودول الاتِّحاد الأوروبيّ.

الصفقات التي أجرتها أطراف مع التَّنظيم، سابقاً، ارتدَّت عليها وبالاً، فالتَّنظيم لا يبني صداقات وتحالفات إلا مع تلك القوى والأطراف التي تُعَدُّ امتداداً له ولفكره وإيديولوجيَّته، وحتى المواقف البراغماتيَّة التي أبدتها بعض قيادات التَّنظيم في مراحل سابقة، انقلبوا عليها، وأصبح أصدقاء الأمس أعداء وخصوماً رئيسيّين له. والتَّفاهمات التي عقدها البعض، مثل إيران، مع التَّنظيم في الأراضي السُّوريَّة، من قبيل توقُّفه عن شَنِّ الهجمات على عناصرها والميليشيّات التّابعة لها، كما تحدَّث عنها المرصد السُّوريّ لحقوق الإنسان في وقت سابق، سرعان ما ارتدَّت على إيران، ودفعت أكلافاً باهظة جرّاءها عبر مقتل مئات من عناصر ميليشيّاتها المنتشرة في بادية حمص ودير الزور، حيث أوكار التَّنظيم قريبة منهم.

الثّابت أنَّ التَّنظيم الإرهابيّ يستغلُّ أخطاء وهفوات خصومه بذكاء، ويستخدم ذئابه وخلاياه النّائمة والانغماسيَّة في توجيه ضربات قاتلة لأعدائه، تُحدِثُ صدى إعلاميّاً كبيراً يوازي فعلها الجرميّ. فهو لا يزال يحتفظ بماكينة إعلاميَّة محترفة وسريعة التَّعامل مع الحدث، بل أحياناً كثيرة هي من تَصنَعُ الحدث، وقادرة على مجاراة أقوى المؤسَّسات الإعلاميَّة، وهذا يؤكِّدُ مَرَّةً أخرى أنَّ جهات لها القوَّة والنُّفوذ تقف وراءه، وتقدِّمُ لها إمكانيّات أكثر من دولة، وهذا مكمن الخطورة التي يجب إعادة البحث والنَّظر فيها لتفكيك هذه المنظومة التي تتوالد بشكل فطريٍّ سام بين ثنايا المجتمعات. والشِّعارات التي رفعتها “الذِّئاب الرَّماديَّة” التُّركيّة أثناء الهجوم على منزل مواطن كُرديٍّ في بلجيكا؛ كشفت الغطاء بكُلِّ جلاء عن فداحة الكارثة المحدقة بالعالم أجمع؛ إن لم يَتُمّ تدارك الوضع الآن. فالتَّزاوج الحاصل بين العنصريَّة والفاشيَّة التُّركيّة من خلال تنظيماتها المتطرِّفة، وتنظيم “داعش” الإرهابيّ، إنَّما يُهدِّدُ الأمن والسِّلم العالميّ، وأيُّ تساهل معها قد يدخل العالم أجمع في مواجهة حقيقيَّة مع إرهابٍ معمَّمٍ تديره دول، ولا يمكن حينها ضبطها والقضاء عليها مثلما يتكهَّنُ البعض.

زر الذهاب إلى الأعلى