آراء وتحليلات

الكرد بعد مرور مئة عام على معاهدة “لوزان”

جميل رشيد

مَرَّت الذِّكرى المئويّة لمعاهدة لوزان منذ عدَّةِ أيّام، وقد عادت إلى الذّاكرة الجَمعيّة لشعوب منطقة الشَّرق الأوسطالتقسيمات التي طالت جغرافيَّته، وهو في زمن يعيش صراعات وحروب شبيهة بمثيلاتها في زمن التَّوقيع على لوزان في يوليو/ تمّوز 1923.

فإن كانت اتّفاقيّة سايكس – بيكو قد رسمت خرائط التقسيم في الشَّرق الأوسط؛ فإنَّ معاهدة لوزان وضعتها موضع التَّنفيذ، ورسمت بموجبها الحدود الرّاهنة لدول المنطقة، وأقامت لها أنظمة سياسيّة تدور في عجلتها، وحدَّدت لها أعلاماً وأناشيد “وطنيّة”.

لا شَكَّ أنَّ الشَّعب الكُرديّ تعرَّضَ لِغُبْنٍ وصل مستوى المؤامرة على حقوقه في تشكيل دولة مستقلّة له على غرار باقي دول المنطقة، هذا إذا ما أدركنا أنَّ معاهدة لوزان هي من نسفت ما أقرَّته معاهدة سيفر ببنودها الثَّلاثة الخاصَّةِ بالكُرد، ووصلت حَدَّ الإنكار لهُويَّته الوطنيّة والقوميّة، بل ألحقت وطنه بالدّول التي قسَّمت جغرافيّته، أحياناً عبر صمت الدّول الغربيّة، والذي يرقى إلى مستوى المسؤوليّة والمشاركة في المجازر التي تعرَّض لها طيلة مئة عام، ولاتزال مستمرّة حتّى يومنا هذا.

إنَّ إحدى أولى نتاجات معاهدة لوزان كانت ولادة الجمهوريّة التُّركيّة، كأوَّل دولة قوميّة في منطقة الشَّرق الأوسط بعد انهيار السَّلطنة العثمانيّة. وتمكَّنَ كمال أتاتورك من استمالة الدّول الغربيّة وليِّ ذراعها، ونيل موافقتها في تأسيس دولة تركيّة على الطراز الغربيّ، والتنكُّرَ للموروث الثَّقافيّ والحضاريّ لشعوب المنطقة و”غربنة” تركيّا.

تذكُرُ الوثائق التّاريخيّة في ذاك الحين، وخاصَّة فيما يتعلَّق بالمعاهدات التي وقَّعتها الدّول الغربيّة المنتصرة في الحرب العالميّة الأولى؛ أنَّ بريطانيا ومن بعدها فرنسا، لعبت دوراً أساسيّاً في كُلِّ المؤامرات التقسيميّة التي طالت منطقة الشَّرق الأوسط، قبل لوزان وما بعدها أيضاً.

ففي مؤتمر القاهرة الذي عُقِدَ بخصوص حَلّ القضية الكُرديّة عام 1921، وترأسه وزير المستعمرات البريطانيّة حينذاك “ونستون تشرشل”، عارض كُلٌّ من المندوب البريطانيّ في العراق “المستر كوكس” ومسؤولة استخباراته “المسز بيل”، إنشاء دولة كُرديّة، في حين كان “تشرشل” يميل لفكرة تأسيسها، إلا أنَّ مزاعم التي قدَّمها “كوكس” و”بيل” أمام المؤتمر تضمَّنت أكاذيب، حيث ادّعى الاثنان أنَّالشَّعبالكُرديّ لايزال يعيش حياة البداوة ولا يرقى إلى مستوى تأسيس دولة له. هذه الأكاذيب تَمَّ تثبيتها في قاعات لوزان، والدَّليل أنَّها – أي المعاهدة – لم تأتِ على ذكر الكُرد لا من قريب ولا من بعيد.

بناءً على المعلومات المُضلِّلة التي قدَّمها “كوكس” و”بيل” إلى المؤتمر، سادت قناعة لدى “تشرشل” أنَّ الكُرد متحالفون مع تركيّا والاتّحاد السّوفياتيّ في معاداة بريطانيا، وزاد من يقينه حركة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي في جنوب كردستان ومحاربته بريطانيا، فقرر في المؤتمر إنشاء دولة عربيّة في العراق، حيث تَمَّ تنصيب الملك فيصل عليها، والتنكُّر لحقوق الكُرد، رغم دفاع الوفد الكُرديّ عنها.

أعادت بريطانيا تكرار المأساة الكُرديّة في لوزان، ولكن هذه المَرَّة بشكل أعمق وأكثر تأثيراً. فغداة تحوُّل أتاتورك من المعسكر السّوفياتيّ ونقضه كُلّ الاتّفاقات التي عقدها مع لينين، أدار بوصلته نحو الغرب، بعد أن ضَمِنَ تحرير جغرافيّة تركيّا الرّاهنة إثر انتصاره فيما يُسمّى بالتّاريخ التُّركيّ “بالحرب الوطنيّة” أو “حرب الاستقلال”، التي لم يكن لينتصر فيها أتاتورك لولا مشاركة الكُرد.

الاجتماعات التي عقدها أتاتورك مع زعماء العشائر الكُرديّة في كُلّ من “سيواس” و”أرزروم” في عام 1919 قبل الحرب، وكذلك مع الضُبّاط الكُرد في الجيش العثمانيّ، و”جمعيّة تعالي كردستان”، والتي ادّعى فيها أنَّ الدّولةالوليدة ستكون مشتركة ما بين الأتراك والكُرد، لكنَّه سُرعان ما كشف عن وجهه الحقيقيّ، عندما انقلب على الاتّفاقات التي وقَّعها مع ممثّلي الشَّعب الكُرديّ، إثر تحرير القسم الغربيّ من تركيّا (غربيّ الأناضول) من الاحتلالات الغربيّة، وخاصة من الجيوش اليونانيّة، الرّوسيّة، البريطانيّة والفرنسيّة، ورفض البرلمان التُّركيّ الثّاني الذي شكَّله أتاتورك معاهدة سيفر، ليجهّز نفسه لخوض غمار مساومات مع الدّول الغربيّة، وأفضت إلى التّوقيع على بنود معاهدة لوزان التي تضمَّنت /143/ بنداً، ولم يأتِ ولا بند منها على ذكر الكُرد وحقوقهم التي أقرَّتها معاهدة سيفر.

ينظر الشَّعب الكُرديّ وكذلك حركته التحرُّريّة في أجزاء كردستان الأربعة التي قسَّمها المشاركون في صياغة بنود المعاهدة، أنَّها – أي المعاهدة – اتَّخذت قرار الموت بالنسبة لهم، وهو ما أدّى إلى ولادة ردود قويّة ضُدَّها، تمثَّلت في سلسلة الانتفاضات والثَّورات التي اندلعت في معظم مناطق كردستان، وخاصَّةً في شمالها، رافضة التَّقسيم وحاملة راية الاستقلال والتوحيد.

واليوم يتطلَّع الكُردوحركاتهم السِّياسيّة، وفي الأجزاء الأربعة، إلى رفع الغُبنِ الذي لَحِقَ بهم جرّاء المعاهدة، وهي تناضل على جميع الجبهات السِّياسيّة والدِّبلوماسية للاعتراف بالحقوق الكُرديّة، وكما شرَّعتها القوانين الدّوليّة، وبما يحقِّق لهم كرامتهم الإنسانيّة، ويُبلور هُويَّتهم الثَّقافيّة والسِّياسيّة، ضمن إطار التَّعايش السلميّ مع الشّعوب الأخرى، ليحقّق الأمن والاستقرار في تلك البلدان، دون أيّ نوازع للانفصال أو تشكيل دولة قوميّة على غرار دول المنطقة.

فإن كانت الدّول القوميّة هي منتوج غربيّ، أملته مصالح الدّول المنتصرة في الحربين العالميّتين الأولى والثّانية، والتوازنات والمساومات التي جرت بينها؛ فإنَّ الأجدر بقوى وحركات تحرر شعوب المنطقة أن ترفض هذا الواقع وتنطلق نحو بناء جسور التَّعاون والتَّحالف ضمن جبهة سياسيّة عريضة، تدافع فيها عن حقوق شعوبها في العيش بعيداً عن إملاءات ومؤثّرات مصالح الدّول الغربيّة.

تركيّا وبقيادة أردوغان وحزب العدالة والتنمية أيضاً تتطلّع إلى إلغاء معاهدة لوزان، وتعتقد أنَّها جاءت ضُدَّ المصالح والطموحات التُّركيّة. فقال أردوغان في اجتماع مع مخاتير القرى عام 2016 إنَّ لوزان ليست انتصاراً للأتراك، بل هي وصمة عار، أيُّ انتصار ونحن فقدنا الكثير من أراضينا في حلب والموصل وكركوك وتراقيا الغربيّة، ومنعونا حتّى من حَقِّ التَّنقيب واستخراج النَّفط في مياهنا الإقليميّة في بحار مرمرة والأسود والأبيض المتوسّط، علينا رفض هذه المعاهدة”.

كلام أردوغان يشير إلى النَّوازع التي تدفعه لتنفيذ مشاريعه الاحتلاليّة في كُلٍّ من سوريّا والعراق، وحتّى اليونان أيضاً، وهي تتمثّل بعِدَّةِ مشاريع طُرِحت إبّان تشكيل الجمهوريّة التُّركيّة وحتّى قبلها، مثل “الميثاق الملّي” و”مشروع إصلاح الشَّرق”، ومؤخَّراً مشروع “الوطن الأزرق”، وقد بدأ أردوغان بتنفيذ تلك المشاريع في عام 2016 عندما احتلَّ مناطق جرابلس، الباب، إعزاز، ومن ثُمَّ عفرين في عام 2018، وأخيراً في سري كانيه/ رأس العين عام 2019. فيما أكَّدَ وزير دفاعه السّابق خلوصي أكار في رَدِّه على سؤال حول احتلال بلاده لأراضي الغير، حيث قال: “لن نأخذ إلا ما هو لنا”، معتبراً أنَّ الأراضي التي احتلَّها في كُلّ من سوريّا والعراق هي أراضٍ تركيّة، وأنَّ من حَقِّ بلاده استعادتها، أي أنَّه يُبرّر بطريقة صلفة وممجوجة احتلاله لها.

إنَّ بريطانيا تتحمل الوِزْرَ الأكبر لعمليّة تقسيم الوطن الكُرديّ، فهي التي مارست قوَّتها الدِّبلوماسيّة في إقناع وفود باقي الدّول للتَّوقيع على المعاهدة، رغم أنَّها تعلم أكثر من غيرها أنَّها همَّشت الكُرد وألغت وجودهم، ولم تتوقَّف عند ذاك الحَدّ؛ بل أطلقت يد أتاتورك ودولته في ارتكاب عمليّات الإبادة الجسديّة والثَّقافيّة ضُدَّالكُرد، حتّى أنَّها منعت الكُرد من التحدّث بلغتهم الأم، ومارست عليهم سياسة الحرب الخاصَّة، فضلاً عن فرض التتريك في جميع مناطق كردستان، وإعدام القادة الكُرد، وخاصَّةً من قيادات الثَّورات والانتفاضات الكُرديّة التي امتدَّت من عام 1925 حتّى عام 1938.

تسير تحليلات وإشاعات من جانب الكُرد وبعض النُّخب السِّياسيّة التُّركيّة من أنَّ مفعول سَرَيان المعاهدة ينتهي بعد مرور مئة عام عليها. في الحقيقة، ومن خلال قراءة نصِّ وبنود المعاهدة، لا يوجد ما يشير إلى تاريخ مُحدَّدٍلانتهاء مفعولها، أو إعادة تجديدها، وهي بكُلّ الأحوال، خاضِعةٌ للظروف السِّياسيّة والعسكريّة وللعبة التَّوازنات بين القوى العالميّة المتصارعة على مناطق النّفوذ والسَّيطرة.

يحدو الكُرد أملٌ كبيرٌ في أن تتغيَّر إسقاطات معاهدة لوزان على واقع وطنهم كردستان، وهذا الأمر مرهونٌ بنضالهم ودفاعهم عن حقوقهم في المحافل الدّوليّة، ورغم تحقيقهم نوعاً من الانفتاح السِّياسيّ والدِّبلوماسيّ على العالم، والسَّيرُ خطوات لا بأس بها على طريق إحقاق حقوقهم المشروعة، إلا أنَّها بحاجةإلى بذل مزيد من الجهود في سبيل الوصول إلى قرار دوليّ يضمن لهم تلك الحقوق، ويُلغي كُلّ المعاهدات التي وُقِّعت ضُدَّهم.

فالدّولة التُّركيّة تسعى بكُلّ قوّتها إلى نسف كُلّ المُنجز الكُرديّ خلال العقود الثَّلاثة الماضية، خاصَّةً بعد اندلاع ما يُسمّى بـ”ثورات الشُّعوب” في المنطقة، وهي تدرك جيّداً أنَّ رياح التغيير قد هبَّت على الكُرد مثلما هبَّت على الشُّعوب الأخرى، فوضعت كُلّ ثقلها العسكريّ والسِّياسيّ في سبيل حُرمان الكُرد من تحصيل أيّاً من حقوقهم، إن كان في روج آفا أو شمال كردستان، ومحاولاتها الحثيثة للقضاء على تجربة الإدارة في كُلٍّ من روج آفا وجنوب كردستان لم تتوقَّف، فهي تعيش على وهم القناعة بأنَّ “كُلَّ نَصرٍ يُحقّقه الشَّعب الكُرديّ في أيّ جزء من كردستان؛ إنَّما يهدّد وجودها كدولة وكشعب”، وللأسف الشَّديد هذه القناعة مترسِّخة في العقل الجمعيّ التُّركيّ، وحتّى لدى معظم النُّخب الثَّقافيّة والسِّياسيّة، فهل الرّياح القادمة للتغيير في المنطقة والعالم (الحرب في أوكرانيا، والصراعات الدّائرة في أكثر من دولة في الشَّرق الأوسط) ستُغيّر من الخرائط المهترئة التي رسمتها لوزان، ونشهد ولادة عصر جديد سِمَتُهُ الأساسيّة الإقرار بحقوق الشُّعوب والسير في طريق التحوّل الدّيمقراطيّ، أم سنشهد مزيداً من الاحتلالات والحروب القوميّة والدّينيّة والمذهبيّة والانقسامات السِّياسيّة، وبالتّالي تكثيف عمليّات التغيير الدّيمغرافيّ والاستيطان كما يحصل في عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض والباب وإعزاز وإدلب؟ بالتَّأكيد المرحلة المُقبلة حُبلى بالمفاجآت، وانتصار أيُّ طرف يتوقَّف على حجم قوَّة الحراك الدّاخليّ، إضافة إلى شكل التّوازنات العالميّة والإقليميّة.

زر الذهاب إلى الأعلى