آراء وتحليلات

من بغداد إلى كوردستان.. رسائل لم تصل بعد

محمد محمود بشار

بعد الإطاحة بنظام “صدام حسين” قبل عقدين من الزمن، سيطر على خطاب العراقيين والمهتمين بالشأن العراقي، مصطلح “العراق الجديد”، ولكن على أرض الواقع لم يشمل التجديد العديد من الأمور، بل اقتصرت عملية التجديد على تغيير السلطة الحاكمة وعدة أمور أخرى لم ترتقِ إلى مستوى إخراج العراق من عنق الزجاجة.

في بداية هذه العملية، بعد دخول الأمريكيين إلى العراق، وعلى الرغم من التواجد الأمريكي الهائل عسكرياً ودبلوماسياً واقتصادياً ومن الناحية الإدارية؛ قامت واشنطن بتعيين “بول بريمر” كحاكم مدني للعراق، إلا أنه كان هناك وجود لشخصيات عراقية من العيار الثقيل من ناحية حنكتها الدبلوماسية وخبرتها في ميادين السياسة والقتال ودرايتها بأمور إدارة الدولة.

طبعاً ومع مرور الزمن اختفت أغلب هذه الشخصيات من المشهد السياسي، وذلك بفعل أسباب ومسوّغات عديدة، منها التقدم في العمر والمرض أو الوفاة.

كانت كل شخصية من بين هذه الشخصيات تحتلُّ حيّزاً من التاريخ العراقي المعاصر، فكان للكاريزما الشخصية فعلها وأثَرَها الكبير، فكان التوافق سيّد الموقف، وحتى إن معشر الساسة في هذا البلد اعتمد على “الديمقراطية التوافقية”، فكان لكل مكوّن من المكوّنات القومية والدينية والمذهبية حصة في تشكيل الحكومة، بسلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية.

طبعاً لم تسلم هذه الديمقراطية من سهام النقّاد، اللذين اعتبروا نظام الحكم الجديد عبارة عن محاصصة طائفية بين أكبر ثلاث مكوّنات.

فيدرالية من دون أقاليم ولا مقاطعات.. دولة المركز والإقليم الوحيد

حسب الدستور الجديد؛ فإن العراق دولة فيدرالية ويحق لكل محافظة أو عدة محافظات أن تشكل إقليمها الخاص ضمن حدود الدولة الموحّدة، ويتم تنظيم العلاقة بين المركز والأقاليم بحسب الدستور.

إلا أن أبرز المعوّقات التي اصطدمت بها عملية الفدرلة في العراق هي عدم وجود أقاليم متعددة، حيث بقي إقليم كوردستان هو الإقليم الوحيد ضمن هذه الدولة التي اعتمدت الفيدرالية.

وأيضاً لم يكن الطريق بين بغداد وكوردستان معبّداً بالورود، فكانت العلاقة معقّدة ومليئة بالقضايا والمسائل الشائكة.

وبالعودة إلى الحديث عن الشخصيات التي كان لها دورها الريادي والقيادي في إدارة العراق كدولة، كان للرئيس الراحل “جلال الطالباني” المعروف بلقب (مام جلال) دوره المحوري في تسهيل التوافق بين المركز والإقليم، حيث كان “الطالباني” عرّاب الديمقراطية التوافقية، وكان أيضاً بمثابة المرجعية للقوى والأطراف الكردية والكردستانية، حيث كان إقليم كوردستان في فترة رئاسته للعراق أكثر تماسكاً وقوةً مما هو عليه الآن.

كانت المشاكل والمصاعب تعصف بالعراق، فليس من السهل قيادة دولة أنهكتها الدكتاتورية لعقود من الزمن، ولكن بوجود هذه الشخصيات القيادية البارزة كان يتم ترحيل المشاكل إلى إشعار غير مسمى، كي لا تصطدم القوى الحاكمة مع بعضها البعض. في تلك المرحلة التي كان العراق بحاجة إلى التوافق بين جميع المكونات أكثر من حاجته لأي شيء آخر.

ونجح الرئيس جلال الطالباني بتأسيس علاقة متينة بين عاصمة العراق وبين إقليم كوردستان، وذلك بدعم ومساندة جميع القوى والأطراف الكردستانية وفي مقدمتها الحزب الديمقراطي الكوردستاني بقيادة الرئيس مسعود البارزاني.

حينذاك لم تكن عملية دفع رواتب الموظفين في الإقليم تعاني من أي مصاعب، فكان التوافق سيّد الموقف في دفع عجلة العملية السياسية في العراق الجديد، لذلك لم يكن الإقليم يشتكي من نقص في الميزانية.

رويداً رويداً ومع مرور السنين في إدارة العراق بهذه الطريقة، تراكمت المشاكل التي تم ترحيلها وأيضاً غيّب الموت العديد من الشخصيات القيادية التي كان تمارس سياسة مسك العصا من المنتصف.

وبات العراق ساحة مفتوحة للعديد من الدول والقوى الإقليمية والدولية، ويبدو أن الدول المجاورة للعراق لم تستسغ فكرة وجود إقليم مصان دستورياً ويتمتع بكامل حقوقه ويحمل اسم (كوردستان).

الملاذ الآمن في زمن الحرب

عندما كانت الدكتاتورية في أوج قوتها في العراق، كانت جبال كوردستان تحتضن حركات التحرر الكردستانية والعراقية، الكردية منها والعربية، الشيعية منها والسنية.

كانت دائماً هناك بقاع محررة غير خاضعة لحكم طاغية بغداد، وتلك البقاع المحررة كانت تشكّل الملاذ الآمن لكل العراقيين بمختلف أطيافهم ومعتقداتهم.

وعندما تم إسقاط نظام صدام حسين في عام 2003، كانت كوردستان شبه دولة، وكانت القوات العسكرية الكردستانية (البيشمركه) هي الأكثر تنظيماً وتدريباً وتسليحاً من بين كل القوى العراقية التي كانت معارضة للنظام العراقي السابق، ولكن القوى والأحزاب الكردستانية اختارت الاتحاد الطوعي مع باقي أجزاء العراق، فتوجَّه الساسة والقادة الكرد إلى بغداد وانخرطوا بكل قوة في العملية السياسية، فتجاوز العراق مرحلة خطر السقوط كدولة بفضل الجهود التي بذلتها القوى الكردستانية.

حتى في الحرب ضد “داعش”، كانت القوات الكردستانية هي رأس الحربة، وفي هذه الحرب توافد المقاتلون الكرد من كل بقاع الأرض للوقوف في وجه أعتى تنظيم إرهابي عرفته المنطقة والعالم. وبعيداً عن تفاصيل تلك الحرب، إلا أن هزيمة تنظيم “داعش”، ساعد العراق على النهوض من جديد.

إلا أن حكام العراق الجدد صوَّبوا نيرانهم باتجاه إقليم كوردستان، فحصلت الكثير من الأحداث التي عقّدت المشهد السياسي وجعلت العلاقة بين المركز والإقليم تمر بأسوأ مراحلها.

ومن بين القضايا العالقة بين بغداد وكوردستان هي قضية الميزانية، حيث باتت حكومة الإقليم عاجزة عن دفع مستحقّات ورواتب الموظفين في الإقليم في موعدها المحدد بشكل دوري، وذلك تحت تأثير القرارات التي كانت تصدر من بغداد. وكما هو معلوم للجميع فإن أكبر شريحة في المجتمع الكردستاني والعراقي بشكل عام هي شريحة الموظفين. وفي النتيجة تم ضرب عصب الحياة في الإقليم وتدهورت أحوال الأسواق في الإقليم نتيجة عدم حصول الموظف على راتبه الشهري، فباتت الأشهر تمر ودون أن يحصل الموظف على راتبه، وهكذا أصبحت الأزمة الاقتصادية أشد فتكاً بالإقليم.

يلملم الإقليم حالياً جراحه ويداويها قدر المستطاع ويحاول قادته حَلَّ ما يمكن حله عبر التوجُّه مرة أخرى إلى بغداد العاصمة التي تضم الرئاسات الثلاث. وفي هذه الاوضاع المعقَّدة؛ ينتظر العراق استحقاقاً انتخابياً جديداًوهو انتخابات مجالس المحافظات.

 قد تظهر قوى جديدة وتحتل موقعاً مهماً في المشهد السياسي، ولكن مهما حدثت من تغيّرات سيبقى صوت التوافق هو الصوت الذي لا يعلو عليه أي صوت آخر، فإن انهار التوافق سيصبح العراق على حافة الانهيار كدولة، وهذا الأمر يعيه جميع الساسة والقادة في هذا البلد، لذلك كل النهايات في العراق الجديد تشبه البداية التي انطلقت من الديمقراطية التوافقية.

زر الذهاب إلى الأعلى