آراء وتحليلات

حواضِنُ حركاتُ الإسلامِ المتطرِّفِ بين الأمسِ واليوم

جميل رشيد

أدّى انهيار الاتّحاد السّوفياتي وسقوط المنظومة الاشتراكيَّة في دول أوروبا الشَّرقيَّة، وقبلها سقوط جدار برلين في عام 1989، إلى انكسار حادٍّ في معظم جبهات الحركات اليساريّة في العالم، والتي كانت تعتمد على موسكو كظهير داعم لها، فعانت العديد من الأحزاب الاشتراكيَّة وحركات التحرُّر الوطنيَّة العالميَّة من حالة تخبُّطٍ فكريّ وسياسيٍّ، لتفضي إلى تخليها عن أيديولوجيّاتها السّابقة وتجري استدارة في مفاهيمها ومبادئها، حتّى أنَّ الكثير منها غيَّرت أسماءها أيضاً.

تنفَّست قوى الحداثة الرَّأسماليّة الصُعَداء إثر انهيار المنظومة الاشتراكيَّة، وهيمنت قُطبيَّة أحادية على العالم، الذي بدأ يترنَّح تحت وطأة صراعات وحروب متعدِّدة، والتي لاتزال مستمرّة إلى الآن.

إنَّ الفراغ الذي تركه انهيار الاشتراكيَّة والضمور والانكماش في الفكر اليساريّ، خاصَّةً في الشَّرق الأوسط، استغلَّته الحركات الدّينيّة الإسلاميّة، لتؤسِّس تنظيمات جهاديّة متطرِّفة ترفع شعارات عودة الحكم بالإسلام، وأنَّه الحَلُّ الأنسبُ للشعوب في إحلال العدالة والحقوق والمساواة.

تصاعد بروز الحركات السَّلفيّة والجهاديّة في أكثر من دولة، مثل السّودان وتونس ومصر وفلسطين وسوريّا، وانعكس في تزايد تأثيراتها على المجتمع لجهة محاولة إحداث تغييرات جوهريَّة وبنيويّة في طريقة التَّفكير والتوجُّهات لدى الأفراد، وزيادة المظاهر الدّينيّة غير المألوفةوالتي تحمل في طيّاتها الكثير من المخاطر مستقبلاً. فكثرت حلقات الذِّكر الدّينيّ في البيوت، إلى جانب انتشار “القبيسيّات/ تنظيم المرأة ضمن الحركات الإسلاميّة”، وأداء صلاة الجمعة في المساجد بأعداد تفوق المعتاد، والتَّركيز على ما تُسمّى “دروس في الجهاد” في خطب الجمعة من قبل الأئمة والخطباء، والتي خاطبت العواطف وليس العقول، فانتشرت بين صفوف المجتمع حالة من الهيستيريا والولع بالدّين والحركات الدّينيّة فاقت المستويات المعقولة والمعتدلة المألوفة سابقاً، ولم يعد الدّين والتديُّن عقيدة بين المرء وربِّه، بل استثمرته الحركات الإسلاميَّة في إعداد كوادرها، لتغدو خلايا نائمة، كالجمر تحت الرَّماد، متى ما أرادت تشغيلها أيقظتها.

استقطبت الحرب في أفغانستان ضُدَّ الاتّحاد السوفياتيّ في بداية التّسعينات آلاف “الجهاديّين” من بلدان الشَّرق الأوسط، فوجدت الحركات الإسلاميَّة في حركة طالبانوأفغانستان منطلقاً لها في تدريب عناصرها والاستفادة من تجربتها في الحكم، وأصبحت قبلة لكُلِّ”الجهاديّين والسَّلفيّين” في العالم.

لم يكن كُلّ ما يحصل من تغيّرات في فرض الأفكار الجهاديّة المتطرِّفة وأسلمة المجتمع ببعيد عن أنظار أنظمة الحكم في دول الشَّرق الأوسط خصوصاً، وكذلك عن الدّول الغربيَّة أيضاً. فأنظمة المنطقة سهَّلت للحركات الإسلاميَّة بالتمدُّد داخل الدولة والمجتمع، لتستفيد منها لاحقاً في إثارة النَّزعات الدّينيّة والطائفيَّة، وتستخدمها شمّاعة تعلِّق عليها كُلّ أخطائها في الحكم والإدارة، وتشدِّد من قبضتها على شعوبها، وتغلق كُلّ مساحات الحُرّيّة أمامها، وبالتّالي تديم حكمها وتحافظ على نفسها من أي تصدّعات مستقبلاً.

بروز تنظيم “القاعدة” في هذه الأجواء المشحونة بالصراعات، والتي تمتدُّ جذورها إلى حركة “الإخوان المسلمين” المصريَّة المنبت والولادة، منح الحركات الإسلاميَّة القوَّة والإرادة في التحرُّك وتنظيم أنفسها بشكل أسرع، فبدأت باستهداف السَّفارات الغربيَّة في عدَّة دول، إضافة إلى تنفيذ تفجيرات في بلدان إسلاميّة مثل السُّعوديّة.

تفجير مبنى التِّجارة العالميّة في نيويورك في 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001، من قبل تنظيم “القاعدة”، مثل نقلة نوعيَّة ومفصلاً هامّاً في اتّجاهات وإستراتيجيّات الحركات الإسلاميَّة وكذلك للدّول الرَّأسماليَّة، التي توصَّلت إلى خلق عدوٍّ مفترض لها تبرّر من خلال صراعاتها وحروبها معها سيطرتها على إرادة ومقدَّرات الشُّعوب، وخاصَّةً في الشَّرق الأوسط.

إطلاق الولايات المتّحدة الأمريكيَّة الحرب في أفغانستان ضُدَّ حركة طالبان وتنظيم القاعدة بذريعة محاربة الإرهاب، أعاد لها تواجدها المكثَّف في المنطقة بكامل ترسانتها العسكريَّة، وفتح لها مجالاً أوسع للتحرُّك بأريحيَّة لتتمكَّن عبرها من حشد تأييد دول المنطقة وحليفاتها في النّاتو وزجِّها في هذه الحرب.

انقلبت الولايات المتّحدة ومعها الدّول الغربيَّة الأخرى على حلفائها من جهاديي الأمس– خاصَّةً المجاهدين العرب في أفغانستان –الذين كانت تقدِّم لهم كُلَّ الدَّعم والإمكانيّات في محاربة الاتّحاد السّوفياتيّ في أفغانستان، لتعتبرهم عدوَّها الأول وتعلن عليهم حرباً شاملة، ليس في أفغانستان، بل في العالم أجمع. لقد تمكَّنت الرَّأسماليَّة مشفوعة بقوّتها الماليّة والعسكريّة والسِّياسيّة من الإيهام بأنَّ الإسلام السِّياسيّ يُعَدُّ العدوّ الأوّل المهدّد للأمن والسِّلم الدّوليّين،بعد فرط عقد الاشتراكيَّة ونهاية الحرب الباردة، وتفرض هيمنتها كقطب أوحد وتستثمر في الحروب والصراعات خدمة لديمومة مصالحها.

إنَّ حرب العراق في عام 2003، تعتبر ذروة التَّصعيد الغربيّ ضُدَّ الحركات الإسلاميَّة في المنطقة. فرغم أنَّ الحرب شُنَّت تحت ذريعة امتلاك العراق لأسلحة الدَّمار الشّامل، ودعمه لتنظيم “القاعدة”، إلى أنَّ الأساس كان نقل المواجهة بين الغرب والحركات الإسلاميَّة من أفغانستان إلى قلب الشَّرق الأوسط وليس أطرافه. لقد بات العراق هذه المرَّة وجهة وقبلة الجهاديّين من كُلّ أنحاء العالم، وخاصَّةً من سوريّا ومصر وتونس والسّودان. إنَّ عمليّات تسلّل “الجهاديّين” عبر الحدود السُّوريَّة – العراقيَّة بزعم الدِّفاع عن العراق ضُدَّ “الغرب الكافر”، جرت بأعداد هائلة، والسُّلطات غضَّت الطرف عنهم، في مسعى للتخلُّص منهم في العراق، حتّى تحوّلت جغرافيا ميزوبوتاميا/ بلاد الرّافدينإلى ساحة اجتمع فيها كُلُّ شُذّاذ الآفاق تحت مُسمّى “الجهاد الأعظم”.

إنَّ عُتاةَ الإرهابيّين ممَّن يقودون الحركات المتطرِّفة الآن من أمثال “الجولاني، إبراهيم الشيخ” وقبلهما “البغدادي، حسّان عبود، وزهران علّوش” وغيرهم الكثيرون، تدرَّبوا في العراق على يد زعيم تنظيم القاعدة فيها “أبو مصعب الزَّرقاوي”، ليعودوا إلى سوريّا حاملين أفكارهم الجهاديَّة، ويطلّوا برؤوسهم في الأزمة السُّوريَّة التي اندلعت في مارس/ آذار 2011 حتّى مُسمّى “الثَّورة السُّوريَّة”.

البيئة والمناخ السّائد في سوريّا ومعظم دول الشَّرق الأوسط قبل اندلاع ما تُسمّى بثورات “الرَّبيع العربيّ”، كانت ملائمة لعمل ونشاط الحركات الإسلاميَّة الجهاديّة التَّكفيريّة، فعمليّات شحن العقول بالفكر الجهاديّ كانت مستمرة قبل أكثر من عقد من الزَّمن، وتمكَّنت تلك الحركات من تسميم عقول جيل بالكامل بأفكارها السَّوداويّة، وتزرع في نفوسها روح التمرُّد والانتقام والطائفيَّة. فبمجرّد إطلاق شرارة الحرب في سوريّا؛ التحق الآلاف منهم بصفوف تلك الحركات، وهذا يفسِّر رفع الشِّعارات الإسلاميَّة ضمن التَّظاهرات التي انطلقت في بداية الأزمة السُّوريّة من قبيل “الإسلام هو الحَلّ” ورفضها للدّيمقراطيَّة، بل وحتّى تكفيرها.

مظاهر “التأسلم” خارج السِّياق الطبيعيّ الذي كان سائداً في سوريّا ما قبل أزمتها، أوصلت الأوضاع فيها إلى ما وصلت إليه، فكنت ترى شوارع حلب ودمشق وباقي المدن السورية قبل الأزمة مكتظَّة بالسُّوريّين في صلاة الجمعة، وكُلُّ شخص قد أمسك بيد أولاده الصغار وألبسهم لباساً أبيضاً “كلابيه” ووضع على رؤوسهم قُبَّعة بيضاء وأرفقه معه للصلاة في المسجد. الآن معظم هؤلاء الصغار حينها أصبحوا من أخطر الإرهابيّين في سوريّا ومنهم من تقلَّدَ مناصب مثل قائد فصيلة أو كتيبة أو حتّى لواء، وباتوا يمارسون القتل والاختطاف ويرتكبون كُلَّ أشكال الموبقات، بل تحوَّلوا إلى مرتزقة بيد تركيّا، خاصَّةً في المناطق المُحتلَّة من سوريّا مثل عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض.

ما لفت الأنظار وسلَّطت وسائل الإعلام الضوء عليه في هذه الفترة وقبلها أيضاً، مشاهد الاحتفال الذي أقامته إحدى الجهات في إقليم كردستان العراق، بتخريج عدد من النِّساء بمناسبة ارتدائِهُنَّ الحجاب. فالعُرف العام ليس ضُدَّ الحجاب، ولكُلِّ امرأة مطلق الحُرّيّة في ارتدائه من عدمه، ولكن بالتَّأكيد هناك أيدي خفيّة تعمل وتشجّع النِّساء لارتدائه بهذا الشكل الفظ والغريب والشاذ عن عادات المنطقة بشكل عام، لتنفيذ أهداف ومآرب أخرى، فلا أحد يعارض ارتداء المرأة الحجاب، ولكن تنظيم هكذا احتفال يثير المخاوف، وهو ما يُعيدُ إلى الأذهان المظاهر التي تكرَّرت في معظم المدن السُّوريّة قبيل الأزمة. فحالات الادّعاء بالأسلمة غير المعتادة، تحمل معها مخاوف بتحوّل المنطقة إلى بؤرة تعشعش فيها الحركات الإسلاميَّة المتطرِّفة التي تستغلُّ مظاهر التديُّن العادية لدى شعوب المنطقة، وتنظِّمَ نفسها بينها وتقيم حاضنة شعبيَّة لها.

ما تدَّعيه حركات الإسلام السِّياسيّ، بأنَّ شعوب المنطقة تعيش “صحوة إسلاميَّة”، ما هي إلا بدعة يُراد لها أن تُقحم نفسها في صراعات المنطقة عبر مشاريع طوباويَّة وإرهابيَّة متطرِّفة، وتعرقل عمليّات التحوّل نحو الدّيمقراطيّة، حيث بات في حكم اليقين أنَّ أيَّ مشروع دينيّ لم يعد يتلاءم مع ظروف وشروط العصر، وهي بأفكارها ومشاريعها تخدم دول الحداثة الرَّأسمالية بقوَّة وبشكل مباشر، هذا إن لم تكن شريكة لها في تدمير المنطقة وإعادتها قرون عديدة إلى الوراء.

زر الذهاب إلى الأعلى