آراء وتحليلات

هل سيضحّي أردوغان بإخوان سوريّا بعد مصر؟

جميل رشيد

أتحف الرَّئيس التُّركيّ رجب طيّب أردوغان الأوساط السِّياسيّة باستدارة جديدة، ورُبَّما من نوع آخر وأكثر إثارة للجدل، وقد تكشف آخر الأوراق التي كان يتستَّر بها للتمويه على سياساته في منطقة الشَّرق الأوسط، بل وفي العالم أجمع.

تعتبر زيارة أردوغان لمصر ولقائه مع الرَّئيس المصريّ السّيسي، تحوُّلاً مفصليّاً في سياسات أردوغان السّابقة إزاء العديد من الملفّات التي طالما تمسَّك بها واعتبرها من المُسلَّمات التي لا يمكن أن تتبدَّل وتتغيَّر مع مرور الزَّمن، على أنَّها ثوابت في سياساته تجاه مصر وغيرها من دول المنطقة، وعلى رأسها احتضانه وتبنّيه لحركة “الإخوان المسلمين” ليس في مصر فقط، بل في جميع الدّول التي شهدت ثورات شعبيّة. إلا أنَّ مصر، وباعتبارها المهد الأوَّل للحركة؛ فإنَّ أردوغان ركَّزَ ثقله واهتمامه السِّياسيّ والعسكريّ عليها.

إنَّ ذوي الذّاكرة المثقوبة فقط يمكن لهم أن ينسوا تصريحات أردوغان غداة وصول حليفته، جماعة “الإخوان المسلمين”، إلى السُّلطة في مصر، وتنفَّس حينها الصُّعداء واعتقد بأنَّه ثبَّت رِجله القويّة في الشَّرق الأوسط، على اعتبار أنَّ مصر هي المنطلق له للتوجّه شمالاً وجنوباً، وشرقاً وغرباً، وبنى عليها أحلاماً كبيرة، بأنَّ بإمكانه يَمُدَّ أذرعه في معظم دول الجوار. والكُلُّ يتذكَّر أقواله عندما قال إنَّه لن يتصالح مع الرَّئيس السّيسي إلا إذا أعاد الإخوان إلى السُّلطة، وظَلَّ يرفع شعار “الرّابعة” في معظم المناسبات، ويقدّم الدَّعم للإخوان سياسيّاً وعسكريّاً، حتّى افتتح لهم قنوات تلفزيونيّة على أراضيه، إضافة إلى منح معظم أعضائه الجنسيَّة التُّركيّة، وفتح لهم أرصدة في المصارف التُّركيّة، ونسَّقَ مع دولة قطر في دعم الإخوان دبلوماسيّاً وسياسيّاً في المحافل الدّوليّة.

إثر اللّقاء العابر بين أردوغان والرَّئيس السّيسي في افتتاح مونديال كأس العالم في قطر في نوفمبر/ تشرين الثّاني 2022، فوراً تراجع أردوغان عن وعوده السّابقة في دعم الإخوان، وبدأ مسلسل تضييق الخناق عليهم عبر إغلاق القنوات الإعلاميَّة وتقييد حركتهم داخل تركيّا، واستمرّت بلقاء بين وزيرَي خارجيَّة البلدين، إلا أنَّها لم تتطوّر كثيراً؛ نظراً لتوجُّس أردوغان وعدم جرأته الإقدام على تطبيع العلاقات مع مصر، مقابل تنفيذه لشروط مصر، وأوَّلها تسليم قيادات الصفّ الأوَّل للإخوان لها.ورغم أنَّه ضحّى ببعض العناصر، ولكن خلافات أخرى حول تقاسم المياه الإقليميّة بين البلدين، والاتّفاقيَّة الموقَّعة بين مصر واليونان ومحاصرة تركيّا في البحر الأبيض المتوسّط، حالت دون استئناف العلاقات الدّبلوماسيَّة بينهما.

الزّيارة الأخيرة لأردوغان لمصر في الفترة الأخيرة؛ رافقتها العديد من التطوّرات الهامَّة، لجهة تعهُّداته في تنفيذ الشّروط المصريَّة وأوَّلها تجفيف منابع حركة الإخوان المسلمين في تركيّا، ومن ثُمَّ زرع الثِّقة بين الطرفين عبر وقف التَّصريحات المضادّة لمصر، وإبداء حُسن النيَّة في عودة العلاقات إلى سابق عهدها.

سحب الجنسيَّة التُّركيّة من المراقب العام للإخوان المسلمين المدعو “مُحمَّد حُسَين” مؤشِّرٌ قويُّ على أنَّ أردوغان ضحّى بالجماعة على مذبح مصالحه القوميّة، وأنَّه لن يتوانى في تقديم الجماعة كبش فداء لقاء المصالحة مع مصر، وهذا يسري على معظم دول المنطقة، مثل السُّعوديّة والإمارات العربيَّة المتّحدة، وأخيراً سوريّا. وقد اتّخذت تركيّا إجراءات سريعة لترحيل ما تبقّى من عناصر وقيادات الإخوان عن أراضيها، وعلى الأرجح ستكون وجهتهم الأخيرة قطر، التي هي الأخرى ستفرض عليهم شروطاً قاسية في الإقامة على أراضيها، وأوَّلها تقييد نشاطها السِّياسيّ والدَّعوي.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ هل ستتولَّد لدى جماعة الإخوان ردود فعل انتقاميَّة على القرار التُّركيّ في سحب الجنسيَّة من قياداتها وعناصرها وترحيلهم من أراضيها، وما حدود وشكل تلك الرّدود إن حصلت؟

المتتبّع لمسيرة التَّعاون بين تركيّا والإخوان، يُدرك بسهولة إمكانيَّة الأولى على تقويض قدرات الثّانية، بعد أن ارتمت بأحضان تركيّا وأردوغان وسلَّمته كُلَّ أوراقها، ولا يتوقَّع أحد أن يصدر عن الجماعة أيُّ تَحرُّكٍ من شأنه أن يؤثِّرَ على تركيّا، وبكلمة أدقّ؛ تُعتَبَر تركيّا في الفكر الإخوانيّ “مركز الخلافة الإسلاميَّة” المرتقب، حسب وصيَّة مؤسِّسها “حسن البنّا” والقيادات اللّاحقة للإخوان، كما هو موثَّق في الأدبيّات السِّياسيّة والدَّعويّة للجماعة منذ ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، وهي تعتبرها خطوطاً حمراء ليس في وسع القيادات الحالية، بما فيها المراقب العام، تجاوزها وتعديلها.فهي أقرب إلى حالة تبعيّة مطلقة وعمياء، منها إلى التَّحالف المبني على المصالح المشتركة، وهناك فتاوى للجماعة في هذا الخصوص ولا يمكن ذكرها هنا.

فهل الإخوان بذاك الغباء السِّياسيّ في أنَّهم لم يتعرفوا على أردوغان المساوم والمقامر حتّى على قضايا وطنه، أم أن نجمهم بدأ بالأفول، ومن مزايا أردوغان أنَّه لا يتحالف مع الضعيف، بل يتحالف مع القويّ ضُدَّ الضعيف.

ولكن السؤال الأكثر إثارة للجدل؛ هل ستقع جماعة الإخوان المسلمين– فرع سوريّا في ذات الفخِّ الذي وقع فيه إخوان مصر، أم أنَّ موعد تقديمهم على طبق من ذهب إلى الحكومة السُّوريّة لم يَحِنْ بعد، ومازال أردوغان يستخدمهم مرتزقة في صراعاته في المنطقة والعالم، وخاصَّةً ضُدَّ الكُرد في شمال وشرق سوريّا، ومتى ما حان موعد التَّضحية بهم؛ فإنَّه لن يدَّخِرَ جهداً في سوقهم مكبّلين بالسلاسل والأصفاد إلى دمشق، ودون أن يَرُفَّ له جفن. وهل سيأخذ إخوان سوريّا العبرة من إخوانهم في مصر وترتدع الجماعة وتعود إلى رشدها وتَفُكَّ علاقتها مع تركيّا التي طالما تحتلُّ أراضٍسوريّة واسعة، وتَفتِكُ بشعبها ليل نهار، وهم شركاء معها في سفك الدَّمِالسُّوريّ؟

الواضح أنَّ إخوان سوريّا يعيشون حالة من النشوة العابرة، ولم تأتِ الفكرة بعد السَّكرة، مثلما يقول المثل الدّارج، خصوصاً بعد احتلال تركيّا لأجزاء من الأراضي السُّوريّة، ولايزال الوهم يسيطر عليهم بأنَّ الاحتلال تكرَّس كواقع دائم في سوريّا، لطالما ربطوا مصيرهم بها، وأنَّه لا مجال لتغيير المعادلات القائمة على الأرض في سوريّا مستقبلاً، ولا أحد بمقدوره إزالة الاحتلال وإنهاءه. على ضوء هذا التحالف العضوي بينها؛ ساهمت جماعة الإخوان في تطوير المشاريع الاستيطانية على المناطق المُحتلَّة من قبل تركيّا، وخاصَّةً في عفرين، حيث عمدت في الآونة الأخيرة إلى إنشاء مستوطنات جديدة في مناطق متعدِّدة من عفرين، بالتَّعاون مع إخوان سوريّا وفلسطين “حركة حماس”، ظنّاً منها أنَّها – أي جماعة الإخوان المسلمين في سوريّا– قد حقَّقت انتصاراً كبيراً في تهجير أهالي عفرين الكُرد الأصليّين من موطنهم الأصليّ، واستقدمت أنصاراً لها من كُلِّ أنحاء العالم ووطَّنتهم في عفرين. وقد ورَّط أردوغان زوجته في عمليّات بناء المستوطنات واستقدام المستوطنين، حيث أشرفت هي مؤخَّراً على استقدام /50/ عائلة ووطَّنها في عفرين، على أن تلحقها عوائل أخرى في الأيّام القادمة.

تحاول تركيّا إعادة النَّظر في سياساتها الخارجيَّة السّابقة تجاه عدد من دول المنطقة والعالم، فبعد موافقتها على انضمام السّويد إلى حلف النّاتو، كافأتها الولايات المتّحدة بالموافقة على بيعها طائرات “إف – 16” وقطع غيارها، ولكنَّها في ذات الوقت دقَّت إسفيناً أشعل التوتُّر مجدَّداً بينها وبين اليونان، العدوّ التّاريخيّ والتَّقليديّ لها، بعد أن وافقت على بيعها طائرات “إف – 35” الأحدث، وهو ما اعتبرها أردوغان إهانة وتهديداً له في ذات الوقت، وهذا يدلُّ على فقدان تركيّا تلك الأهميَّة الجيوستراتيجيَّة لدى الولايات المتّحدة وحلف النّاتو. هذه الاستدارات التُّركيّة جعلت القيصر الرّوسيّ “بوتين” ينفجر غضباًويلغي زيارته المُقرَّرة إلى تركيّا، خاصَّةً بعد بناء الأخيرة مصنعاً للطائرات المُسيَّرة “بيرقدار” في أوكرانيا، إضافة إلى الحوالات المصرفيَّة التي تصل إلى أوكرانيا عن طريق المصارف التُّركيّة. ويُتوقَّع أن ينعكس الغضب الرّوسيّ من تركيّا في سوريّا على شكل تحريك جبهات التَّماس مع مرتزقتها، وإعلان حملة مرتقبة ضُدَّها في إدلب وشمال حلب، وهو بالتَّأكيد خَبرٌ لن يَسُرَّتركيّا، في وقت بدت فيه الولايات المتّحدة أيضاً ممتعضة من الدَّور التُّركيّ في سوريّا، بعد الاستهدافات المتكرِّرة لمناطق شمال وشرق سوريّا، وتدميره منشآت البُنية التَّحتيّة فيها.

الثّابت في السِّياسة التُّركيّة؛ أنَّها على استعداد للتّنازل عن شروطها مع جميع من كانت تعتبرهم أعداء لها في الأمس القريب، وتقبل بشروطهم، وتضحّي بجماعات الإخوان المسلمين أيضاً، مقابل عدم تقوية شوكة الكُرد وحصولهم على حقوقهم في سوريّا، ولكن هل من السُّهولة بمكان إخراج الكُرد من معادلات التَّوازن والقوَّة والحَلِّ في سوريّا، والنّزول عند رغبة تركيّا وأردوغان؟ كُلُّ الاعتقاد أنَّ الكُردَ تحوَّلوا إلى رقم صعب في معادلات الحَلِّ السُّوريّة والإقليميَّة، ولا يمكن أن تستقرَّ المنطقة دون نيلهم لحقوقهم.

زر الذهاب إلى الأعلى