آراء وتحليلات

الانسحابُ الإيرانيُّ من سوريّا.. بين الوَهمِ والحقيقةِ

جميل رشيد

يجري الحديث بشكل مكثَّف منذ أيّام، عن انسحاب للقوّات الإيرانيّة من مناطق الجنوب السُّوريّ، وخاصَّةً درعا، القنيطرة وريف دمشق، وتمركز قوّات حزب الله والميليشيّات العراقيَّة في نقاطها، تزامناً مع إزالة صور القادة الإيرانيّين وأعلام إيران في شوارع وساحات دمشق، واقتصر تعليقها على منطقة “السّت زينب” فقط.

يأتي التحرُّك الإيرانيّ الجديد في سوريّا، غداة مقتل قادة عسكريّين كبار في قصف قنصليَّتها بدمشق أوائل شهر إبريل/ نيسان الجاري، كنوع من تخفيف تواجدها العلنيّ السِّياسيّ والعسكريّ المكثَّف في سوريّا.

لكنَّ السؤال المطروح؛ هل فعلاً لجأت إيران إلى تقليص نفوذها السِّياسيّ وقبله العسكريّ في سوريّا، بعد رضوخها للضغوط الغربيَّة والإسرائيليَّة، إثر الاستهدافات المستمرّة لقادتها ومسؤوليها في عِدَّةِ مناطق من سوريّا، أم أنَّها تُعيدُ انتشار قوّاتها في الجغرافيا السُّوريّة، لتتواءم مع شكل جديد من المواجهات مع خصومها المُفترَضين، وتتفادى الضربات الجوّيَّة الإسرائيليَّة الموجعة لقاداتها وقواعدها العسكريّة، وتعمل تحت الأرض أكثر ممّا تعمل فوقها؟

إنَّ الإجابة على هذا السؤال يفترض بداية فهم طريقة تفكير وعمل العقل الإيرانيّ، وعدم تغافل الدَّهاء السِّياسيّ الذي تتَّسم به السِّياسة الإيرانيّة تاريخيّاً، وليس في مرحلة حكم الملالي فقط، حيث يدرك الجميع أنَّ إيران لا تُقدِمُ على اتّخاذ أيِّ خطوة، قبل أن تخطِّطَ لها بشكل جيّد، وبما يتلاءم مع مصالحها ومشاريعها القوميَّة في المنطقة، فهي لا تغامر ولا تقامر، ولا تعتمد على المفاجآت، وتعرف كيف تختار الزَّمان والمكان المناسبين لمواجهة خصومها سياسيّاً وعسكريّاً وإعلاميّاً، فهي أذكى ممّا قد يتصوَّرها بعض البسطاء.

فإن كنّا نتحدَّث مراراً عن الاحتلال التُّركيّ للأراضي السُّوريّة، فإنَّ التواجد الإيرانيّ في الجغرافيا السُّوريّة يوازيه في الفعل والتَّأثير، ولا يسقط عنه تبرير الحكومة السُّوريّة لها بأنَّها دخلت الأراضي السُّوريّة بموافقة وطلب منها، وهي بطبيعة الحال أكذوبة ممجوجة لا معنى لها في ظِلِّ التغلغل الإيرانيّ في مفاصل الدَّولة والجيش السُّوريّ، فضلاً عن محاولات شراء عقارات وأراضي سوريّة لتوطين عوائل ميليشيّاتها فيها، بعد أن يَتُمّ منحهم الجنسيَّة السُّوريّة. وهذا الفِعلُ لا يَقلُّ بشاعة عن محاولات الاحتلال التُّركيّ في تغيير ديمغرافيَّة المناطق التي يحتلُّها، وخاصَّةً في عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض.

لا يقتنع أحد من السُّوريّين أنَّ إيران قد تنسحب من سوريّا خلال وقت قصير، بعد أن حوَّلتها إلى ساحة مواجهة مع إسرائيل، تدير صراعها معها على جغرافيَّتها الملامسة لها بشكل مباشر، حيث أنَّ عامل البعد الجغرافيّ يلعب دوراً كبيراً في لجم إيران أحياناً كثيرة عن رفع سقف المواجهة مع إسرائيل. فرغم أنَّها زجت بعدد كبير من ميليشيّاتها في سوريّا، إلا أنَّها– أي ميليشيّاتها – لا تستطيع أن تقود معركتها مع إسرائيل والدَّول الغربية بشكل عام، نيابة عنها، واستهدافها الأخير لإسرائيل من أراضيها، أكَّدَ على هذه الحقيقة بكُلِّ جلاء. فهي لا تثق كثيراً بميليشيّاتها، وهي أيضاً لا تختلف عن مرتزقة الاحتلال التُّركيّمن حيث استعدادها للارتزاق والعمل مع أيّ جهة، وهي ليست “عقائديَّة” كما قد يتصوَّرها البعض.

الانسحاب الإيرانيّ من سوريّا مرتبط بشكل أساسيِّ بتطوّر ملفّ حَلِّ الأزمة السُّوريّة، لأنَّ أحد أهمّ مفرزات الأزمة أنَّ حلولها أيضاً مرتبطة ببعضها، ولا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال تجزئتها، فمثلما أنَّ كُلَّ احتلال في سوريّا يغذّي الآخر ويقدِّم له كُلَّ أسباب استمراره؛ فإنَّ إخراجها أيضاً سيكون وفق ترتيبات حَلّ الأزمة السُّوريّة بشكل شامل. فالاحتلال التُّركيّ يشرعن احتلاله للأراضي السُّوريّة من خلال التمدُّد الإيرانيّ والرّوسيّ، وحتّى التواجد الأمريكيّ المرتبط بمكافحة الإرهاب مرتبطٌ هو الآخر بالحَلِّ، وفق ما تدّعيه الحكومة الأمريكيَّة.

وإن كان السُّوريّون يواجهون صعوبة في تحرير الأراضي المحتلَّة من قبل تركيّا؛ فإنَّ هناك صعوبة مماثلة، بل أكبر، في إخراج إيران أيضاً، فحجم التوغُّل الإيرانيّ في سوريّا، وإزالة آثاره على الصَّعيد الاقتصاديّ والسِّياسيّ والاجتماعي والعسكريّ، لن تكون بتلك السُّهولة المتوقَّعة، ولن تسحب إيران قوّاتها العسكريّة وميليشيّاتها بيسر، بل ستترك آثاراً عميقاً على مستقبل سوريّا والسُّوريّين، مثلما عملت تركيّا على تغيير ديمغرافيَّة المناطق المحتلَّة، ووطنت فيها عوائل إرهابيّيها، من “داعش” وتنظيمات “الإخوان المسلمين” أمثال حركة “حماس” وغيرها.

غداً ستنكشف أمامالجميع اللعبة التي تديرها إيران في سوريّا، بأنَّها ما هي إلا لمجرَّدِ ذَرِّ الرَّمادِ في العيون، لإبعاد الهجمات الإسرائيليَّة عن قواعدها، وإعادة ترتيب أوراقها، للدخول في مواجهة سياسيّة جديدة مع الغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص ملفِّها النَّوويّ. فالمشروع الإيرانيّ بالتمدّد في منطقة الشَّرق الأوسط والوصول إلى البحر الأبيض المتوسَّط قد تحقَّق لها في جزء كبير منه عبر الاستثمار في الأزمة السُّوريّة بشكل كبير، وتمكَّنت من مَدِّ أذرعها في كُلِّ الاتّجاهات، لتتحكَّم بالمعابر البحريَّة والبرّيَّة، وتنشِئ قواعد ارتكاز لها في أكثر من دولة. بالتَّأكيد أنَّها لن تتخلّى عن تلك النجاحاتبمجرّد قصف قنصليّتها أو إحدى قواعدها، ورُبَّما تلجأ إلى خطط بديلة أخرى، تعزِّزُ فيها تواجدها وتتمكَّن من احتواء الهجمة الشَّرسة للدّول الغربيَّة وإسرائيل ضُدَّها، عبر الإيهام بالانسحاب والاكتفاء بإبقاء بعض المستشارين العسكريّين والسِّياسيّين.

فإن كانت القوّات الإيرانيّة قد انسحبت من خطوط المواجهة مع إسرائيل في الجولان السُّوريّ المحتلّ، وحلَّت محلَّها القوّات الروسية التي أنشأت قواعد ثابتة لها، لا لشيء؛ فقط لحماية أمن إسرائيل بالدرجة الأولى، وتخفيض التوتُّر على الحدود المشتركة بين إسرائيل وسوريّا، ومنع أي استهداف للأراضي الإسرائيلية، فإنَّ روسيّا ستجد أمامها مزيداً من مساحة المناورة، وستكون سعيدةً بأيّ انسحاب إيرانيّ من سوريّا، طالما أنَّها تعمل منذ فترة ليست بالقصيرة على تقليص النُّفوذ الإيرانيّ في سوريّا، عبر ممارسة الضغوط على الحكومة السُّوريّة للشُّروع في الحَدِّ من التدخُّل الإيرانيّ في الشؤون العسكريّة والسِّياسيّة السُّوريّة، وأيضاً التَّفاهم مع إسرائيل في استهداف القواعد الإيرانيّة على الأراضي السُّوريّة.

مثلما فشل المشروع تركيّا الاحتلاليّ في سوريّا، رغم اعتمادها على مرتزقتها من الجماعات الإرهابيَّة المرتبطة بتنظيمات “الإخوان المسلمين” في شرعنة احتلالها، كذلك فشلت إيران في نشر فكرة “التشيُّع” بين السُّوريّين، كمدخل لفرض نفوذها وسيطرتها على سوريّا الدَّولة والشَّعب، رغم انجرار بعض الفئات الانتهازيَّة خلفها، وتحوّلها إلى أبواق لها، إلا أنَّها لم تشكِّل قوَّة فعليَّة على الأرض، يمكن لإيران الاعتماد عليها في أيّ حروب مصيريَّة لها في المنطقة. فمثلما أنَّ الاحتلال التُّركيّ لن يدوم ولا أثر له على المدى البعيد، واستمراره مرتبط بوجود قوّات الاحتلال، ومتى ما رحل الاحتلال، ستزول كُلُّ آثاره أيضاً، كذلك التَّواجد الإيرانيّ في سوريّا هو “وقتي” مرتبط بمعادلة الصراع الدّائر في سوريّا، ولا يمكن الرّكون واعتباره جزءاً من الاهتمام المستقبليّ السُّوريّ، وأنَّ إيران تمكَّنت من أن تؤثّر في الذِّهنيَّة والثَّقافة السُّوريّة وتكون جزءاً منها، فكما أنَّ الشَّعب السُّوريّ مصمِّمٌ على لفظ الاحتلال التُّركيّ؛ كذلك هو لا يقبل بالتَّواجد الإيرانيّ على أراضيه، بأيِّ شكلٍ من الأشكال.

إنَّجلاء القوّات الأجنبيَّة عن الأراضي السُّوريّة، مرتبط بشكل رئيسيّ بالحَلِّ السِّياسيّ لأزمتها، وفي الوقت الرّاهن لا ترغب أيٌّ منها بالخروج، بل على العكس من ذلك، جميعها تعزِّز تواجدها، عسكريّاً وسياسيّاً، بشكل مباشر، أو عبر أدواتها الفعليَّة على الأرض، وكُلُّ من يعتقد بأنَّ أيّاً منها ستخرج خلال فترة قريبة قادمة، إنَّما هو واهم ولا يقرأ التطوّرات بشكل صحيح. والحقيقة الثّابتة أنَّ أمل خروج جميع تلك القوّاتوارد مستقبلاً، باستثناء خروج إيران، فهي خطَّطت للدّخول وعدم الخروج، فأيّ ادّعاء بأنَّ إيران قد خفَّفت من حجم قوّاتها في سوريّا، هو مجرَّدُ أمنيّة وليست حقيقة، فالسَّيطرة الإيرانيّة على المطارات والموانئ والمقار الحكوميَّة وقواعد الجيش السُّوريّ، وانتشار قوّاتها في معظم مناطق الحكومة السُّوريّة، لن ينتهي خلال وقت قصير. فإيران اعتمدت إستراتيجيَّة طويلة المدى في سوريّا وقبلها في العراق. ومثلما يتردَّد في الأوساط السِّياسيّة والإعلاميَّة الأمريكيَّة والعالميَّة، أنَّ الولايات المتّحدة أسقطت نظام صدّام حُسين، وسلَّمت العراق على طبق من ذهب إلىإيران، والآن تتحكَّم بأقوى المفاصل السِّياسيّة والعسكريّة في العراق، فمن المحتمل أن تشهد سوريّا مصيراً مشابهاً للعراق، إن لم يتمّ تدارك اللحظة السِّياسيّة الحاسمة التي تُلزم كُلّ القوى الأجنبيَّة بالرَّحيل عن الأراضي السُّوريّة، والوصول إلى حَلٍّ سياسيٍّ مستدامٍ في سوريّا.

فهل سنشهد مزيداً من الضغوط الدّوليَّة والأمميَّة على القوى الأجنبيَّة في سوريّا للرَّحيل عنها في قادم الأيّام، أم أنَّ واقع التَّقسيم فُرِضَ على السُّوريّين، رغم عدم رغبتهم به؟ فالعام الجاري يبدو مصيريّاً لسوريّا والسُّوريّين، لجهة تحديد مصير وطنهم الذي تتقاذفه الصراعات والأطماع الإقليميّة والدّوليّة منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً.

زر الذهاب إلى الأعلى