آراء وتحليلات

الإسلامُ السِّياسيُّ وأفولُ نَجمِهِ.. الإخوانُ المسلمون نموذجاً

جميل رشيد

دأبت حركات الإسلام السِّياسيّ في سوريّا منذ نشأتها أواسط أربعينات القرن الماضي، ممثّلاً بحركة الإخوان المسلمين، وقبلها “حزب التَّحرير الإسلاميّ”، إلى العمل في الظِلِّ، كقوَّة معارضة لكُلِّ أنظمة الحكم التي تعاقبت على سوريّا منذ فجر الاستقلال وإلى اليوم.

عمدت حركة الإخوان إلى سلوك طريق عدم التوافق مع أيٍّ من الحكومات السُّوريَّة، بل سعت دائماً إلى تغييرها، معتمدةً العنف الوسيلة الوحيدة لديها، فابتعدت عن ممارسة سياسة معارضة مرنة ومعتدلة، ما أودى بهاللوقوع في مستنقعات التطرُّف والتطييف، ومنذ نشأتها الأولى، حيث أنَّها استمدَّت مشروعيَّتها الموهومة المُفتَرَضة من فتاوى شيوخها وقاداتها ومنظّريها، الذين ما فتئوا يكفّرون نظام الدَّولة العلمانيَّة برمّتها، ويبرّرون تكفير كُلَّ من يعمل مع الدَّولة، زاعمين أنَّه يتناقض مع مشروعهم الطوباوي في إنشاء دولة الأمَّة – الخلافة “الإسلاميَّة”.

ادَّعت حركة الإخوان في بداية نشاطها أنَّها مُجرَّدَ حركة دعويَّةً، لا تمارس السِّياسة ولا ترنو للوصول إلى السُّلطة وقلب أنظمة الحكم. إلا أنَّ التجربة العمليَّة لها أثبتت نقيض هذا الادّعاء، وكُلُّ من يطّلع على الأدبيّات السِّياسيّةللحركة، يستنتج الجموح الكبير لدى منظّريها ومفكّريها لتأطير عملها “الدَّعوي” المزعوم في إطار السَّعي للوصول إلى السُّلطة، بل والاستفراد بها وعدم قبول الآخر المختلف معها فكريّاً وسياسيّاً، والسَّعيُ إلى تصفيته بكُلِّ الأساليب.

اتَّبعَت حركة الإخوان أسلوب العمل كخلايا نائمة، وبرَّرته تحت مزاعم حظرها ومنعها من ممارسة السِّياسة من قبل الحكومات السُّوريّة، رغم أنَّها في خمسينات القرن الماضي تمكَّنت من إيصال عدد من أعضائها إلى البرلمان وبينهم مراقبها العام “مصطفى السِّباعي”. إلا أنَّ ما دفع الحكومات السُّوريَّة إلى حظر التَّنظيم ومنعه من العمل بشكل علنيٍّ، هو وقوعه في براثن التطرُّفِ الدّينيّ، والذي انعكس بتنفيذها أعمالاً عسكريَّة (تصفيات، اغتيالات، تفجيرات) ضُدَّ كُلِّ ما يتعلَّق بالدَّولة، دون التَّفريق بين الدَّولة كمؤسَّسات وإدارات هي بالنِّهاية ملكٌ للشَّعب، وبين الأنظمة السِّياسيّة والأمنيَّة التي تدير الدولة، مثلما اغتالت رئيس جامعة دمشق الدكتور والحقوقيّ البارع “مُحمَّد الفاضل” عام 1977، رغم أنَّه كان من أوَّلِ المدافعين عن الحركة أيّام إضرابات النقابات في سوريّا. وبهذا الشَّكل الفظِّ انحدرت إلى مواقع العنف العشوائيِّ غير المُبرَّرِ له بأيِّ شكلٍ من الأشكال.

إنَّ تطوّر ظاهرة الإسلام السِّياسيّ في الأوساط الشَّعبيَّة والسِّياسيّة ظَلَّ محدود التَّأثير، نظراً للبنية العقديَّة والسُرّيّة لديه، وبقي تأثيرها في نطاق ضيّق، ولم تتطوَّر لتغدو حركة شعبيَّة واسعة، وهي– أي حركات الإسلام السِّياسيّ وفي مقدِّمتها الإخوان –حيث تبنَّت جماعة الإخوان فكرة ونظريَّة بناء حلقات تنظيميّة ضيّقة كشكل تنظيم اتخذَّتها لنفسها، ومن ثُمَّ الانخراط في العمل السُرّيّ، والذي جوهره يتمحور حول تغيير النِّظام بكُلِّ الطرق الممكنة، وإن استدعى ذلك العمل المُسلَّح. فالتَّنظيم السُرّيّ الهرميّ الذي يبدأ من الخلية ينتهي عند ما يُطلقون عليه “مجلس الشورى” و”المراقب العام” ونائبه. والآليَّة التي يعتمدها الإخوان في تعيين قاداته هي “التزكية” من قبل شيوخها وعلمائها، ولا يعتمدون آليَّة الانتخابات الدّاخليَّة، لأنَّهم بالأساس يكفِّرون الانتخابات ولا يعترفون بها كآليَّة ديمقراطيَّة لاختيار قيادات وممثّلين لها. فيما هناك ما يُسمّى بـ”الوصيَّة” داخل الحركة، حيث يوصي المراقب شخصاً قياديّاً في تولّي منصب المراقب بعد موته أو مرضه، وهي تشبه إلى حَدٍّ ما أسلوب “الوراثة” الذي كرَّسته الأسرة الأمويَّة الحاكمة في بلاد الشّام، ويبدو أنَّهم يستلهمون تلك الفكرة من ذاك التّاريخ ضمن مذهب ما يطلقون عليه اسم “أهل الجماعة والسُنّة”.

انزوت حركة الإخوان بنفسها عن التَّفاعل مع كُلِّ الحالات التي مَرَّت بها سوريّا منذ عهد الاستقلال، وكرَّست فلسفة الرَّفض لكُلِّ ما هو مغاير لفكرها وتوجُّهاتها بين أتباعها ومريديها، إلى جانب التحيّز الطائفيّ والمذهبيّ ونشر ما تُسمّيه بـ”مظلوميَّة أهل السُنَّة”، مدَّعية أنَّ “الأكثريَّة السُنّية” تُحكَمُ من قبل الأقليّات “المسيحيَّة والعلويَّة” وغيرها، وأنَّ العدل يفترض قلب المعادلة، بأن تخضع الأقليَّة لحكم الأقليَّة، وهذا يتناقض كُلّيّاً مع مفهوم التَّمثيل العادل لكُلٍّ الأقليّات والإثنيّات داخل أيِّ دولة من الدّول. فلا يستقيمُ العدل إن جرى تهميش أيّ مكوّن دينيّ أو إثنيّ أو ثقافيّ في أيٍّ من الأوطان، وأيُّ دعوة من هذا القبيل إنَّما تُكرِّسُ لحالة الانقسام المجتمعيّ، لأنَّه يعتمد الانتماء الطائفيّ والمذهبيّ أساساً له في إدارة البلاد، وهذا التوجّه بحَدِّ ذاته يخلق معه بذور الصراع المفتوح على كُلِّ الاحتمالات بما فيها الاقتتال والحرب الأهليّة، كما هو حاصِلٌ في سوريّا.

ولا يُخفى على أحد أنَّ حركة الإخوان المسلمين هي الأم الرّؤوم لكُلِّ حركات الإسلام السِّياسيّ المتطرّف والسّلفيّ والجهاديّ في العالم الإسلامي، وخاصَّةً العربيّ منه. فالحركة التي تأسَّست على يد مرشدها الأوَّل “حسن البنّا” بمصر عام 1928، تفرَّخت عنها عشرات بل مئات الحركات الإسلاميَّة “الجهاديَّة” المتطرِّفة، التي لا تؤمن إلا بالعنف كوسيلة لتغيير الأنظمة. والأدبيّات والنظريّات المتطرِّفة التي صاغها كُلٌّ من “البنّاو”سيّد قطب” في كتابه الشَّهير “معالم في الطريق”، إنَّما هي دعوات مباشرة لنشر التطرُّفِ تحت اسم “الجهاد”. ولا ريب أن تظهر حركات إسلاميَّة تتبنّى الإرهاب من أمثال “تنظيم القاعدة”و”داعش” و”النُّصرة” و”أنصار بين المقدس” وغيرها الكثير. وكتاب المنظِّرِ الرَّئيسيّ لتنظيم القاعدة المدعو “أبو مُحمَّد المقدسيّ” تحت اسم “نظريَّة التوحُّش”، لا يختلف كثيراً عمّا طرحه “البنّا” و”سيّد قطب” في الأدبيّات السِّياسيّة والدَّعويّة لحركة الإخوان. كما دعا المؤسِّس الأوَّلُلـ”تنظيم القاعدة” المدعو “عبد الله عزّام” إلى تبنّي نظريَّة “التوحُّشِ والإرهاب” كعقيدة أساسيّة في التَّنظيم، مدَّعياً أنَّ كُلَّ من لا يلتزم بها “لا يُعَدُّ مسلماً”، بل يجب تكفيره، مؤكِّداً أنَّها السَّبيل الوحيد للوصول إلى الأمَّة الإسلاميَّة المنشودة، متجاهلاً كُلَّ قيم الإسلام السَّمحاء والدّاعية للتَّعايش مع جميع الأديان والأقوام على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم. ويمكن لمن يريد التأكُّد من صِحَّةِما دعا إليه “عزّام” العودة إلى الفيديوهات التي سجَّلها عندما كان في أفغانستان ضمن صفوف حركة “طالبان”.

لعبت حركة الإخوان المسلمين دوراً تخريبيّاً كبيراً في الأزمة السُّوريَّة التي اندلعت في عام 2011، حيث وجدت فيها فرصتها الثَّمينة لخلق حالة من الانقسام والاستقطاب الطائفيّ والمذهبيّ في سوريّا والانتقام لأحداث الثّمانينات، ونشر خطاب الكراهية بين مكوِّنات الشَّعب السُّوريّ، الذي لم يعرف الطائفيَّة والمذهبيّة يوماً ما. كما دعت منذ اليوم الأوَّل إلى عسكرة الاحتجاجات الشَّعبيَّة، وركوب موجة ما كانت تُدعى “الثَّورة” حينها، والتحكُّم ببوصلتها انطلاقاً من إسطنبول والدَّوحة، لتزيد حالة التطييف والتمذهب داخل سوريّا، وتنتقل إلى مرحلة القتل والتصفية على الهُويَّة والانتماء المذهبيّ، وتكفير كُلَّ من لا ينساق مع أفكارها وتوجّهاتها. هذه الحالة وضعت سوريّا وشعبها في نفق مجهول غير معروفة نهايته حتّى يومنا هذا.

كذلك كُلّ الهيئات والمجالس والهياكل المعارِضة التي تأسَّست في الخارج وبدعم مكشوف ومباشر من قطر وتركيّا وتحت اسم “الثَّورة السُّوريَّة والشَّعب السُّوريّ”، إنَّما هيمنت عليها جماعة الإخوان المسلمين. كما أنَّها شكَّلت في الدّاخل مجموعات مسلَّحة تحت أسماء عديدة وتكاثرت في الجغرافيا السُّوريّة كالبراميسيوم، ومعظمها ارتبطت بها وعملت بموجب توجيهاتها. فنشرت الفوضى في مجمل المناطق السُّوريَّة، ليكون الرَدُّ المقابل من قبل الحكومة السُّوريَّة بشكل أكثر عنفاً ودمويَّة.وتحوَّلت حركة الإخوان ومعها كُلّ الهياكل التّابعة لها وكذلك المجموعات المُسلَّحة إلى ألعوبة بيد داعميها، وخاصَّةً تركيّا وقطر، لتستخدمها أداةً في تنفيذ أجنداتها الخاصَّةِ. فزجَّت بهم تركيّا في عمليَّة احتلالها لكُلٍّ من عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، وحوَّلتهم إلى “مرتزقة” تُرسلهم للقتال خارج سوريّا مثل ليبيا وأذربيجان وإقليم كردستان العراق.

لقد وصل الإسلام السِّياسيّ وخاصَّةً حركة الإخوان المسلمين إلى طريق مسدود، وبدأ خَطُّها البيانيّ بالانحدار، بعدما حقَّقت بعض النَّجاحات لنفسها في بداية ثورات الرَّبيع العربيّ في مصر وتونس، والآن وصلت إلى مرحلة الإخفاق في إنجاز أيٍّ من مشاريعها في المنطقة، وآخر قلاعها كانت في غزَّةَ ممثَّلةً بحركة “حماس”، حيث تلقَّت ضربة قاتلة من إسرائيل، دفع أكلافها أكثر الشَّعب الفلسطينيّ من دماء أبنائه وأمواله واستقراره. كما أنَّ التَّنظيم العالميُّ للإخوان يَمُرُّ بمرحلة الاحتضار بعد الانقسامات العاصفة التي لمَّت به إثر استئثار بعض قاداته بقرارات وأموال التَّنظيم في أكثر من دولة. فما على الحركة إلى أن تُراجِعَ نفسها وتُقدِّمَ نقدها الذّاتيّ واعتذارها لشعوب المنطقة، وفي مُقدِّمَتها الشَّعب السُّوريّ، لما تسبَّبت له في مآسٍ وكوارث لا نهاية لها، فهل لديها آذانٌ صاغية لسماع أصوات المقهورين والمذبوحين بسكاكينها؟

زر الذهاب إلى الأعلى