آراء وتحليلات

تركيا.. مصالحة مع النظام أم مساومة على المعارضة؟

جميل رشيد

رُبَّما من مفارقات عصرنا الحاليّ المُتقلِّب، او من سُخريات القدر؛ أن تجدَ عدوَّ الأمس حليفك اليوم، وهو ما يسري على تركيّا ومَسيرة علاقاتها مع دول الجوار، وخصوصاً مع سوريّا.

تصريحات وزير الخارجيّة التُّركيّ مولود جاويش أوغلو بشروع بلاده للعمل على إنجاز “اتِّفاقٍ بين المعارضة والنِّظام للوصول إلى حَلٍّ سلميٍّ دائمٍ في سوريّا”، يمكن قراءته ضمن سياقات عديدة، أهمُّها:

1 – فشل السِّياسة التُّركيّة وكافَّة مشاريعها الاحتلاليّة في سوريّا، وهو فشلٌ ستكون له ارتداداته على الدّاخل التُّركيّ قبل الخارج، عبر تقوية جبهة المعارضة لتحالف حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القوميّة، وسيجد تعبيراته في تعميق الأزمة الاقتصاديّة، وكذلك في صناديق الانتخابات القادمة. ومهما حاول أردوغان وحزبه من تقديم وصفات إنعاش لنظامه المُتهالِك؛ فإنَّ تَبِعات سياساته الخارجيّة بدأت مفاعيلها السِّلبيّة تنعكس بالدَّرجة الأولى على تقليص نفوذه الإقليميّ، رغم حجم التنازلات الكبيرة التي قدَّمها أردوغان لجميع الأطراف التي هي في حالة خصومة وتفارق في التوجُّهات والسِّياسات معه، مثل السُّعودية والإمارات، وحتّى شركائه في أستانا؛ روسيّا وإيران.

2 – سقوط جميع مراهناته على مرتزقته السُّوريّين في تحقيق أيِّ نصرٍ حقيقيٍّ لها في سوريّا وخارجها. فرُغمَ أنَّ تركيّا احتضنت مختلف أطياف المعارضة السُّوريّة، السِّياسيّة منها والعسكريّة، وقدَّمت لها التمويل والدَّعم العسكريّ، وأقامت لهم معسكراتٍ ومقرّاتٍ ومكاتبَ، وسهَّلت تنقُّلهم عبر حدودها ومطاراتها، وأيَّدت توجُّهاتهم في المحافل الدّوليّة؛ إلى أن حوَّلتهم إلى مرتزقة تحت الطلب، لتحصرَ مهامهم في محاربة التوجُّهات الكُرديّة في روج آفا وسوريّا، ومن ثُمَّ لتحاربَ وحدات حماية الشَّعب وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، وتمهّد لتركيّا احتلال مناطق سوريّة وتُقيم “إدارة تركيّة” على الأراضي السُّوريّة، عبر رفع الأعلام التُّركيّة وصور أردوغان، وتُدرِّسَ المناهجَ التُّركيّة في مدارسها، وتستخدم العملة التُّركيّة في تعاملاتها التِّجاريّة والاقتصاديّة.

جَهِدَ تنظيم “الإخوان المسلمين” طيلة سنوات الأزمة السُّوريّة، على ربط مصيرها بتركيّا، واعتبرتها مركز الخلافة الإسلاميّة المزعومة، وجَيَّرت جميع نشاطاتها وأعمالها ومعاركها لصالح تركيّا، حتّى أنَّها همَّشت باقي أطراف المعارضة وأجبرتها للانصياع للأوامر والتَّعليمات التُّركيّة، وأنشأت كيانات وهيئات مرتبطة بتركيّا حتّى النُّخاع، ما جعلها تركيّة أكثر ممّا هي سوريّة، لأنَّها في عقيدتها وإيديولوجيّتها الباطنيّة والعلنيّة تُنكر الأوطان ولا تعترف بالدّول وأنظمتها السِّياسيّة، ما جعلها مطيَّةً سهلةً لتركيّا الباحثة عن أداةٍ طيِّعة في يدها تُزُجُّ بها في معاركها لتحقيق مصالحها القوميّة التوسُّعيّة.

3 – تصريح جاويش أوغلو يَنُمُّ عن استدارةٍ تركيّةٍ جديدةٍ، تختلف جذريّاً عن سابقاتها مع كُلٍّ من روسيّا ودول الخليج وحتّى مصر، لجهة حجم الشُّروخات والعداء المستفحل بين الدَّولتين والتي رسَّختها تركيّا منذ بدء الأزمة، رغم أنَّه لا عداوات ولا صداقات مستمرّة في السِّياسة؛ فقط المصالح مستمرّة، وفق تعبير رئيس الوزراء البريطانيّ إبّان الحرب العالميّة الثّانية “ونستون تشرشل”. فلا تغيب عن الذّاكرة تصريحات أردوغان في بداية الأزمة عندما قال “إنَّه سيصلّي في الجامع الأمويّ”، ويبدو الآن أنّه سيصلّي فعلاً؛ ولكن خلف الرَّئيس السُّوريّ بشّار الأسد، كما علَّق أحد المتابعين للشأن التُّركيّ.

المسألة الأكثر أهميَّةً؛ هي أنَّ تركيّا، ومن خلال كشفها عن سياستها الجديدة حيال سوريّا، توحي بأنَّها توافقت مع النِّظام السُّوريّ، وقد حان دور “ترويض” المعارضة التي طالما طالبت بإسقاط النِّظام وتسبَّبت في كوارث للشَّعب السُّوريّ، فهل كانت قِمَّةُ سوتشي الأخيرة بين بوتين وأردوغان القَشَّةَ التي قصمت الدَّور التُّركيّ في سوريّا، وحوَّلته من معارضٍ للنِّظام إلى مؤيّدٍ له، خاصَّة أنَّ تصريحاً مشابهاً لجاويش أوغلو، صدر قبل عدَّةِ أيّامٍ عندما قال بأنَّ “بلاده ستدعم سياسيّاً النِّظام السُّوريّ في محاربة الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة”، فهل تمكَّنَ بوتين من لَيِّ ذراع أردوغان وإرغامه على قَبول المصالحة مع النِّظام، ويذعن للقبول بتعديل اتِّفاقيّة “أضنه”، ووفق شروط خاصَّة يُمليها الجانب السُّوريّ، فهل يتفاءل السُّوريّون، وخصوصاً الكُرد، بأنَّه قد آن أوان الانسحاب التُّركيّ من الأراضي السُّوريّة المحتلَّة؟

4 – خيبة أمل أطراف المعارضة السُّوريّة التي ربطت مصيرها بتركيّا، فقبل أيّامٍ تسرَّبت أنباء إلى وسائل الإعلام عن نيَّةِ تركيّا تسليم ما يُسمّى رئيس المجلس الإسلاميّ السُّوريّ التّابع للإخوان المسلمين المدعو “أسامة الرِّفاعي” إلى النِّظام السُّوريّ. وسلوك النِّظام التُّركيّ وذهنيَّته البراغماتيّة المتنصِّلة من كُلِّ أخلاقيّات السِّياسة والمبادئ ليست ببعيدة عن عقد هكذا صفقات لضمان ودِّ النِّظام السُّوريّ، وتشجيعه على محاربة الإدارة الذّاتيّة والكُرد في سوريّا. فالتَّظاهرات التي انطلقت في المناطق المُحتلَّة من قبل تركيّا في ريف حلب وإدلب ومواجهتها من قبل القوّات التُّركيّة بالغازات المُسيّلة للدّموع؛ تؤكِّدُ أنَّ الفأس وقعت بالرَّأس، ولم يَعُد لدى تلك الأطراف مزيد من الوقت والمساحة الكافية لتناور وتبدي مواقف معاضة للسِّياسة التُّركيّة، فقد باتت بجميع تشكيلاتها العسكريّة والسِّياسيّة في مزادِ المساومة عليها مع النِّظام السُّوريّ، حتّى ذهب البعض إلى وضع سيناريوهات مستقبليّة لها بأن تنضَمَّ إلى نظام “المصالحات” وتندمج مع قوّات النِّظام، وفق مخطَّطٍ مشترك تضعه كُلٌّ من روسيّا وتركيّا وإيران معاً، أو التوجُّهَ نحو قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة. ولكن في كلتا الحالتين لا مناصَ للإفلات من العقاب على الجرائم التي ارتكبتها بحَقِّ الشَّعب السُّوريّ، وخاصَّةً في عفرين، بعد أن حوَّلتها تركيّا إلى عصابات وقطعان منفلتة، تقتل، تنهب، تسلب، تختطف لطلب الفدى الماليّة، إضافة إلى تحويل مناطقها إلى ملاذٍ آمنٍ للمجموعات الإرهابيّة مثل “داعش” و”النُّصرة” و”حُرّاس الدّين”، واندماج عناصرها مع عناصر الميليشيّات التّابعة لتركيّا.

يبدو من خلال الوقائع؛ أنَّ تركيّا أحزمت حقائبها للتوجُّهِ نحو دمشق وهي ذليلة وضعيفة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، فاللِّقاء بين وزير خارجيّة البلدين في أكتوبر/ تشرين الأوَّل الماضي في براغ، والكشف عنه في هذا التَّوقيت بالذّات؛ إنَّما يشيرُ إلى أنَّ مسار تطبيع العلاقات بينهما يسير بسرعةٍ غير متوقَّعة، وأنَّ تركيّا لولا حالة اليأس من رِهانها على أدواتها السُّوريّة، لما أدارت وجهتها نحو دمشق لتعقد معها صفقات تسليم المعارضة لها على طبقٍ من ذهبٍ، وأنَّ كُلَّ ما أقدمت عليها من مناكفات وتجذير لحالة العداء مع النِّظام السُّوريّ خلال العقد الماضي ذهب أدراج الرِّياح.

تبقى عودة العلاقات التُّركيّة – السُّوريّة إلى سابق عهدها ما قبل الأزمة؛ تنطوي على عِدَّةِ مسائل تتجاوز أردوغان ونظامه والدّور المرسوم له في المنطقة؛ فمنها ما هو خارجيٌّ متعلِّق بعلاقات تركيّا ووجودها ضمن حلف “النّاتو” وعلاقاتها مع الولايات المتّحدة الأمريكية تحديداً، حيث هدَّدت الأخيرة تركيّا من تَبِعات أيِّ عمليّة تطبيعٍ مع النِّظام السُّوريّ، متوعِّدةً بعقوباتٍ رادعةٍ ستتعرَّضُ لها في حال إقدامها على أيِّ خطوة من هذا النَّوع، فيما موقف المعارضة التُّركيّة هو الآخر سيساهم دون أدنى شَكٍّ في وضع العُصي في عجلات أيِّ محاولة تطبيعٍ مع النِّظام السُّوريّ، عبر الضرب على الوتر الحسّاس لدى أردوغان وحزبه من إفلاس سياساته التي جلبت الدَّمار لتركيّا وجعلت منها دولة منبوذةً تستجدي “المصالحة” مع أنظمة المنطقة.

الأيّام القليلة القادمة ستكون حافلةً بالتطوّرات التي ستقلب رأساً على عقب كُلَّ التَّرتيبات السّابقة، وفي غمرَةِ هذه التقلُّبات في المواقف السِّياسيّة، ورغم استمرار الهجمات التُّركيّة على مختلف مناطق شمال وشرق سوريّا عبر كافَّةِ صنوف الأسلحة، بما فيها الطائرات المُسيَّرة؛ فإنَّ قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، غيَّرت قواعد اللُّعبة السِّياسيّة والعسكريّة، عبر امتصاصها الهجمات التُّركيّة العدوانيّة والرَدَّ عليها بأسلوبها الخاص، لتوجُّه إليها ضرباتٍ موجعةٍ، تُضاف إلى الانهيارات التي تَمُرُّ بها سياساتها الخارجيّة، وجاء الموقف الأخير من (قسد) بتعليق مشاركتها مع قوّات التّحالف الدّوليّ في محاربة تنظيم “داعش” الإرهابيّ، لتزيد من حجم الضغوطات التي ستواجهها تركيّا من الولايات المتّحدة، ولتغدو في وضع لا تُحسد عليه أبداً.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها

زر الذهاب إلى الأعلى