آراء وتحليلات

التاريخ و الجغرافيا في أيِّ مصالحة بين تركيا و سوريا

جميل رشيد

دَخَلَت الهجمات التُّركيّة على مناطق شمال وشرق سوريّا مرحلة أكثر خطورة، مع زيادة وتيرة استهداف المراكز والمؤسَّسات المدنيّة والخدميّة، بما فيها المدارس ومقار البلديّات، والنِّقاط العسكريّة، حتّى بات كُلّ شيء متحرّك وثابت هدفاً للطيران المُسيَّر التُّركيّ، ما ينذر باحتدام الصراع ليأخذ أبعاداً مدمِّرة.

لا يُخفى على كُلّ ذي بصر وبصيرة أنَّ تركيّا وضعت الإدارة الذّاتيّة، التي تتَّهِمَها دائماً بأنَّها “كُرديّة”، هدفاً لطائراتها وصواريخها ودبّاباتها، لتنفِّذَ ما هددت به من عدوان منذ نحو أربعة أشهر، دون الإعلان عنه بشكل رسميٍّ، في حرب استنزاف يوميّة.

تركيّا المأخوذة بـ”الفوبيا الكُرديّة”، تحارب بكُلّ قوَّتها أيَّ توجُّهٍ للكُرد نحو نيل حقوقهم، وفي أيِّ جزء من كردستان، عبر اتّباع سياسة الأرض المحروقة وارتكاب المجازر، وكأنَّها في سباق مع الزَّمن للوصول إلى شهر يونيو/ حزيران، لتحقيق إنجاز “انتصار” ما، قبل موعد الانتخابات الرِّئاسيّة والبرلمانيّة التُّركيّة، بعد أن وصلت أزمتها الدّاخليّة (الاقتصاديّة والسِّياسيّة)، إلى مستوى باتت تُهدِّدُ نظام أردوغان وحزبه.

لا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال الفصل بين الهجمات التُّركيّة على مناطق شمال وشرق سوريّا، وبين ما يجري من إعادة تموضع للقوى الضالعة في الصراع السُّوريّ، وتُغيُّر في أشكال وصيغ التَّحالفات والاصطفافات في المنطقة والعالم.

فتركيّا التي أدركت أنَّها ماضية نحو الهاوية والغرق في المستنقع السُّوريّ؛ دون أن تحقِّقَ أيّاً من المكاسب طيلة سنوات الصراع، وانخرطت بشكل رئيسيّ في تفاصيله، أدارت مَرَّةً أخرى وجهتها لمعاداة الكُرد وتطلّعاتهم في سوريّا، عبر التَّصعيد العسكريّ ضُدَّ مناطقهم. وسياسيّاً؛ التفّت حول نفسها، وأبدت تنازلات عمّا كانت تعتبرها حتّى الأمس القريب ثوابت ومسلَّمات في سياستها الخارجيّة، وتخلَّت عن مرتزقتها، لتوجّههم نحو محاربة الكُرد، وتنعتهم بشتّى الصفات “الإرهاب”، إلى جانب محاولاتها المستميتة لمحاصرتهم مع شركائهم في الإدارة الذّاتيّة، والإجهاز على تجربتهم الفتيّة.

وجدت تركيّا – ورغم إعلانها حرباً مفتوحة ضُدَّ الكُرد – أنَّها غير قادرة بمفردها على إضعافهم وإنهائهم، فبدأت بمحاولة تعويم أزمتها وإشراك الغير في مناصرتها؛ فسعت عبر مناوراتها السِّياسيّة والدِّبلوماسيّة لخلق تحالفٍ مضاد للإدارة الذّاتيّة والكُرد؛ ظنّاً منها أنَّها الوسيلة الأنجع للقضاء عليهم، فشرعت بإبداء الصفح من النِّظام السُّوريّ، بشكل مكشوف، ودون أيّ تلكؤ.

تحضر عوامل التّاريخ والجغرافيا، وبشكل مكثَّفٍ، في أيِّ نوعٍ من إعادة للعلاقات بين سوريّا وتركيّا، فالتَّراكمات السّلبيّة التي خلفتها تركيّا طيلة سنوات الأزمة السُّوريّة، من دعمها للتَّنظيمات المُسلَّحة الإرهابيّة، واستخدامها ورقة اللّاجئين السُّوريّين لابتزاز الدّول الأوروبيّة، ومن ثُمَّ زجّهم في إجراء عمليّات التغيير الدّيمغرافيّ في الأراضي التي احتلَّتها، جميعها تشكّل عوامل كبح لأيّ مصالحة تلقائيّة بين الطرفين. فالوعيُ الجمعيُّ التُّركيُّ، لا زال يعتبر المناطق الشِّماليّة من سوريّا، جزءاً طبيعيّاً من تركيّا العثمانيّة التّاريخيّة، ويرى الأتراك بأنَّ الخطوة الأولى نجحت فيها دولتهم الحديثة “تركيّا” عام 1939 عندما سلخت لواء إسكندرون من الجغرافية التّاريخيّة لسوريّا، في مساوماتٍ مع قوى في المنطقة وأوروبا. والآن تُمهِّد لتكرار تجربتها والاستثمار في الأزمة السُّوريّة، عندما شنَّت ثلاث عمليّات احتلاليّة ضُدَّ الأراضي السُّوريّة، بهدف ضمِّها لأراضيها.

المؤسف أنَّ مقاربات الأحزاب والحركات السِّياسيّة التُّركيّة، لم تختلف عن تلك الدَّعوات، بل تبنَّتها وأدرجتها في برامجها السِّياسيّة ومشاريعها الانتخابيّة، وروّجت لها بقوّة. فطرحت مجدَّداً “الميثاق الملّي” بنسخة مغايرة للقديمة، ليراودها حُلُم ضَمّ المنطقة الجغرافيّة الممتدَّة من البحر الأبيض المتوسَّط وبعمق يصل إلى أكثر من 60 كم وعلى طول الشَّريط الحدوديّ مع العراق وسوريّا، وهي أكثر من 1250 كم، لتشمل مدينة حلب والموصل وصولاً إلى كركوك.

إنَّ أيَّ مصالحة بين النِّظامين التُّركيّ والسُّوريّ؛ مرهونةٌ باشتراطات لا يمكن لأيِّ طرف أن يتجاهلها، فرغم التسريبات عن خمسة شروط وضعها كُلّ طرف أمام الآخر، إلا أنَّ الأحقاد التي ولَّدتها الأزمة السُّوريّة بينهما، أنتجت معها كمّاً ليس قليلاً من الشّروط أيضاً. تفكيك المعارضة المُسلَّحة الإرهابيّة المدعومة من قبل تركيّا، خاصَّةً في إدلب وجميع المناطق المُحتلَّة من قبلها، شرطٌ لا يمكن للنِّظام السُّوريّ القبول دونه بأيِّ مصالحة، إلى جانب إنهاء احتلالها للأراضي السُّوريّة، وهو ما لمَّحَ له أردوغان في آخر تصريحاته، وبأنّه يجب أن تسير عمليّة المصالحة بسرعة، كما أنَّ تسليم إدلب وفتح الطريق الدّوليّ (M4)، الذي يعتبر الشّريان الحيويّ في سوريّا، أمرٌ في غاية الأهميّة بالنِّسبة للنِّظام السُّوريّ.

رغم أنَّ النظامين السُّوريّ والتُّركيّ لهما هاجس واحد تجاه الإدارة الذّاتيّة، واللّتان تُطلقان عليها صفة “الكُرديّة”، وتشتركان في الموقف منها، وبضرورة إنهائها، إلا أنَّ الأول يرى بأنَّها محاولة “انفصاليّة”، وعلى الكُرد أن يعودوا مواطنين سوريّين إلى “حضن الوطن” دون أيّ حقوق، فيما ترى الثّانية بأنَّها جماعة “إرهابيّة” من الضروري التَّعاون مع الأوَّل في اجتثاثها والتخلّص منها.

الإدارة الذّاتيّة من جانبها تجد في المحاولة التُّركيّة للتوجُّه نحو دمشق، كنوعٍ من الاستسلام، وأنَّه على النِّظام السُّوريّ أخذ أعلى درجات الحيطة والحذر من المراوغة التُّركيّة، وأوَّل شرط لأيّ مصالحة عمليّة وممكنة يجب أن تضمن خروج القوّات التُّركيّة من الأراضي السُّوريّة وإنهاء احتلالها لها، فيما التفاصيل التّالية لبناء تفاهمات مع النِّظام السُّوريّ تأتي لاحقاً ولا يجب على تركيّا التدخُّلَ فيها بأيِّ شكل من الأشكال.

تحاول تركيّا أن تضمن مسألتين أساسيّتين من أيّ مصالحة مع النِّظام السُّوريّ؛ أوَّلها كما أسلفنا إنهاء أيّ تمثيل كُردي في مستقبل سوريّا، بما فيها القضاء على الإدارة الذّاتيّة، وثانيها ضمان مشاركة حليفتها التّاريخيّة حركة الإخوان المسلمين في رسم مستقبل سوريّا. وهو ما ترجم عمليّاً في زيارة وفدٍ من المعارضة السُّوريّة العسكريّة والسِّياسيّة التّابعة لتركيّا للعاصمة دمشق، وفق تأكيدات من مصادر إعلاميّة، كبادرة “حسن نوايا” من قبل تركيّا.

اللّافت في تشكيلة الوفد؛ أنَّ معظم أعضائه كانوا حتّى الأمس القريب من ألدِّ المعارضين للنِّظام السُّوريّ والمطالبين بإسقاطه، وبين ليلة وضحاها شدّوا رحالهم نحو دمشق في أوَّلِ غمزة للنِّظام لهم، وهو ما شكَّلَ مفارقة لدى الرّأي العام، وخاصَّةً لدى السُّوريّين، بأنَّ هذه المعارضة لا يمكن التعويل عليها في بناء مستقبل مشرق لسوريّا، بل هي، ومنذ اليوم الأوَّل لانطلاق الاحتجاجات في سوريّا، تبحث عن السُّلطة، والسُّلطة فقط.

في هذه المرحلة الحرجة من عمر الأزمة السُّوريّة؛ يبدو النِّظام السُّوريّ مَزهوّاً بانتصاره على المعارضة، وهو موقف ينطوي على جزء من الحقيقة، ما دامت تلك المعارضة منقادة من قبل دول إقليميّة وأخرى غربيّة، وكُلّ الاعتقاد أنَّ تركيّا والمرتزقة التّابعين لها وكذلك النِّظام السُّوريّ، سيُصعِّدون من عدائهم للإدارة الذّاتيّة، وعلى عدَّةِ مستويات، عسكريّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً وإعلاميّاً، وإعلانها حرباً مكشوفة عليها.

فتركيّا توصَّلت لقناعة أنَّ مكاسبها في الحرب السُّوريّة، لا تعادل خسارتها لمحيطها الإقليميّ، وأنَّ مرحلة استخدام “قوّتها الخشنة” قد ولّى، وعادت لتلعب بورقة “قوّتها النّاعمة”، كما هي قبل الأزمة، وأنَّ ارتدادات الصراع السُّوريّ انعكست على داخلها في أزمة اقتصاديّة متفاقمة وانحدار في شعبيّة حزب العدالة والتنمية الحاكم، خاصَّةً أنَّها على مسافة أقلّ من عشرة أشهر من الاستحقاقات الانتخابيّة، التي رُبَّما تُطيح به وبرئيسه، ويمضي سنوات عمره الأخيرة خلف القضبان. فتركيّا العدالة والتنمية وكذلك المعارضة، وبأحزابها الستّة، تسعى للتخلّص من ملفِّ اللّاجئين السُّوريّين، الذي بات يقلق ويُرهق الأتراك، خاصَّة بعد تنامي موجة العداء لهم، فأكبر أحزاب المعارضة “حزب الشَّعب الجمهوريّ”، طرح مسألة المصالحة مع النِّظام السُّوريّ منذ سنوات، فيما يَستعِدُّ وفدٌ من “حزب الوطن” بقيادة رئيسه “دوغو برينجك” للتوجُّه نحو دمشق واللِّقاء مع الرَّئيس السُّوريّ بشّار الأسد، طالما أنَّه حاملٌ للفكر الأوراسيّ الرّوسيّ في تركيّا. فروسيّا هي من تُمهِّد لزيارة ناجحة للوفد إلى دمشق في الأيّام القليلة الماضية.

تتطلَّع تركيّا لأن تعود سوريّا بوّابتها نحو دول المنطقة وشمال إفريقيا، وأن تسترجع الفترة الذَّهبيّة بين الدّولتين (2003 – 2010)، وتدخل السّوق السُّوريّة، وتساهم بشكل رئيسيّ في إعادة إعمارها. وتجد سوريّا أنَّها بحاجة إلى تركيّا المهرولة نحوها، وأنَّها تمتلك إمكانات جيّدة، يمكن أن تساعدها في استعادتها لعافيتها الاقتصاديّة والسِّياسيّة، خاصَّةً إن تمكَّنت من طيّ ملفِّ المعارضة والتخلّص من “المشكلة الكُرديّة” التي تؤرقها. كما أنَّ النِّظام السُّوريّ يبدي موقِفاً ملتبساً من عودة اللّاجئين، باعتباره ملفّ مكلف اقتصاديّاً، خصوصاً أنَّه يَمُرُّ في أزمة اقتصاديّة غير طبيعيّة، وغير قادر على تأمين أدنى متطلَّبات المعيشة للسُّوريّين المتواجدين داخل سوريّا، فكيف بعودة أكثر من أربعة ملايين آخرين؟

عمليّة المصالحة بين الطرفين خاضعة لشروط وإيقاعات إقليميّة ودوليّة، فلا سوريّا ولا تركيّا قادرتان على تجاهل الخطوط الحمراء التي تضعها الدّول الكبرى الضالعة في الأزمة السُّوريّة، فرغم أنَّ روسيا وإيران تقفان وراء هذه المبادرة، إلا أنَّه في الطرف الآخر، تقف الولايات المتّحدة ودول الاتّحاد الأوروبيّ على التَّضاد معها، وهي ممتعضة من أيِّ مصالحة بين الدّولتين، وتبدي خشيتها من إنجاز أيّ تطبيع للعلاقات بينهما.

يبدو من خلال تصريحات أردوغان، أنَّه في عجلة من أمره لتحقيق انتصار ما، بعد أن ضاق الخناق عليه سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً، وعلى النِّظام السُّوريّ أن يستغلَّ هذه الفرصة في فرض شروطه الوطنيّة، وأقلُّها إنهاء الاحتلال والمطالبة بالتَّعويضات عن الخسائر التي ألحقتها تركيّا بالدَّولة السُّوريّة، وإنهاء اتِّفاقيّة “أضنه” وبجميع ملاحقها.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها

زر الذهاب إلى الأعلى