حكم أهل الجماعة في سوريا وعقدة الأقليات.. الكرد والدروز والعلويين وتحالفات أمر الواقع

محمد محمود بشار
يقول المنطق الذي تسنده الحكمة المستمدة من التجارب الداخلية والخارجية بأن المقدمات المدمّرة تؤدي إلى نتائج أكثر تدميراً.
بدأ أحمد الشرع حكمه في العاصمة السورية دمشق، من خلال تعميم تجربة إدلب فجاء بحكومتها المحلية، وقام بتعميمها على سوريا التي خرجت من تحت حكم آل الأسد.
وأحاط نفسه بأشخاص مقربين منه سواء من العائلة أو من قيادات هيئة تحرير الشام، التي كانت ومازالت تحت أمرته، فهو”الأمير” الذي لا تُرد له كلمة داخل الجماعة التي قامت على فكر ومنهج “أهل السنة”.
– مؤتمرات القنابل الموقوتة
تقول التجربة السورية المُعاشة، بأن الحكم الذي يقوم على أساس الشعارات الطنانة والرنانة كأساس لإظهار الولاء والإخلاص لحاكم قصر الشعب في دمشق، بأن النهايات ستكون وخيمة والواقع سيكون مأساوياً.
“مؤتمر الحوار الوطني السوري” الذي تم عقده في العاصمة السورية دمشق في نهايات شباط\فبراير الماضي، كان قائماً على اساس حكم أهل السنة والجماعة، وعمل القائمون عليه على دعوة مجموعة من الأشخاص الهاربين من مجتمعاتهم المحلية من باقي المكونات السورية ليكون جوابهم جاهزاً عند السؤال عن مشاركة ممثلي جميع القوميات والطوائف والأديان في سوريا، قائلين بأن هناك من كان موجوداً منهم.
كانت هذه الإجابة انسلاخاً عن الواقع، وتهرّباً من عملية الاستحقاق الوطني. وبدلاً من عملية ترميم سوريا كوطن لم يخرج بعد من حربٍ مدمرة، جاء هذا المؤتمر ليزيد الشرخ اتساعاً وليقضي على آمال السوريين الذين ابتهجوا في الثامن من كانون الأول\ديسمبر من العام الماضي عندما وجدوا دمشق خارجة عن حكم بشار الأسد.
يبدو أن ما كان مهماً للشرع وعائلته وصفوة قيادات الهيئة، هو الشعار الذي صرخ به أحد الحاضرين في “مؤتمر الحوار الوطني” قائلاً بصوت عالي (بايعناك.. بايعناك) ليبتسم الأمير ابتسامة خفيفة وهو يهم بالخروج من قاعة المؤتمر الذي كانت الغاية منه بالأساس هو تثبيت هذا الشعار، فكان مؤتمراً للمبايعة بعيداً كل البعد عن الحوار وصفة الوطنية وعن منطق وعقل الدولة.
سبق هذا المؤتمر في دمشق مؤتمرٌ آخر تمت تسميته بـ”مؤتمر النصر” الذي تم عقده في نهاية شهر كانون الثاني\يناير الماضي، والذي كان مؤتمراً فصائلياً عسكرياً بامتياز، تمت دعوة البعض وإقصاء البعض الأخر، وكان الحضور العسكري مقتصراً على من يجيد المبايعة، فتمت عملية البيعة بنجاح وخرج الشرع منها يحمل صفة “الرئيس” أمام عدسات الإعلاميين وبقي في الغرف المغلقة ذلك “الأمير” الذي يقود أهل الجماعة.
يمكن القول بأن هذين المؤتمرين هما من اسوء المؤتمرات في تاريخ سوريا، فالنتائج الكارثية باتت تظهر بسرعة غير متوقعة، حيث انفجرت القنابل الموقوتة التي زرعها رعاة المؤتمرين قبل توقيتها المنتظر.
وكما دفع الشعب السوري ضريبة الشعارات في عهد الأسدين لعقود من الزمن، سيدفعها لسنوات عديدة في عهد حكم أهل الجماعة.
- – هل سقط الأسد بالفعل؟
إن كان حكم بشار الأسد قد انتهى في سوريا كدولة، إلا أنه كما يبدو فإن والده قد جعل (الأسدية) فكر ومنهج للاحتماء في أوقات الشدة لحاضنته العلوية، فالعلوي الذي وجد نفسه أساس عملية الحكم في سوريا لخمسة عقود ونيف من الزمن، صعب عليه أن يتقبل التهميش والإقصاء والإذلال من الحكام الجدد الذين يستندون إلى المنهج الجهادي التكفيري في التعامل مع كل مختلف مع أهل الجماعة.
بشار الأسد يقيم اليوم في عاصمة دولة كبرى تمتلك العديد من أوراق القوة، ويبدو أنه محمي بالفعل فالوفد الروسي الذي زار دمشق والتقى الشرع، رفض المساومة على الأسد ويبدو أن الروس سيحتفظون بهذه الورقة لأنفسهم بغية استخدامها إن تغيرت الظروف والمعادلات الخارجية التي تتحكم بالوضع السوري.
– تحالفات أمر الواقع في مواجهة سلطة أمر الواقع
إن كان الشرع يستند في رئاسته لسوريا إلى الشرعية الثورية التي لا وجود لها في القوانين الدولية، فإن المكونات السورية المتعددة والمختلفة مع الحكام الجدد تستند إلى شرعية حق تقرير المصير والحفاظ على حق الوجود الذي يستند إلى الواقع وتعززه الكثير من العهود والمواثيق الدولية.
الفوضى التي خلقتها مؤتمرات القنابل الموقوتة، في اتجاهها إلى فرز واقع جديد، يقوم على تحالفات جديدة بين من يستشعرون التهديد على وجودهم من خطر عقلية حكام دمشق الجدد.
الدروز المتحصنون في جبل العرب لديهم اليوم قواتهم العسكرية التي تستند إلى المرجعيات الدينية والتي لا تقبل بحكم من يتبنى عقلية التكفير والتخوين، فالدرزي يرى نفسه سليل أمجادٍ وملاحم وطنية سورية ومازال يتغنى لحد اليوم ببطولات جده سلطان باشا الأطرش الذي قاد الثورة السورية الكبرى.
والعلويون المتحصنون في منطقة الساحل وجبالها، يرون أنفسهم قد قادوا سوريا لعقود من الزمن وهم أيضاً يحتكمون إلى التاريخ الحديث فيرون الشيخ صالح العلي والعديد من الزعماء الذي أشعلوا الثورات وحركات التمرد ضد الحكم العثماني والفرنسي لسوريا، فلا مجال عند العلوي لتقبل المزاودة عليه في مسار الوطنية والذود عن الوطن.
والكرد المتحصنون في شرق الفرات وغربه، بعد أن دخلوا في العقد الثاني من تنظيمهم للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا هذه الإدارة التي ضمت ممثلين من كل المكونات السورية والتي تضم في الرئاسة المشتركة لهيئاتها ومؤسساتها، العربي والسرياني والكردي معاً، من الصعب أن يقبلوا بالعودة إلى ما قبل 2011.
وحتى تاريخياً يجد الكردي نفسه سليل إبراهيم هنانو الذي قاد واحدة من أعتى الثورات التي قامت ضد الحكم الفرنسي لسوريا، وتعرض لشتى التهم من تهمة الخيانة إلى تهمة الانفصال ولكنه بقي متمسكا بالخيار الوطني السوري، فكان المشروع الكردي مشروعاً لكل السوريين وليس للكرد فقط.
يدرك الساسة والقادة في هذه المكونات الثلاث بأن التهم التي توجه إليهم هي لسلخهم عن عملية صنع القرار وإبعادهم عن العملية السياسية، إلا أن حقيقة الأمر هي أن هذه التهم هي انسلاخ عن الواقع السوري الذي يتميز بتنوع وتعدد القوميات والأديان والمذاهب والطوائف.
هذا التنوع الذي سيمنح سوريا موقعاً متميزاً بين الدول، إن تم إشراك ممثلي هذه المكونات في عملية صنع القرار داخل أروقة قصور الحكم في العاصمة السورية دمشق التي يُفترض أن تكون عاصمة لكل السوريين.
– دروس جرمانا الدمشقية
جرمانا هذه المدينة الواقعة في ريف دمشق، أثبتت في الأيام المنصرمة بأن المكونات السورية منتشرة في كل أنحاء سوريا، وليس هناك منطقة خاصة بمكون واحد، فحاكم دمشق الجديد حاول كسلفه، أن يعزل المكونات في تلك المناطق التي تشكل فيها أغلبية، إلا أن الواقع أثبت أن الدروز شأنهم شأن باقي المكونات السورية الأخرى، لهم وجود قوي في العاصمة السورية دمشق فتم رفع العلم الدرزي في جرمانا التي لم ترضخ لجبروت حكم أهل الجماعة من السنة، فكان للدرزي كلمته التي وصل صداها إلى كل زوايا هذه البلاد التي انهكتها الحروب والصراعات.
يقول الدرس الجرماني، بأن هذه المكونات تستطيع أن تتحرك في كل أنحاء سوريا لأنها موجودة بالفعل ولها ثقلها خارج المناطق التي تشكل فيها أغلبية.
الدبابات التي دخلت الصنمين في محافظة درعا في الأيام المنصرمة هي نفسها التي دخلت نفس المدينة قبل أكثر من عقد من الزمن ولكن اختلفت هوية طاقم الدبابة، إلا أن ضحايا اليوم كانوا يحملون نفس الهوية التي حملها الضحايا قبل عقد من الزمن.
والحوامة التي قصفت قرية بيت عانا في جبلة بمحافظة اللاذقية هي نفس الحوامة التي كانت تقصف إدلب وحمص وحماة قبل عقد من الزمن، نفس الصرخات التي انطلقت في تلك المناطق، انطلقت اليوم في جبلة، فقط تغيرت هوية الطيار.
وما أبشع أن يتحول المظلوم إلى ظالم.
سوريا اليوم بحاجة إلى تضميد جراحها، والاحتكام إلى صوت العقل الذي يقول بأن هذا الوطن يتسع للجميع.