آراء وتحليلات

الكرد في ميزان القوى الدولية.. عودة الصراع التركي – الفرنسي في سوريا

محمد محمود بشار

بات الكردي رقماً صعباً في المعادلة الدولية الجديدة التي تقتضي تغيير وجه الشرق الأوسط، هذا الشرق الذي لم ينتج بوجوهه السلطوية سوى الدكتاتورية والظلم والقمع.

يبدو أن الحسابات الدولية التي جاءت بأولئك الحكام الذين حكموا عقوداً من الزمن، هي نفسها اليوم تستوجب أن يكون لهذا الجزء المليء بالصراعات والحروب، وجهاً جديداً.

التغيير الذي يستهدف وجه الشرق الأوسط لم يكتمل بعد، حيث كان إنهاء حكم بشار الأسد وإخراجه من الأراضي السورية، حلقة واحدة من سلسلة تحمل في طياتها الكثير من الحلقات.

القوى الكبرى والمهيمنة في العالم، إن أرادت تغيير معادلة سياسية في بلد ما، لن تتراجع عن ما رسمته وخططت له وعملت من أجله، ولن توقفها أي قوة محلية.

 وخاصة إن الجيوش التي تم تأسيسها في ظل حكم الديكتاتوريات في بلدان الشرق، وتضخيم قدراتها إعلامياً، هي كانت لضرب من كان يصفهم الحاكم بـ “أعداء الداخل” أو “المتآمرين” أو “الخونة” حيث كثرت التسميات والمعنى واحد، فكان الحاكم قوياً عندما كانت رياح الخارج تجري بما تشتهيه سفنه، ولكن بمجرد تغيير بسيط في حسابات الخارج، كانت الآلاف المؤلفة من الجنود والآليات العسكرية تتهاوى وتسقط كأحجار الدومينو وكأنها لم تكن يوماً مؤسسة عسكرية منظمة ومنضبطة.

ومع انتهاء حكم أي دكتاتور، كانت الحقيقة تظهر بأن العدو الأكبر والأكثر تآمراً والأشد خيانة كان هو الحاكم ذاته، الذي كان يحاول تسخير كل خيرات البلد لنفسه ولعائلته، لذلك كانت كل مؤسساته الأمنية والعسكرية تنهار مع سريان الإشاعات قبل البدء بالمعركة الحقيقة، وكأن كل الجنود مع أغلبية الضباط كانوا ينتظرون هذه الفرصة كي يضعوا السلاح جانباً ويفروا هاربين من تحت عباءة الحاكم إلى الحياة في صفوف المحكومين.

        الكرد في سوريا.. تاريخ من مقارعة أنظمة الاستبداد

للكرد في سوريا تاريخ عريق في مقارعة الأنظمة المستبدة التي حكمت البلاد لعقود من الزمن.

منذ تأسيس الدولة السورية بحدودها الحالية، تعرض الكرد لظلم لا مثيل له في التاريخ، فكانت كل الأنظمة المتعاقبة على الحكم تشترك في إنكار حقوق الشعب الكردي وممارسة سياسة الإقصاء والتهميش والتعريب، فكان الكردي محروماً من أبسط حقوقه وهو التكلم باللغة الكردية في المؤسسات الرسمية، حيث كان الدستور ينص على أن من يعيش في “الجمهورية العربية السورية” هو “عربي سوري” وبهذا التعريف الدستوري تم إزاحة هذا المكون المهم والعريق من الحياة السياسية السورية.

إلا أن الكرد لم يرضخوا لهذه السياسات التي استهدفت وجودهم وخصوصيتهم القومية، فكان طريق النضال من أجل الاعتراف بوجود وحقوق الشعب الكردي طويلاً وشاقاً وكانت الضريبة التي يدفعها الكردي عندما يدافع عن حقوقه باهظة، فكانت السجون والمعتقلات لا تخلو من السياسيين والمناضلين الكرد الذين ضحوا بسنوات طويلة من عمرهم وراء القضبان وجدران الزنازين.

كان النضال الكردي سلمياً، ومع الربيع العربي والثورة السورية تحول مسار الحراك الجماهيري إلى مواجهات مسلحة، حمل الكرد السلاح للدفاع عن أنفسهم واستطاعوا بسرعة بفضل تنظيماتهم الموجودة قبل الثورة السورية بعقود من الزمن، من أن ينظموا قوتهم العسكرية، التي تطورت بسرعة كبيرة حتى أصبحت تلك القوة، اللبنة الأساسية لتأسيس قوات سوريا الديمقراطية، هذه القوات التي تحولت إلى قوة جامعة ضمت مقاتلين من جميع المكونات السورية، باتت اليوم تسيطر على أكثر من ربع الجغرافية السورية وتحمي مناطق واسعة من شمال وشرق سوريا.

ويعود الفضل لقيادة هذه القوات، بتحقيق التغيير الأكبر في التوجه السياسي الكردي بشكل عام، حيث أشرفت قيادة قسد على اللقاءات بين الاحزاب السياسية الكردية المختلفة فيما بينها، حتى وصل الأمر إلى توحيد الخطاب السياسي الكردي في التعامل مع حكام سوريا الجدد في العاصمة دمشق.

وخلال السنوات المنصرمة ولحد اليوم شهدت ومازالت تشهد هذه المناطق مشهداً عسكرياً لا مثيل له في العالم أجمع، حيث القوات البرية الأميركية متواجدة في نقاط ومواقع عسكرية متعددة، وفي نفس الوقت هناك تواجد عسكري روسي في هذه المناطق، وربما هذه هي المنطقة الوحيدة في العالم التي توفر مشاهدة الجنود الروس والجنود الأمريكان معاً من دون أي حواجز وفي الكثير من الأحيان كان هناك تماس ميداني مباشر بين القوات البرية لأكبر قوتين معاديتين لبعضهما البعض في العالم في هذه المنطقة الصغيرة من هذه البلاد التي مزقتها سنوات الحرب الأربعة عشر وعقود من حكم الدكتاتورية.

هذه المنطقة التي كانت مهمشة لعقود من الزمن، باتت اليوم بيضة القبان في خلق توازن ميداني بين أكبر قوتين عرفهما العالم المعاصر، وباتت الملاذ الآمن لأكثر من خمسة ملايين مواطن سوري، منهم من جاء من مناطق سورية أخرى هرباً من عنف ايديولوجيا الحركات الجهادية والفصائل المسلحة الأخرى التي قضمت كل منها مساحة من الأراضي السورية بحسب قوتها ودعمها الخارجي.

        المشهد العسكري بعد الثامن من ديسمبر

قبل الثامن من ديسمبر من عامنا المنصرم، كان هناك وجود عسكري للأتراك والفرنسيين، كل في منطقة مختلفة عن الآخر، إلا أن تركيا بحكم جوارها لسوريا، كان لها النصيب الأكبر.

بعد هذا التاريخ ومع تغير النظام الحاكم، بدأت تركيا بزيادة نفوذها داخل هذه البلاد التي باتت تحت سيطرة حليفها، الجهادي السابق والرئيس الحالي لسوريا أبو محمد الجولاني سابقاً، وأحمد حسين الشرع حالياً.

ومع دخول الأتراك بقوة ونفوذ كبيرين، بدأ الفرنسيون بالزحف نحو هذه البلاد التي خرجوا منها في أواسط الأربعينات من القرن الماضي، فدق الفرنسيون أبواب دمشق من خلال تواصلهم مع الإدارة السورية الجديدة في العاصمة السورية، وكذلك كانت هناك بوابة أخرى قريبة من توجهات باريس، المنطقة الوحيدة في سوريا التي يتم إدارتها من قبل قوة علمانية، وهي نفس المنطقة التي اعتمد عليها التحالف الدولي في محاربة تنظيم داعش، وهي مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا.

مع هذه العودة الفرنسية، بدأت المؤسسات الإعلامية الخاضعة لسيطرة الحزب الحاكم في تركيا، بشن حملة ضد الوجود الفرنسي في سوريا، على ما يبدو فأن الأتراك هم أكثر من يدرك مدى أهمية الوجود الفرنسي في سوريا، ومدى تعارض مصالح باريس وأنقرة في هذه البلاد، فلم ينسى التركي بعد وخاصة عندما يتذكر أمجاده العثمانية، بأن جنرالات فرنسا هم من أنهوا الوجود العسكري التركي آنذاك وكانت فرنسا من بين الدول التي أنهت نفوذ وسلطة السلطنة العثمانية ووضعت حدوداً بين سوريا وتركيا، لتكونا دولتين جارتين.

اليوم يعود الصراع التركي – الفرنسي على نفس حدود الدولة التي شهدت آخر هزائم العثمانيين في الشرق.

يبدو أن الأرض السورية لا تشبه قاطنيها الأصليين، فهي لا تتعب من احتضان صراعات أكبر منها، فعلى هذه الأرض ينتهي صراع ليبدأ صراع آخر، ولكن دائماً تبقى هناك ملاذات آمنة يستطيع جميع السوريين اللجوء إليها داخل سوريا، للبدء من جديد، فالسوري أتقن فن الحياة في الهوامش التي تركتها لها الأنظمة الحاكمة وتأقلم مع صوت الرصاص.

زر الذهاب إلى الأعلى