آراء وتحليلات

أمريكا وسياسة العقوبات.. هل من جدوى؟

جميل رشيد

يبدو أنَّ العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكيّة على متزعّمي فصيلين تابعين لتركيّا، يُعَدُّ تحوّلاً في مواقف إدارة الرَّئيس الأمريكيّ جو بايدن من جملة الممارسات والانتهاكات التي ترتكبها تلك الفصائل في المناطق التي تحتلُّها تركيّا في سوريّا.

فالمقاربة الأمريكيّة من المجاميع التي ترعاها تركيّا تبدو جدّيّة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، بعد صمتٍ مخزٍ طال أمده. فتلك الفصائل أُفلِتَت من عقالها، وارتكبت كُلّ الموبقات في المناطق التي تحتلُّها، وبأوامر مباشرة من دوائر الاستخبارات التُّركيّة وأجهزتها العسكريّة، وخاصَّةً في عفرين، ولم تحرّك الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة ساكناً حيالها، إن كان في عهد أوباما أو ترامب أو بايدن.

يمكن قراءة التحوُّل في الموقف الأمريكيّ أيضاً، في ضوء التحرُّكات الأمريكيّة في المنطقة وسوريّا خصوصاً. فبعد أن تمكَّنت الولايات المتّحدة من إعادة تركيّا إلى بيت الطّاعة الأطلسيّ؛ بدأت بوضع خيارات عديدة أمامها، أوَّلها قبولها – وبدون شروط– على انضمام السّويد للنّاتو، وهو ما أَذعنت تركيّا له، وليس آخرها ضبط السّلوك التُّركيّ في العبث بمصير شعوب المنطقة وتغيير خرائط الدّول كيفما يحلو لها، عبر الاحتلال المباشر وإجراء عمليّات التَّغيير الدّيمغرافيّ وبناء المستوطنات السَّرطانية والتي تفوق المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين من حيث العدوانيّة والتَّبِعات والنَّتائج. القناعة لدى الإدارة الأمريكيّة أنَّتركيّا ذهبت بعيداً في انخراطها ضمن مشاريع أحاديّة الجانب؛ جوهرها التمدُّد وإعادة إحياء أمجادها العثمانيّة ومشاريع التوسُّع الجغرافيّ. فبعد التحرُّكات الأمريكيّة والإيرانيّة ومعها الرّوسيّة في سوريّا بقرب اندلاع مواجهات مباشرة بين الولايات المتّحدة وإيران، لإعادة رسم تموضعات جديدة لها، محورها فرض السَّيطرة الأمريكيّة على المثلَّث الأردنيّ العراقيّ من الأراضي السُّوريّة في منطقة التَّنف، أو ما تُسمّى بمنطقة الـ/55/ كيلو، بعد كُلّ ذاك الضجيج الإعلاميّ؛ أوحى كلا الجانبين، الولايات المتّحدة وإيران، استبعاد أيَّ مواجهة عسكريّة، بعد أن أفرجت إيران سراح خمسة أمريكيّين كانوا معتقلين لديها، قابلتها الولايات المتّحدة بالإفراج عن جزء من الودائع الأمريكيّة المجمَّدة في بنوك كوريا الجنوبيّة.

تصريحات المسؤولين العسكريّين الأمريكيّين وكذلك الإيرانيّين، بنفي التَّخطيط لأيِّ مواجهة مباشرة، أكَّدت عودة الهدوء، وإطلاق يد إيران في سوريّا ثانية، بعد تفاهمات وتوافقات مباشرة أو غير مباشرة بينهما سِرّاً. ما دفع الولايات المتّحدة للعمل على تقليم أظافر تركيّا في سوريّا، عبر الضَّغط على وكلائها من الفصائل العاملة بأمرتها في سوريّا، وفرض عقوبات تَحُدُّ من فاعليّتها، ما اضطرَّت معه تركيّا، كخطوة أوَّليّة للإذعان لها، عبر إغلاق عِدَّةِ شركات ومكاتب بيع السيّارات في عدد من الولايات التُّركيّة، وخاصَّةً في أورفا، تابعة لمتزعّمي فصيلي ما تُسمّى بـ”فرقة الحمزة” و”سليمان شاه/ العمشات” المدعو “سيف بولاد” و”مُحمَّد الجاسم/ أبو عمشة”، ما يُشير إلى أنَّتركيّا تحاول تدارك تداعيات ما بعد صدور قرار العقوبات وتلافي ارتداداتها السِّياسيّة والعسكريّة عليها وعلى احتلالها للأراضي السُّوريّة.

بالتأكيد العقوبات لن تبقى في إطار الأشخاص المشمولين بها، بل ستتجاوزهم لتطال الكيانات العسكريّة والسِّياسيّة التي يمثّلونها، أو تلك التّابعين لها مثل الإئتلاف والحكومة المؤقّتة. إلا أنَّ الولايات المتّحدة تدرك جيّداً أنَّ محرك ودينمو هذه الفصائل والهيكليّات هو تنظيم حركة الإخوان المسلمين، وكُلُّ الاعتقاد أنَّها – أي الولايات المتّحدة– تسير نحو تحجيم دور الإخوان ضمن هياكل المعارضة السُّوريّة ككُلّ، وإعادة تشكيلها على أسس تتوافق مع مصالحها وضبط إيقاعها، لا كما أنشأتها تركيّا وطاوعتها لتتناسب مع مصالحها ومشاريعها في سوريّا والمنطقة. فرغم أنَّ ما تُسمّى “فرقة الحمزة” كانت في فترة مدعومة من الولايات المتّحدة ضمن ما كانت تُسمّى غرفة عمليّات “موم” لدعم المعارضة السُّوريّة، إلا أنَّها انحرفت عن مسارها لتتحوّلَ إلى جزء من المشاريع الاحتلاليّة التُّركيّة في سوريّا، وما مشاهد الهجوم على رتل عسكريّ في إعزاز عام 2016، إلا دليلٌ على خروج تلك الميليشيا عما كانت تُخطّط له الولايات المتّحدة.

فإن كانت العقوبات التي فرضتها الولايات المتّحدةالأمريكيّة على قائد فصيل “أحرار الشَّرقيّة” المدعو “أحمد الهايس/ أبو حاتم شقرا” وأحد أقربائه ونوّابه قبل عامين، قد مهَّدت الطريق أمام فرض العقوبات على “سيف بولاد” و”أبو عمشة”؛ فإنَّ السلسلة ستطول؛ نظراً لحجم الانتهاكات المرتكبة من قبلهم، بل رُبَّما سيتطور الموقف الأمريكيّ والدّوليّ لمحاكمتهم أمام محاكم الجنايات الدّوليّة مستقبلاً.

وإذا كان فرض العقوبات جاء في جزء كبير منه لرفع المظالم عن الشَّعب الكُرديّ في عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، وإن لم يَرِدْ في نصِّ بيان العقوبات بشكلٍ صريحٍ؛ إلا أنَّ الرَّأي العام، وعلى رأسه أبناء الشَّعب الكُرديّ المقيمين ضمن تلك المناطق المُحتلّة، خصوصاً في عفرين، استشعروا بذاك التوجُّه لدى الإدارة الأمريكيّة لضبط سلوك تلك الفصائل ومن ورائها تركيّا.

ومثلما لا يمكن تغطية الشَّمس بالغربال، مثلما يقول المثل، فإنَّ البيان الصادر باسم أبناء الشَّعب الكُرديّ في عفرين، وزعمه الدِّفاع عن متزعّمي الفصيلين، ما هو إلا بيان لفَّقه وكتبه من ترتعد فرائصه من العقوبات، ولا علاقة لأبناء الشَّعب الكُرديّ به لا من قريب ولا من بعيد، فهو في مقدّمة من يسعى للتخلّص من تلك المجاميع والاحتلال التُّركيّ،ولا يمكن تفسير ذاك البيان المزعوم إلا في إطار المخاوف التي سادت بين أوساط تلك الفصائل، وخاصَّةً المشمولين بالعقوبات، ولن تنطلي هذه الأكذوبة الممجوجة على أحد وخاصَّةً الولايات المتّحدة، التي بنت قرارها في فرض العقوبات على أدلّة ووثائق جمعتها من مختلف المصادر، كُرديّة، عربيّة وأجنبيّة.

لن يغرق أحد من الكرد – وخاصَّةً أهالي عفرين وسري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض – في التفاؤل بممارسة الإدارة الأمريكيّة الحاليّة ضغوطها على تركيّا وحملها على الانسحاب من مناطقهم وإنهاء احتلالها لها، إلا أنَّ الجميع يقبل، وعلى مضض، بأنَّ التغيُّر في الموقف الأمريكيّ له دلالاته في بدء اتّخاذها ترتيبات على السّاحة السُّوريّة، أقلُّها الحفاظ على وضع الإدارة الذّاتيّة، ورُبَّما تمهِّد لفتح باب الحوار بينها وبين تركيّا، رغم أنَّ أيُّ حديثٍ في هذا الإطار قد يبدو ضرب من الجنون في ظِلِّ الاعتداءات والاستهدافات التُّركيّة اليوميّة على مناطق شمال وشرق سوريّا، ولكن ما هو مستحيل في الواقع قد يبدو ممكناً في السِّياسة والدِّبلوماسيّة، والإدارة الذّاتيّة باتت تملك خبرة لا بأس بها في مجال التَّحاور والحنكة السِّياسيّة والدِّبلوماسيّة ولديها من القدرة على التَّفاوض والحوار ما يمكّنها من الكسب وليس خسارة كُلّ ما حققّته في الميادين الأخرى على طاولة المفاوضات.

هذا المسار الذي قد يولَدُ مستقبلاً، وهو ليس مستبعداً كما تُعلِّمُنا دروس التّاريخ والسِّياسة، فإنَّها تغدو أقرب إلى التَّصديق إذا ما قورنت مع التَّصريحات الصّادرة عن مسؤولين في الخارجيّة الأمريكيّة قبل أيّام، مفادها عدم منح تركيّا الضوء الأخضر بشَنِّ عدوان جديد على مناطق شمال وشرق سوريّا، وما التَّعزيزات التي تُرسلها الولايات المتّحدة يوميّاً إلى مناطق شمال وشرق سوريّا، إلا تأكيدٌ أنَّ مَهمَّتها رَدعُ كُلٍّ من إيران وروسيّا، بعد المحاولات الرّوسيّة في نقل فشلها في الحرب الأوكرانيّة إلى الأراضي السُّوريّة، وكذلك فشل تركيّا في إدارة المناطق التي تحتلُّها في سوريّا، حيث حالة الانفلات الأمنيّ والاقتتالُ الدّاخليّ بين الفصائل التّابعة لها، وتزايد حالة القتل والاختطاف وفرض الإتاوات.

لا يُشكِّكُ أحدٌ أنَّ الهدف من العقوبات ضبط سلوك الكيانات والأشخاص الذين تطالهم؛ وهذا يُحتِّمُ على تركيّا، المستهدَف الرَّئيسيّ فيها، أن تُغيّرَ من سياساتها الاحتلاليّة تجاه السُكّان الأصليّين وتوقف مشاريعها في التغيير الدّيمغرافيّ والاستيطان، خاصَّةً بعد أن بدأت قبل أيّام في تغيير الأسماء الأصليّة لقرى منطقة عفرين، واستبدالها بأسماء تركيّة وكتابتها باللّغة التُّركيّة ومن ثُمَّ العربيّة، ووقف عمليّات نشر التطرُّف الدّينيّ عبر أداتها حركة “الإخوان المسلمين” وفرض “الأسلمة”، وبالقوّة، على باقي مكوّنات المجتمع الكُرديّ من الأديان والعقائد الأخرى، خاصَّةً أبناء الدّين الإيزيديّ.

وَقعُ العقوبات ومفاعيلها ستظهر خلال الأيّام القادمة، ورُبَّما تتبعها خطوات أخرى قد تكون أشَدّ وطأة، وتطال متزعّمين آخرين وكيانات أخرى، إلا أنَّ الثّابت هو أنَّ الإدارة الأمريكيّة عازمة على لَيِّ ذراع تركيّا وحملها على تغيير سلوكياتها وسياساتها تجاه الشَّعب الكُرديّ، وكذلك إجبارها على الانكفاء عن روسيّا والعودة إلى الإطار الأطلسيّ، وبما يتوافق مع ميثاقه وشروطه وأخلاقيّاته.

فإن كانت الإدارة الأمريكيّة تحاول من خلال قرارها هذا التَّكفير عن الذَّنب الذي اقترفته إدارة ترامب السّابقة في إطلاق يد أردوغان وتركيّا في احتلال مناطق في روجآفا وشمال وشرق سوريّا، فَحَريٌّ بها أن تبدأَ في ممارسة الضغوط على تركيّا لعودة أهالي المناطق المُحتلَّة إليها، وفرض حماية دوليّة عليها، وحمل تركيّا على الانسحاب، وليس معاقبة وكلائها إن كان الأصيل يرتكب أشنع الجرائم اليوميّة عبر استهدافاته الغادرة. مصداقيّة الإدارة الأمريكيّة مازالت على المِحَكِّ، وشعوب المنطقة تتطلَّعُ منها إلى مواقف أكثر جدّيّة، فهل ستمضي في سياسة احتواء الكُلّ، وعدم إزعاج حليفتها في النّاتو، أم ستلجأ إلى تدوير الزَّوايا والتَّغطية على النّار بالرَّماد واستخدام سياسة التَّسويف في حَلِّ مشاكل المنطقة، أم أنَّها بداية لتثبيت قدمها في غرب الفرات عبر هذه البوّابة؟ بالتَّأكيد تواجِهُ الإدارة الأمريكيّة أسئلة صعبة، وعليها أن تمتلك الجرأة الكافية للرَدِّ عليها، وهو ما هو مأمول منها في الأيّام القادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى