آراء وتحليلات

جدائل “أميني” تطلق” الثورة الثانية” في إيران

جميل رشيد

دخلت الاحتجاجات في شرق كردستان وعموم إيران اسبوعها الثّاني، بعد مقتل الشابَّة الكُرديّة “جينا أميني”، على أيدي ما تُدعى “الشُّرطة الأخلاقيّة” الإيرانيّة، بذريعة “عدم وضع حجابها وفق الطريقة الشَّرعيّة الشّيعيّة الإيرانيّة”، وادَّعت الشُّرطة أنَّ خُصلةً من شعرها ظهرت تحت حجابها، فضُرِبَت وعُذِّبَت بوحشيّة لا مثيل لها، حيث وُجِّهت ضربة قويّة على رأسها، ما أدخلها في حالة إغماء، لتُنقل على إثرها إلى المشفى، وتفارق الحياة فيه.

جميع المؤشِّرات، ومن خلال تنامي حركة الاحتجاجات في الشّارع الإيرانيّ، تؤكِّدُ على حقيقة واحدة؛ أنَّ ما أطلق عليه النّاشطون اسم “احتجاجات الحجاب”، قد تحوَّلت إلى انتفاضة شاملة، ومن ثُمَّ إلى “ثورة”، ضُدَّ نظام الملالي القمعيّ، ولتطلق شعارات تتجاوز الحجاب، لتطالب بالحُرّيّة والدّيمقراطيّة والحقوق القوميّة، ورفض وصاية “ولاية الفقيه” على الشُّعوب الإيرانيّة ككُلّ.

صحيح أنَّ الثَّورة لم تفرز وتبلور قيادة وبرنامجاً واضحاً إلى الآن، إلا أنَّه وعلى وقع تحرُّكات المحتجّين في المدن الكبرى، بما فيها العاصمة طهران، وبالطبع معظم مدن وبلدات وقصبات شرق كردستان بالدَّرجة الأولى، إنَّما تُشير إلى أنَّها لم تقع فريسة بين أيدي “قوّات الحرس الثّوريّ الإيرانيّ/ الباسداران” أو قوّات “الباسيج” التّابعة للمرشد الأعلى علي خامنئي مباشرة، وتُظهِرُ في مفاصل عديدة منها، دِقَّة تنظيمها وتحكّمها ببوصلتها، دون الانجرار إلى المواقع العنفيّة، واستخدام السِّلاح، وهو ما ترغب به سلطات الملالي القمعيّة، حيث تبحث عن مسوِّغات لقلب ثورة الحناجر ورمي الحجاب، الحاملة لأهداف إنسانيّة راقية، إلى ثورة حمراء كي تغرقها في بحار الدّماء.

لقد انتصرت العديد من الثّورات اللا عنفيّة في العالم المعاصر، مثل الثَّورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004، وقبلها في إيران نفسها، انتصرت “الثَّورة البيضاء” عام 1963 أيام حكم الشاه مُحمَّد رضا بهلوي، ورضخ لمطالب الشُّعوب الإيرانيّة وأجرى إصلاحات عديدة في بنية مؤسَّسات وإدارات الدَّولة.

إنَّ نظام الملالي و”الآيات” ذو التوجّه الإيديولوجيّ المتزاوج مع القوميّة الفارسيّة؛ فرض نظامه الأحاديّ على معظم الشُّعوب المتعايشة ضمن جغرافية الهضبة الإيرانيّة، وأولى ضحايا النِّظام الذي أسَّسه الخميني في فبراير/ شباط 1979، هم الكُرد، رغم أنَّهم هُم من ساندوا الخميني ووقفوا معه في إسقاط نظام الشاه مُحمَّد رضا بهلوي.

المجازر التي ارتكبها نظام الخميني ضُدَّ الكُرد في شرق كردستان، وتنصّله من وعوده في منح الكُرد حقوقهم المشروعة، أشعلت الثَّورة الكُرديّة ضُدَّهُ، فلجأ إلى الخديعة والإيقاع بقادة الحركات والأحزاب الكُرديّة، بدءاً من الدّكتور عبد الرَّحمن قاسملو، وصادق شرق كندي ورفاقه، وليس انتهاء بقصف معسكرات الأحزاب والحركات الكُرديّة في إقليم كردستان العراق / جنوب كردستان.

استمرَّ النِّظام الإيرانيّ الحالي على نهج الخميني، في إنكار حقوق الشُّعوب ضمن الدّولة الإيرانيّة، من كُردٍ، عربٍ، بلوشٍ، أذريّين، وغيرهم، وحتى الشَّعب الفارسيّ نفسه يعاني من قمعه واستبداده الدّينيّ المفرط، بعد أن تربَّعت على عرش الحكم ثُلَّةٌ من فقهاء الدّم، تُجيز لنفسها القتل والإعدام والاعتقال، بحجَّة حماية “الثَّورة”، إلا أنَّها في جوهرها، كرَّست لهيمنة القوميّة الفارسية، وفرضت المذهب الشّيعيّ، الذي غدا مذهباً للدَّولة الإيرانيّة، في إقصاء ممنهج لجميع القوميّات والمذاهب والأعراق الأخرى.

ذهب نظام الملالي بعيداً في تقييد حُرّيّة الشُّعوب في إيران، عبر سياسة كَمِّ الأفواه وتصفية معارضيه، فهو الأوّل في العالم من حيث إعدام معارضيه، وخاصَّةً من النِّساء الكُرديّات، فهو لا يتوانى عن البطش بكُلِّ من يعترض على “ولاية الفقيه” ومشاريعه في تصدير “ثورته” المزعومة إلى المنطقة، أو يعرقل إقامة “الهلال الشّيعيّ” المُمتدّ من مدينة “قُم” وطهران، مروراً بصنعاء وبغداد ودمشق، وصولاً إلى بيروت.

أدخل النِّظام الإيرانيّ شعوبه في صراعات وحروب مع دول المنطقة، مثل الحرب الإيرانيّة – العراقيّة والتي دامت ثماني سنوات، واستنزفت من القُدُرات الماديّة والبشريّة للشُّعوب الإيرانيّة، على حساب مشاريع التنمية الدّاخليّة، بل وجد فيها مساحة واسعة لقمع الشُّعوب وإحكام قبضته على المجتمع.

لا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال اعتبار أنَّ الثَّورة التي تقودها المرأة، وخاصَّةً الكُرديّة، هي زوبعة في فنجان، أو أنَّ النِّظام الإيرانيّ قادِرٌ على إنهائها والإجهاز عليها بتلك السُّهولة المتوقَّعة. فبعد امتداد رقعة التَّظاهرات إلى أغلب المدن الإيرانيّة، (ذكرت رئيس حركة مجاهدي الشَّعب “خلق” أنَّ التَّظاهرات مستمرّة في /164/ مدينة وبلدة إيرانيّة) بما فيها العاصمة طهران. سيطرةُ المتظاهرين الكرد على أكثر من نصف مدينة كرمانشاه؛ دليلٌ قاطع على أنَّها قطعت شوطاً كبيراً نحو تثبيت أركانها، وخروجها من إطار الاحتجاج على نزع الحجاب، مقابل عدم قدرة الأجهزة الأمنيّة الإيرانيّة على فرض سطوتها وإخماد جذوتها.

رغم إقحام السُّلطات الإيرانيّة قوّات النَّخبة الأمنيّة لديها في محاولة وأد الثَّورة، وزجِّها بالدبّابات والمصفَّحات والآليّات العسكريّة الثَّقيلة في الشَّوارع والسّاحات العامّة في المدن، وقتلها بدمٍ باردٍ عشرات المتظاهرين، عبر إطلاق الرَّصاص الحيِّ عليهم، إلا أنَّها لم تتمكَّن من تقييد حركة التَّظاهرات ودفعها نحو حمل السِّلاح، وبالتّالي الدّخول في مواجهات عسكريّة مفتوحة مع قوى الأمن والجيش. كما أنَّ التَّظاهرات الصّوريّة التي نظّمتها لعدد من مؤيّديها لم تنل من عزيمة وإرادة المتظاهرين، بل زادتهم قوَّةً واندفاعاً نحو المضيّ نحو تحقيق أهدافها.

القناعة والوعي الجمعيّ التّاريخيّ لدى الشُّعوب الإيرانيّة، يجعل من أيّ محاولة لنظام الملالي إلصاق تُهم العمالة للخارج، وأنَّ “مؤامرة ما تُحاك ضد البلاد”، غير ذي جدوى، ولا تنطلي على الجماهير المنتفضة. ففي عام 1979، وإبّان الثَّورة التي قادها الخميني ضُدَّ الشاه مُحمَّد رضا بهلوي؛ أمرَ الأخير الجيش الإيرانيّ بإطلاق الرَّصاص الحيّ على أكثر من خمسة ملايين متظاهر في شوارع وميادين طهران، فرفض الجيش الانصياع لأوامر الشّاه؛ بل انضَمَّ إلى المتظاهرين ضُدَّ نظامه وأبدى موقفاً وطنيّاً، وانتصرت الثَّورة. هذا التَّقليد والثَّقافة الوطنيّة ليست غائبة عن القيادات العسكريّة والأمنية، وكذلك الشُّعوب الإيرانيّة الآن أيضاً.

النِّظام الإيرانيّ المأزوم، اقتصاديّاً بفعل العقوبات الغربيّة المفروضة عليه ردّاً على تطويره برنامجه النوويّ المثير للشكوك والمخاوف، وسياسيّاً، نتيجة تدخّله في شؤون دول المنطقة، وكذلك عسكريّاً، عبر انتشار قوّاته في مناطق الصراع المحتدم في سوريّا والعراق واليمن ولبنان، يشعر أنَّه في أضعف مراحله، لتأتي هذه الثَّورة، بمثابة “الرَّبيع الإيرانيّ” الذي تنتظره الشُّعوب الإيرانيّة منذ سنوات، ولتكون الحلقة قبل الأخيرة من انهيار الدّول القوميّة في المنطقة، ويتوقَّع أن تلحق بها تركيّا أيضاً مستقبلاً.

فكما وصف الفيلسوف الكُرديّ عبد الله أوجلان سقوط نظام صدّام حُسين في المنطقة، بأنَّه “سقوط آخر قلاع الدّول القوميّة في منطقة الشَّرق الأوسط”، فإنَّ انهيار النِّظام الإيرانيّ؛ يُعَدُّ انهيار آخر الدّول المتستِّرة برداء الدّين والمذهب، رغم أنَّها في حقيقتها دولة قومويّة حتّى العظم، وغلَّبت العنصر الفارسيّ على جميع القوميّات والإثنيّات الأخرى.

ينبغي ألا يغيب عن البال أنَّ دَهاء النِّظام الإيرانيّ ومساحة المراوغة أمامه واسع، وهو ليس بتلك السهولة التي يتوقَّعها البعض، فلديه القدرة على مقارعة خصمه والإيقاع به بمختلف أساليب الخداع والمكر، عبر بثِّ الفتن القوميّة والدّينيّة والمذهبيّة، وإحداث شروخ مجتمعيّة، تمكِّنُه التسلُّلَ منها، وبالتّالي القضاء على الثَّورة، وهي لم تزل في مهدها.

فالاحتجاجات والتَّظاهرات لم تهدأ في إيران منذ عام 2015، وكذلك في أعوام 2017 و2019، ردّاً على ارتفاع أسعار المواد الأساسيّة والمحروقات، وكذلك عندما رمت امرأة كُرديّة بنفسها من مبنى شاهق ردّاً على اعتداء ضابط إيرانيّ عليها.

إلا أنَّ طبيعة وانطلاقة هذه التَّظاهرات ودوافعها، تختلف عن سابقاتها، فيمكن إطلاق صفة “الثَّورة الثّانية” للشُّعوب الإيرانيّة ضُدَّ نظام حكمه، بعد ثورة عام 1979، وهي بدأت تُلقي بظلالها على دول المنطقة والتَّحالفات والاصطفافات، لجهة ترك النِّظام الإيرانيّ يواجه الثَّورة بشكل منفرد، ما يدفعه إلى سحب قوّاته المنتشرة في عدَّة دول في المنطقة، مثل سوريّا والعراق واليمن ولبنان، على غرار ما فعلته روسيّا عندما سحبت جزءاً من قوّاتها من سوريّا، لتعوِّضَ النَّقص في عديدها بأوكرانيا.

وفي محاولة يائسة منه؛ عمد النِّظام الإيرانيّ إلى استهداف معسكرات الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ – إيران وحزب “كومله” وحركة كادحي كردستان، بجنوب كردستان، فقتل عدد من عناصر البيشمركه، إضافة إلى عدد من المدنيّين، بينهم نساء وأطفال، ليوجِّه اتّهاماته إلى الحركات والأحزاب الكُرديّة في شرق كردستان بأنَّها تقف وراء التَّظاهرات، في مسعى إلى إلصاق تُهمة الانفصال بهم، معتقداً بأنَّهم الحلقة الأضعف في المعادلة الإيرانيّة، ولن يتحرَّك العالم قيد أنملة في الدِّفاع عنهم. هذه المَكيدة الإيرانيّة، لم تعد تجديها نفعاً، بعدما أجمعت معظم الحركات والأحزاب الكُردستانيّة، وخاصَّةً حركة حُرّيّة كردستان وحزب الحياة الحُرّة الكُردستانيّ، على دعم التَّظاهرات والوقوف مع مطالب الجماهير في الحُرّيّة والكرامة، وهو ما سيقلب الطاولة عليه، ويدفع باتّجاه تكوين رأي عام عالميّ ورسميّ ضاغط، سيكون له أثره في قادم الأيّام.

إنَّ ارتدادات الثَّورة التي تتعاظم ككرة الثَّلج في إيران، لا شَكَّ أنَّها ستُلقي بتأثيراتها على جميع مناطق التدخّل الإيرانيّ في المنطقة، وعلى رأسها سوريّا، التي تعاني تغلغلاً إيرانيّاً واسعاً في مفاصل الدَّولة والجيش والمجتمع، بعد نشر المذهب “الشّيعيّ” في عدَّة مناطق تسيطر عليها حكومة دمشق. تقليص النُّفوذ الإيرانيّ في سوريّا، سيساعد الأخيرة على إعادة مكانتها العربيّة والدّوليّة، لطالما وضعت معظم الدّول، وعلى رأسها السّعوديّة ودول الخليج، قطع علاقاتها مع إيران، شرطاً لاستئناف علاقاتها الدِّبلوماسيّة والطبيعيّة معها، وكُلّ الاعتقاد أنَّ الثَّورة المُتّقدة أوّارها في إيران الآن؛ ستُضعف من النِّظام الإيرانيّ الإقليميّ والدّوليّ، وتُحرّر الدّول التي تدخّلت فيها من سطوتها وتدخّلها في شؤونها الدّاخليّة.

غير أنَّ إيران التي تُجيدُ اللَّعب بالأوراق؛ ستحاول كُلَّ ما في وسعها من أجل وأد الثَّورة، من خلال عقد صفقات مع الدّول العظمى، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة وروسيّا. هناك مخاوف جدّيّة تواجهها الثَّورة بأن تقايض الولايات المتّحدة مطالب الثوّار في إيران بالملفّ النَّوويّ. فكما قال الرَّئيس الأمريكيّ الرّاحل فرانكلين روزفلت “إنَّ أمريكا عوَّدت العالم على الغدر ليس بأعدائها؛ بل بأصدقائها أيضاً”، ويخشى أن تُقدِم أمريكا على دعم نظام الملالي لضمان مصالحها في المنطقة، وتجهض الثَّورة.

كذلك روسيّا والصّين، لن تقف مع مطالب الشُّعوب الإيرانيّة المنتفضة، لطالما دخلت مع النِّظام الإيرانيّ في تحالفات إستراتيجيّة. فروسيّا تعتبر إيران أحد أركان مشروعها الأوراسيّ، وتتّكئ عليها في سوريّا وفي مناطق مختلفة، فهي استوردت منها الطائرات المُسيَّرة وتستخدمها الآن في حربها بأوكرانيا، كما أنَّها جعلت منها بديلاً لتركيّا في إيصال غازها إلى الصّين. فيما الصين لا تستغني عن إيران مطلقاً، وهي تستورد منها 75% من احتياجاتها النَّفطيّة والغازيّة.

يبقى انتصار الثَّورة التي أوقدتها “جينا أميني” بجدائلها من عدمه؛ مرهونٌ بقوَّة تنظيمها وعدم انزلاقها نحو العسكرة، كما حصل في سوريّا، وهو احتمالٌ ضعيف في ظِلِّ المؤشِّرات الرّاهنة، طالما أنَّ الشُّعوب المقهورة وحَّدتها قبضةُ القمع والاستبداد، وهي تستند إلى ميراث وتاريخ حافل بالتَّجارب والخيبات، ويكفيها الاستفادة منها؛ لتُكلِّلَ ثورتها بالنَّصر المؤزَّر، وتتحرّر الجدائل من سطوة العمامات السَّوداء.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..

زر الذهاب إلى الأعلى