آراء وتحليلات

كيف يقرأ الكرد والأتراك اتفاقية “لوزان” بعد مرور قرن عليها؟ _2_

جميل رشيد

تُعّدُّ الذِّكرى المئويّة الأولى لمعاهدة لوزان، العام القادم، تاريخيّة وهامة لكل من الكُرد والأتراك، لجهة وصول القضيّة الكُرديّة إلى مصاف “العالميّة”، وتصدُّرها أجندات العديد من القوى الدّوليّة، وخاصَّةً في روسيّا والولايات المتّحدة الأمريكيّة والاتّحاد الأوروبيّ، مع عدم إغفال انتقادات وملاحظات عديدة على أدوارها ومواقفها. كذلك الذِّكرى هي محورية بالنِّسبة للنظام التُّركيّ الحالي أيضاً، كونها تتزامن مع معركة الانتخابات البرلمانيّة والرِّئاسيّة في تركيّا، حيث يحاول الرَّئيس التُّركيّ رجب طيّب أردوغان إلى الفوز بها، عبر توسيع نفوذ تركيّا في المنطقة، مستنداً إلى مشاريع احتلاليّة مثل “الميثاق الملّي” وإحياء ما تُسمّى “العثمانيّة الجديدة”.

فإن كانت معاهدة لوزان قد نسفت حلم الكُرد بإنشاء دولة مستقلّة لهم، وأصابهم الحَيف والغُبُن من قبل الدّول السّت المشاركة؛ فإنَّ ذاك الحلم لايزال يُراود المخيال والعقل الجمعيّ الكُرديّ، كجزء من حقوق ضاعت بين متاهات المصالح الدّوليّة، وأعادت تقسيم وطنهم بين أربع دول، أحكمت فيما بعد قبضتها عليها، لتَعُدَّ أراضي الكُرد جزءاً من أراضيها، ولتضيع القضيّة الكُرديّة في زحمة الصراعات الدّوليّة، وتكون ضحيّتها الكبرى.

وقَّعت العثمانيّون على هدنة مودروس – مهزومين ومرغمين – في 30 أكتوبر/ تشرين الأوَّل عام 1918، وبموجبها أعلن الحلفاء حَلَّ السَّلطنة العثمانيّة، وفرض الحلفاء المنتصرون في الحرب العالميّة الأولى تقسيم تركة السَّلطنة العثمانيّة وألمانيا المهزومتين في الحرب، وبموجبها تحرَّرت معظم المناطق والأراضي التي كانت يحتلُّها العثمانيّون، خاصَّةً المنطقة العربيّة، بعد أن إطلاق الشريف حسين ما تُسمّى “الثَّورة العربيّة” ضُدَّ العثمانيّين في عام 1916.

تسيَّدت جمعيّة الاتّحاد والترقّي المشهد السياسيّ في تركيّا بعد انهيار السَّلطنة، وانتقلت تركتها السِّياسيّة والعسكريّة إليها؛ إضافة إلى تحالفها مع جماعات الضغط اليهوديّة في تركيّا، لتتحوّل إلى القوّة الأكثر فعّاليّة لتحديد مصير تركيّا بعد انهيار السَّلطنة العثمانيّة، وتلعب على المتناقضات الدّوليّة، بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى وانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكيّة في روسيّا بقيادة لينين.

لم تتوقَّف أبداً المحاولات الكُرديّة في نيل موافقة الدّول المنتصرة في الحرب لإعلان دولتهم المستقلّة، على عكس ما قد يعتقد البعض أنَّهم لم يفهموا المعادلة الدّوليّة وكيفيّة التَّعامل مع المتغيّرات السِّياسيّة الدّولية، بل تفاعلوا معها بقوّة وإيجابيّة، وأسَّسوا هيئات ومنصّات سياسيّة، عبَّروا من خلالها عن مطالبهم وحقوقهم، ومثّلوا الشَّعب الكُرديّ في المحافل الدّوليّة، وتمكّنوا من نزع اعترافات وحقوق لهم، مثلما تَمَّ في معاهدة “سيفر” عام 1920، والذي مثَّل فيه وفد كُرديّ بقيادة “شريف باشا”.

القومويّون الأتراك لم يهدأ لهم بال حيال بنود سيفر بإنشاء دولة كُرديّة على جغرافيّة كردستان، وأنكر ممثّلهم في لوزان عصمت إينونو (وشاركه في الوفد حاخام يهوديّ)، وهو كان آنذاك رئيس الوزراء التُّركيّ وهو من أصول كُرديّة، ويمثّل الوجه الأكثر قبحاً لمصطفى كمال أتاتورك في عنصريّته ورفضه لأيَّ مطلب كُرديّ. ومنذ افتتاح الجلسة الأولى للمؤتمر “لوحت بريطانيا وفرنسا إلى أنَّهما مستعدّتان للتَّنازل والوصول إلى حلول وسط. ورضختا للشَّرط التُّركيّ برفض مشاركة أيّ وفدٍ كُرديّ في المؤتمر، ومنع مناقشة القضيّة الكُرديّة في كردستان تركيّا بشكل خاص، وكانت بريطانيا وفرنسا على استعداد للتَّنازل عن بعض امتيازاتهما في تركيّا، خوفاً من ارتمائها في أحضان الاتّحاد السّوفياتيّ، الذي يُشكِّلُ خطراً على مصالحهما في المنطقة. لذلك وافقت على الشّروط التُّركيّة، وبذلك تعزَّزت مواقع تركيّا في المنطقة وعلى السّاحة الدّوليّة، وتغيّرت موازين القوى لصالح حكومة أنقرة التي انفردت بالحكم في تركيّا، بإلغاء السَّلطنة وحكومة الباب العالي، ونقل العاصمة من إسطنبول إلى أنقرة، وإلغاء الخلافة وإعلان النِّظام الجمهوريّ في 1923”.

معاهدة لوزان التي وقَّعت عليها سبع دول منتصرة في الحرب العالميّة الأولى، وهي (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، اليابان، اليونان، رومانيا، صربيا، كرواتيا، وسلوفينيا)، بالإضافة إلى تركيّا، في 24 يوليو/ تمّوز 1923، رسمت حدود الدّولة التُّركيّة، بعد أن قسَّمت جغرافيّة كردستان بين أربع دول، فألحقت القسم الجنوبيّ منها بالعراق الحالي لتقع تحت الانتداب البريطاني، فيما ألحقت الجنوبيّ الغربيّ منها بسوريّا الواقعة تحت الانتداب الفرنسيّ، وأبقت قسماً تابعاً لإيران، وأبقت القسم الأكبر منها تحت سيطرة الدّولة التُّركيّة التي تأسَّست على أنقاض انهيار السَّلطنة العثمانيّة.

لم يَرِدْ في أيٍّ من بنود معاهدة لوزان الـ/145/ أي ذكر للشّعب الكُرديّ وكردستان، وتنكَّرَ الحلفاء المنتصرون في الحرب لما أقرّوه في سيفر، خاصَّةً أنَّ الوفد الكُرديّ بقيادة شريف باشا خاطب رئيس الوزراء الفرنسيّ جورج كليمنصو طالب فيها بالاعتراف بدولة كردستان المستقلّة، وكذلك مماثلة أرسل رسالة إلى رئيس الوزراء البريطانيّ حينها وأبدى استعداده كي تكون دولة كردستان تحت الانتداب البريطانيّ، إلا أنَّ البريطانيّين فضَّلوا التَّعاون مع أتاتورك والدُّخول معهم في مساومات على إقليم الموصل الغنيّ بالنفط، كما اعتقد البريطانيّون أنَّ إنشاء أيَّ دولة كُرديّة سيؤثّر على مصالحهم في العراق والخليج العربيّ بعد اكتشاف النَّفط فيها. وما ساعد الأتراك والبريطانيّين والفرنسيّين في تمرير مشروعهم؛ هو خسارة الرَّئيس الأمريكيّ وودرو ويلسون في الانتخابات، وتركت الولايات المتّحدة الحبل على غاربه، بأن تراجعت عن حصَّتها في سيفر، حيث اتَّفق حينها أن تكون دولة كردستان المُعلَن عنها في الجزء الشَّماليّ، أي الواقع تحت الاحتلال التُّركيّ، تحت الوصاية الأمريكيّة.

ويسعى الكُرد في الذِّكرى المئويّة للمعاهدة، إلى تمزيقها ورميها في مزبلة التّاريخ، فهي من أنكرت الهُويَّة الكُرديّة وتجاهلت مطالب الشَّعب الكُرديّ المشروعة وحرمتهم من وطن لهم كسائر الشُّعوب الأخرى، وبات أكبر شعب من حيث التِّعداد السُكّاني على مستوى العالم بلا وطن وبلا هُويّة، وتَمَّ فرض هُويَّة تلك الأنظمة الأربعة عليهم، وكذلك تَمَّ حرمانهم من كافَّة حقوقهم، وعانوا بسبب هذا التَّقسيم مختلف الويلات من القتل والتَّهجير والتَّنكيل والاضطّهاد والتشريد.

وفي هذه المرحلة المفصليّة من صعود القضيّة الكُرديّة ووصولها إلى مرتبة العالميّة، يَجدُرُ بالكُرد أن يكثّفوا جهودهم لمحو كُلِّ آثار لوزان وإسقاطاتها السّلبيّة على تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، عبر حشد طاقاتهم لنيل اعتراف دوليّ بحقوقهم المشروعة، والضغط على مراكز القرار الدّوليّ في إيجاد حَلٍّ سياسيٍّ عادلٍ لقضيّتهم، التي طالما تُعبّرُ عن إرادة أكثر من 50 مليون كُرديّ منتشرون على جغرافيّة وطنهم المجزّأ بين أربعة دول بفعل سياسات وقرارات ذات الدّول، وإنهاء أيِّ مفعول رجعي لتلك القرارات وإنصاف الكُرد.

بالمقابل استنكر أردوغان، وفي أكثر من مناسبة، موافقة أتاتورك على معاهدة لوزان، واعتبرها “إجحافاً” ألحق أكبر الأضرار بالأتراك. وقبل قدوم الذِّكرى المئويّة لها؛ احتلَّ أردوغان أجزاءً من أراضي روج آفا وشمال وشرق سوريّا، وكذلك في جنوب كردستان/ إقليم كردستان العراق، ممهّداً الطريق لفرض وقائع على الأرض، تنفيذاً لمشروع “الميثاق الملّي”. وكأنَّه يُعيد مقولة وزير العدل التُّركيّ، مُحمَّد أسد بوزكورت، عام 1930، بعد قمع انتفاضة آغري، الذي قال بكُل بجاحةٍ وصفاقةٍ «التُّركيّ هو السيّد والصاحب الوحيد لهذا البلد. إنَّ الذي يعيش في هذا البلد، وليس من العِرق التُّركيّ، له حقٌّ وحيدٌ وهو أن يكون عبداً وخادماً”. وقال أردوغان “النَّجاحات الحاسمة التي حقَّقناها في مختلف السّاحات، بدءاً من سوريّا وليبيا، مروراً بشرق البحر المتوسِّط وصولاً إلى مكافحة الإرهاب، هي أوضح مؤشِّرٍ على إرادتنا لحماية حقوق بلادنا ومصالحها”. وهو يؤكِّدُ على التزامه بتنفيذ مشروعه الملي والنيوعثمانيّ في المنطقة، ليكون الكُرد أولى ضحايا هذا المشروع الذي ينسف معاهدة لوزان أيضاً، ولكن وفق المصالح التُّركيّة.

رغم الصراع بين الكُرد وتركيّا؛ إلا أنَّ الطرفين يتّفقان على رفض معاهدة لوزان، وإن بشكل مختلف، فتركيّا ترفضها بحجَّة أنَّها – أي المعاهدة – “سلبت” منها “أراضٍ تتبع للسَّلطنة العثمانيّة”، فيما يرفضها الكُرد بحجَّة أنَّها أطاحت بحُلُمِهم في إقامة دولة كردستان، التي كانوا يأملون أن يساعدهم الحلفاء الأوروبيّون في إقامتها.

مفاعيل معاهدة لوزان لاتزال سارية المفعول، لجهة استمرار الوضع الرّاهن وحرمان الكُرد من دولة مستقلّة وحقوقهم المشروعة في وطنهم الأم؛ فكُلُّ دولة محتلّة لجزء من جغرافيّة كردستان تبذل قصارى جهودها لإبقاء الكُرد محرومين من جميع حقوقهم، على العكس تسعى إلى إحياء لوزان عبر التَّوقيع على اتّفاقيّات أمنيّة وسُرّيّة بين بعضها، لتزيد من معاناة الشَّعب الكُرديّ، وهو ما ينبغي على الحركات السِّياسيّة الكُرديّة أخذ جانب الحيطة والحذر منها، عبر اتّخاذ التَّدابير والوسائل الكفيلة بإجهاض أيّ مسعى لتمزيق الوطن الكُرديّ ومعه الشَّعب الكُرديّ على جغرافيّة المنطقة، فتركيّا من خلال احتلال عفرين وسري كانيه وكري سبي، وإطلاقها التَّهديدات المستمرّة بشَنِّ عدوانٍ جديدٍ على مناطق روج آفا وشمال وشرق سوريّا ومحاولة إنهاء الإدارة الذّاتيّة الدّيمقراطيّة، إنَّما تريد أن تستبق الزَّمن قبل حلول الذِّكرى المئويّة الأولى لـ”لوزان”، عبر تغيير فرض وقائع جديدة على الأرض، تتماشى مع مصالحها القوميّة العنصريّة، عبر لَيِّ ذراع الحكومة السُّوريّة وإجبارها للتوقيع على اتّفاقيّات أمنيّة لمحاربة التطلُّعات الكُرديّة في سوريّا المستقبل، وإرضاء كُلٍّ من روسيّا وإيران، للحؤول دون حصول الكُرد أيّ حقوق سياسية في سوريّا على غرار ما حصل في لوزان، فهل سنشهد لوزان جديدة، أم أنَّ الكُرد سيقلبون المعادلات على أعدائهم، ليغدو أوَّل المستفيدين من التغييرات العالميّة؟

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..

زر الذهاب إلى الأعلى