آراء وتحليلات

ثلاث محطات على طريق التصفية السياسية للدّروز !

أيمن الشّوفي

باتت السُّويداء مطرودةً أكثر إلى جهة الجنوب، بعد ثلاثة أعوامٍ فقط على انقلاب حزب البعث واستيلائه على الحكم في سوريّا. حينها بدا شتاء عام 1966 قاسياً وصعباً للغاية. ومنذ ذاك التّاريخ؛ لن تهنأ عاصمة الدروز في سوريّا بأيِّ شتاءٍ دافئٍ ورحيمٍ، سيعيش أبناؤها تغريباتٍ عدّة من التِّرحال الدّاخليّ والخارجيّ بحثاً عن تعريف لائقٍ للُقمَةِ العيش، إلى تشكيك النِّظام بنواياهم وولائهم على الدَّوام، وصولاً إلى التَّحجيم السِّياسيّ المُرّ، والذي استبعدهم من المناصب المدنيّة والعسكريّة الهامَّة. لقد انتهى موقع دروز السُّويداء واقعيّاً داخل جسم الحياة السِّياسيّة في سوريّا بعد تصفية سليم حاطوم في الصباح الباكر ليوم 26 حزيران/ يونيو من عام 1967.

اغتيالُ طائفةٍ يبدأ بضابط

لم يَستسغ المقدّم الدُّرزي سليم حاطوم أن يكون مجرَّدَ متعهِّدٍ لتنفيذ حركة 22 شباط/ فبراير1966، والتي أزاحت أمين الحافظ عن رئاسة الجمهوريّة، وجعلت اللُّجنة العسكريّة أي – صلاح جديد وحافظ الأسد – تحكمُ سوريّا مطلقةَ اليد، وإن في الخفاء. فالضَّابط الدُّرزيُّ القويُّ شعر حينها بأنَّه مُجرَّد مَطيّة، وبأنَّه تَحجَّم كلّيّاً داخل كتيبة الصّاعقة التي يرأسُها. لم يرضَ أن يظلَّ حارساً شخصيّاً لأمجاد غيره، في وقت كان فيه التمدُّد العلويّ قد أخذ مداهُ داخل الجيش وأجهزة الدَّولة. لكنَّ طموح حاطوم لم يكن محسوباً ولا مدروساً، لا في التوقيت ولا في التَّحالفات، أراد الثَّأر لهزيمته الشَّخصيّة بالانقلاب على مكوِّنات تلك الصيغة السِّياسيّة العسكريّة التي تحكم البلاد، والتي لم يحسب بدقِّة حساباً لقوَّتها الحقيقيّة على الأرض، وما باتت تمثِّلُه فعليّاً، وبأنَّها قد أصحبت قوّةَ الأمر الواقع، قوّةَ الظلام التي ستُدخِلُ سوريّا بكُلِّ مكوِّناتها الحيّة في نفقٍ معتم لا خلاص منه. كان خطأُ حاطوم القاتل هو عودته من منفاه في الأردنِّ ليشارك في حرب حزيران/ يونيو 1967؛ ظنّاً منه بأنَّ هذه الخطوة ستجعل اللّجنة العسكريّة الحاكمة لسوريّا تصفح عنه وتقدِّرُ وطنيّته، ولم يكن يعلم بأنَّه عائدٌ إلى موته المجّاني. وبتصفية حاطوم جسديّاً حُكم على الوجود العسكريّ الفاعل للدُّروز داخل الجيش بالتصفية أيضاً، وهذه التَّصفية لازمت سياسة حافظ الأسد تجاه الدُّروز بعد انفراده بحكم سوريّا، ولم يغيّرها بشّار بمجيئه إلى السُّلطة أيضاً، إذ ظَلَّ الارتياب بنوايا ضُبَّاط أهل الجبل قائماً لا تراوغه الشكوك، عبر ما كان يُسمّى بضبّاطِ أمن القطع العسكريّة، وهو منصبٌ حُكرٌ على العلويّين، باعتبارهم الحامل الاجتماعيّ للنِّظام القائم إلى يومنا هذا.

زَهرُ الدّين قبل أن يَكبُر

على نحو غير متوقَّعٍ؛ أعلن النِّظام السُّوريّ أنَّ انفجار لغمٍ قرب مدينة دير الزور أودى بحياة اللّواء الدُّرزيّ عصام زهر الدّين يوم 18 تشرين الأوَّل/ أكتوبر من العام 2017. كثيرون حينها وصفوا موته بالتَّصفية السِّياسيّة الثّانية لطموحات الدُّروز بأدوارٍ تفوق المقرّرَ لها في وصفة الحكم الحاليّة، وأقرّوا بنذالة النِّظام لخادميه، ورُبَّما أنَّ النِّظام السُّوريّ قد استشعر خطر صعود نجم زهر الدّين في الأوساط الموالية له. لا تريد سُلطة بشّار الأسد سليم حاطوم جديد، لذا فهي ترسم أدوارَ خدمةٍ مرسومة بدقّة، وتنتهي بأجلٍ، تُبرِمُ عقوداً شفويّة مع خادميها دون أن يعلموا بها، وبها يجب أن تنتهيَ أدوارهم عند مشارِفَ معيَّنة ومُحدَّدة مسبقاً، وزَهرُ الدّين خدم نظام بشّار أكثر بكثير من المنتظر منه، وإليه تُنسب العديد من المجازر في باب عمر في حمص ودوما وعين ترما في الغوطة الشَّرقيّة لدمشق، ويُنسبُ إليه تهديده الشَّهير للاجئين السُّوريّين: “نصيحة من هل الدَّقن، لا ترجعوا”.

زَهرُ الدّين خَدَمَ السُّلطة في سوريّا كما لم يفعل ضابطٌ درزيٌّ آخر من قبل، نَجِدَهُ وقد تنقَّلَ فَرِحَاً بين القوّات الخاصَّة والحرس الجمهوريّ والمخابرات العسكريّة، وقد أبلى في جميعها بلاءً حسناً من وجهة نظر النِّظام، وتكسَّبَ منها اقتصاديّاً على وجه الدقَّة، وصارت له مكانة لدى المواليين، سواءً كانوا دروزاً أم غيرهم، وتلك المكانة بالتَّحديد لا يريدها النِّظام، ولا يتوانى عن تصفية صاحبها بدمٍ باردٍ. ومجدَّداً تعرّف الدُّروز على سقف طموحاتهم السِّياسيّة القصوى في تركيبة الحكم الحاليّة، والتي لم تتغيّر مُحدِّداتُها العامَّة بين حُكمي حافظ وابنه بشّار، فهم ليسوا شركاءَ وطنٍ، وإنَّما وقودٌ لاستمرار المِحرَقَة التي أوقدها النِّظام بأجسادِ الجميع ولا تزال مُستعِرَةَ النّيران حتّى الآن.

وَقاحَةُ التَّصفية بالمجازر الجماعيّة

ابتُكِرَتْ الكاريزما البّسيطة والعفويّة، لكنَّ المُتَّقدة للشَّيخ وحيد البلعوس التفافاً حولها بين عامي 2013 و2015، ولا سيّما أولئك الشَّباب المطلوبين لتأدية خدمة الاحتياط، أو الخدمة العسكريّة في جيش النِّظام، والذين وجدوا في الشّيخ مؤسِّس حركة مشايخ الكرامة ملاذاً لتفادي تلك التَّجربة المريرة، أي القتال في معاركٍ لا تعنيهم بشيء. لقد وفَّرت تلك الحركة وقائدُها بدائلَ اجتماعيّة أكثر أماناً للفارّين من التزامات الحرب في سوريّا، إذ جنَّدتهم داخِلَ ما يُعرف بـ”البيارق”، وهي كناية عن رايات كان الدُّروز يرفعونها أثناء معاركهم ضُدَّ الفرنسيّين، ولكُلِّ عائلة دُرزيّةٍ بيرَقَها الخاصّ، ورجلٌ يحمل ذاك البَيرق ويُؤتَمن عليه. أَحيت الحركة هذا الرَّمز الكثيف بمكنونه الاجتماعيّ التّاريخيّ، ووضَعَته في سياق لحظة الرّاهن، ورُبَّما لم يتقصّد الشّيخ البلعوس أن يلعب دوراً سياسيّاً محلّيّاً آنذاك، لكنَّه وجدَ نَفسه يلعَب هذا الدَّور عن غير قصدٍ، فَجَمَعَ خصوماتٍ سياسيّة سالت أمامه من منابتَ محلّيّة، بعدما عادَته مَشيخة العقل الدُّرزيّة بما تمثِّلُه من ولاء لنِظام بشّار، وصار خصمَها وخصمَ جهاز الأمن العسكريّ، على السَّواء. والأرجَحُ أنَّ يكون الرَّجل دُفع دفعاً ليلعب دوراً لم يكن مهيّأ له، أو على الأقلّ لم يكن مستعدّاً لتلبية شروطه الموضوعيّة والذّاتيّة، لكنَّه وجد أنَّ حركته تنمو وتتَّسع في ظِلِّ العُسف الذي تمارسه السُّلطة على الدُّروز وعلى سواهم أيضاً، ولأنَّ العفويّة عنده غلبت الإستراتيجيّة ظَلَّ واقفاً مكانه، فلا كان مع النِّظام، ولا كان مع المعارضة، كان بحاجةٍ إذاً إلى توصيفٍ سياسيٍّ حقيقيٍّ يُنقِذُ حركته من مأزقيّة محدوديَّتها، وهذا الذي لم يحدث، وما حدث أنْ جرت تصفيتُه وتصفية قادة الحركة بتفجيرين مزدوجين حصدا أرواح أكثر من ثلاثين شخصاً مطلع أيلول/ سبتمبر عام 2015.    

هذا هو النِّظام السُّوريّ، نظامُ المُحدِّدات المُسبقة، والأدوار المرسومة للجميع بعنايةٍ فائقةٍ، ومعاندة ذلك تعني التَّصفية والإلغاء، فلا يمكن أنَّ يَظَلَّ الدُّروز عالِقين هكذا في مَصيدة انتظار الفرد المخلِّص، عجزهم السِّياسيّ، وفَقر ما يمتلكون من أدواتِ عملٍ، قَذَفَهم مراراً صوبَ تلك الجهة المُفلِسة من النِّضال.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها

زر الذهاب إلى الأعلى