آراء وتحليلات

دير الزور وسقوط الرِّهان على الفتنة

جميل رشيد

شهد لقاء القمة بين الرئيس الروسي بوتين ونظيره التركي قبل أيام في مدينة بطرسبورغ؛ مناكفات من نوع آخر، إثر ثورة القيصر الروسي غداة الانعطافة الأردوغانية الأخيرة نحو حلف الناتو، ودوره في الحرب الأوكرانية لصالح الحلف، خاصة بعد تسليم أعضاء كتيبة “آزوف” إلى القيادة الأوكرانية، ما أفضى إلى زعزعة ثقة الروس به، طالما حاول بوتين خلال السنوات الماضية سحبه من صفوف الناتو وجره إلى حلفه الأوراسي، رغم الإغراءات الكثيرة التي قدمها لأردوغان في سوريا، بدءاً من سماحه باحتلال عفرين، وليس انتهاء بصفقة الحبوب وبناء مفاعل “آكويو” في مدينة مرسين، والتبادل التجاري وسيل الغاز التركي، والسياحة وأمور أخرى مشتركة بين الاثنين.

إن ما فرَّق بين الرئيسين في هذه القمة أكثر ما جمعهما، على خلاف القمم الماضية التي عقدت بينهما منذ قمة أغسطس/ آب 2016، وبداية المصالحة بينهما، بعد أن ساعده بوتين في إفشال الانقلاب المزعوم، كذلك وقوفه معه في الانتخابات الأخيرة.

عاد أردوغان من روسيا خالي الوفاض، دون أن يحصل على ما خطط له في نيل موافقة بوتين بعملية غزو جديدة في سوريا، بل على النقيض من ذلك؛ طالبه بوتين بسحب قواته من سوريا، وهي المرة الأولى التي يطالب فيها، وهي مطالبة ستلقى إسقاطاتها على الأرض عبر تصعيد عسكري، وخاصة في جبهات إدلب.

أردوغان الذي وقَّع مع بوتين عدة اتفاقيات، وأهمها اتفاقية سوتشي عام 2018، القاضية بانسحاب الفصائل الإرهابية من محيط الطريق الدولي (M4) المؤدي إلى اللاذقية، وتسليم سلاحها الثقيل. إلا أنه لم ينفذ أياً من تلك الاتفاقيات، بما فيها اتفاقية سوتشي الثانية التي وقعت لوقف إطلاق النار عام 2019 بعد عملية غزوه لمدينتي سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أيبض، بل استغلها في التمدد أكثر في الأراضي السورية، حتى انقلب على تفاهمات أستانا في تقسيم مناطق النفوذ في سوريا بين كل من روسيا، إيران وتركيا.

كما تراجع الرئيس الروسي عن اندفاعته الأولى وحماسه نهاية العام الماضي في الدفع باتجاه إجراء مصالحة بين تركيا وسوريا، ومحاولة تطبيع العلاقات بينهما، حتى خفُتَ حديث الدبلوماسية الروسية عن مطالبة الطرفين – تركيا وسوريا – بالعودة إلى تطبيق بنود اتفاقية أضنه التي وقعها الطرفان عام 1998، وهذا الود المفقود بينهما يشير بوضوح إلى وصول العلاقات بين بوتين وأردوغان إلى نقطة اللا عودة، بل وصلت إلى حد عدم إشراك تركيا في اتفاقية الحبوب، ورفض روسيا للوساطة التركية في الصفقات القادمة.

رغم أن كان من المقرر أن تعقد القمة بين الرئيسين في العاصمة التركية أنقرة، إلا أن بوتين رفض زيارتها، ما اضطر أردوغان إلى التوسل وطلب عقدها في روسيا، بعد أن اصطدم بجدار الرفض الأمريكي والأوروبي حيال مطالبته إنقاذه من أزمته الاقتصادية التي تعصف بالليرة والاقتصاد التركي، وعدم السماح له بعملية غزو جديدة في مناطق شمال وشرق سوريا، استكملت بفرض عقوبات على قادة ميليشيا تابعة لأنقرة، كإجراء لتقليم أظافر تركيا في سوريا، والحد من انتهاكاتها المستمرة وتغولها في العبث بمصير المنطقة.

حاول أردوغان في زيارته تدوير الزوايا وإرضاء بوتين الممتعض، إلا أن جهوده وبهلوانيته المعهودة لم تنقذه ولم تقنع بوتين في الصفح عنه، بل شدد لهجته واضعاً أمامه خيارين لا ثالث لهما؛ إما الاندماج مع الطرح الروسي، أو الغرق أكثر في مخططات الناتو ضد روسيا. ولم يحسم أردوغان قراره، وعاد إلى أنقرة والغصة تخنقه، بعد أن وصل إلى جدار مسدود وفقد معه كل مهاراته الشعبوية والخطابية أمام تعنت الدب الروسي.

راهنت تركيا وبعض الأطراف الأخرى على الاصطياد بالمياه العكرة، وتحريك عدد من العشائر ضد قوات سوريا الديمقراطية في دير الزور، وإعادة المنطقة ككل إلى المربع العنفي الأول، وإدخالها في متاهات الاقتتال الداخلي وإحداث تصدعات في مناطق شمال وشرق سوريا التي طالما عاشت في أمن واستقرار نسبي مقارنة بالمناطق الأخرى من سوريا، رغم الهجمات المستمرة لفلول خلايا تنظيم “داعش” الإرهابي فيها.

أعادت الأحداث الدامية التي وقعت خلال أسبوعين من المواجهات بين قوات سوريا الديمقراطية ومسلحين تسللوا من المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الحكومة السورية والميليشيات الإيرانية في الضفة الغربية لنهر الفرات، التفكير مرة أخرى بالبنية المجتمعية في المنطقة المعتمدة بشكل أساسي على العشيرة والقبيلة، كانتماء ما قبل الدولة، وتحريكها من قبل الأطراف الداعمة لها، لتغدو خنجراً في الخاصرة الوطنية لسوريا، عبر استمالة بعض ممن يدعون أنهم “شيوخ ووجهاء”، والتماهي مع مشاريع ومخططات خارجية، أقل ما يقال عنها أنها بعيدة عن الوطنية، وتساهم في عرقلة الوصول إلى حل نهائي ومستدام للأزمة السورية.

كمية الضخ الإعلامي في تلك الفترة، فاق حدود التصور، حيث انبرت قنوات إعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي التابعة لأطراف تدعي أنها معارضة وأخرى موالية للحكومة السورية، في بث سمومها الطائفية والعرقية، محاولة التأسيس لفتنة بين الكرد والعرب، تدفعهم إليها مصالح أنانية ضيقة، ومتلبسين بثوب الوطنية.

غير أن اللافت في خضم الحدث؛ تمثل جلياً في تناغم القنوات الإعلامية التابعة للحكومة السورية، أو المقربة منها، مع تلك المرتبطة بما تسمى “المعارضة السورية” التابعة لتركيا، في توحيد خطابها العدائي ضد الكرد، ووصفهم بأقذع الصفات، متجاهلين كل الأحقاد والعداوات بينهما، ليوحدهم عداء الكرد، والدعوة إلى إبادتهم.

إلا أن ذاك الخطاب الكريه والممزوجبالدعوات إلى الاقتتال تحت اسم “فزعة العشائر” أو “قوات وجيش العشائر” لم يلقَ آذاناً صاغية من قبل الغالبية العظمى للعشائر العربية في دير الزور وعلى كامل الجغرافيا السورية، بل انبرت العشائر، وعبر شيوخها ووجهائها، إلى الرد على الخطاب التصعيدي من قبل تلك الأطراف، وتفنيد مزاعمها، والدعوة إلى الهدوء وعدم الانجرار خلف المخططات والمؤامرات التي يعدها أعداء المنطقة وسوريا. وكل الاعتقاد أن مواقف رؤساء العشائر مثلت نقطة أساسية في إحباط المخطط الذي أعدته أطراف خارجية للزج بالمنطقة في أتون حرب ليس لأحد فيها لا ناقة ولا جمل.

بالتأكيد إن قرار قوات سوريا الديمقراطية في التعامل بحزم مع كل الخارجين على القانون وتجار المخدرات وعناصر تعمدت نشر الفوضى وتدمير المؤسسات الخدمية والإدارية، وحسمت المعركة بأقصر وقت، هي من أسقطت رهانات البعض على استدامة المعارك وإطالة أمدها، وإدخال المنطقة ومعها (قسد) في حرب استنزاف عسكرية وبشرية، بحيث تصل معها الأخيرة إلى مرحلة تفقد حاضنتها الشعبية، التي طالما استندت إليها في تحقيق انتصاراتها ضد تنظيم “داعش” الإرهابي منذ سنوات، وأسست معها الإدارة المدنية وجميع المؤسسات التابعة لها.

بالتوازي مع ذلك، بدت مقاربة قوات التحالف الدولي، وخاصة الأمريكية، في بداية الأحداث، مواربة وغير جدية ولائقة بموقعها في المنطقة، ولم تبدِ موقفاً واضحاً، إلا بعد أن تأكدت أن قوات سوريا الديمقراطية قد حسمت المعركة، وهي في فصولها الأخيرة، فخرجت السفارة الأمريكية في دمشق ببيان، دعت فيه إلى التهدئة وحل المشاكل الموجودة عبر الحوار، وأكدت استمرار دعمها لقوات سوريا الديمقراطية، كما شاركت في اجتماع مع (قسد) ورؤساء العشائر في المنطقة.

روسيا بدت صامتة، رغم أنها ترغب في استعادة الحكومة السورية سيطرتها على كامل المنطقة واستحواذها على آبار النفط، وإقامة قواعد عسكرية لها في تلك المناطق على غرار المناطق الأخرى في سوريا. وحاولت من تلك الثغرة محاربة الولايات المتحدة الأمريكية والانتقام منها في الضربات التي تلقاها في أوكرانيا عبر دعمها للجيش الأوكراني، وهي التي تطالب أمريكا بسحب قواتها من سوريا وتعتبرها غير شرعية ولم تدخل إليها بطلب من الحكومة السورية الشرعية، على غرار تواجد قواتها.

فيما بدت إيران مثل الشيطان الأخرس، تحرك أذرعها من خلف الستار، دون أن تطل بوجهها الحقيقي. إلا أن تعويلها على أمثال “نواف البشير” و”إبراهيم الهفل” لم يحقق لها ما كانت تسعى إليه في إضعاف الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية، والوصول إلى مقربة من قواعد التحالف الدولي في حقلي “العمر” و”كونيكو”.

تركيا التي وجدت في اندلاع الأحداث بدير الزور فرصة عليها استغلالها، دفعت بمرتزقتها من الفصائل التابعة لها، وكذلك إرهابيي “هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة سابقاً”، إلى شن الهجمات على طول نقاط التماس معها، وخاصة في منبج، عين عيسى، ريف تل أبيض الجنوبي، تل تمر وزركان/ أبو راسين، بهدف إضعاف قوات سوريا الديمقراطية وتشتيت قوتها التي ركزت فيها على وأد الفتنة التي يُراد خلقها في دير الزور، والسيطرة على مناطق إضافية بغرض احتلالها، بالترافق مع استخدام كل أشكال الحرب الخاصة والتضليل الإعلامي، بغرض التشويش على عملية “تعزيز الأمن”، وحشد قوات مرتزقتها تحت اسم العشائر.

إلا أن جميع الهجمات باءت بالفشل، على العكس، تكبد مرتزقتها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وجرت وراءها ذيول الخيبة والهزيمة، بالتزامن مع انتهاء قوات سوريا الديمقراطية من تطهير آخر البلدات التي تسلل إلى المسلحين، وفرضها الأمن والاستقرار فيها، والبدء بعودة الأهالي إليها.

إن قراءة نتائج العملية من زاوية تمكن (قسد) من تجاوز هذه الأزمة العاصفة والعابرة التي واجهتها، والخروج منها بشكل أقوى مما سبق، وتوجيه رسائل عديدة إلى كل الأطراف التي راهنت على فشلها، تعيد إلى الأذهان مرة أخرى مقولة “الضربة التي لا تقتلك تقويك”!

زر الذهاب إلى الأعلى