تقارير

الأمراض النفسية..الجراح الخفية في إدلب

مريم الغريب–إدلب

تنتشر الأمراض النفسية في إدلب، بسبب تداعيات الحرب والزلزال، دون أن تَسلم أي فئة عمرية منها، ويزيد في معاناة من أصيبوا بها بقاؤهم دون علاج، بسبب نقص الإمكانات العلاجية والكوادر المتخصصة، إلى جانب وصمة المجتمع الذي يتهمهم بالجنون.

جميلة الداني (23عاماً)، من مدينة “سرمين”، شمالي إدلب، أصيبت بالأمراض النفسية بعد تعرضها لإصابة حربية، وعن ذلك تتحدث لمنصة “مجهر”، قائلة: “في عام 2020، تعرَّضتُ لشظية قذيفة أدت إلى بتر يدي اليسرى، وفقدان الرؤية بإحدى عينيَّ أيضاً، وبعد تلقّي العلاج تحسّنت حالتي الجسدية، لكنني حتى اليوم أعاني من الاضطرابات النفسية”.

وتضيف: “كنت مفعمة بالنشاط والحيوية وأحضّر لتقديم امتحان الثانوية العامة، ولكن بعد الإصابة لم أعد قادرة على العودة لدراستي بسبب العجز من جهة، والخوف من نظرة المجتمع من جهة أخرى”.

وتؤكد أنها تفضّل الوحدة والانعزال عن كل من حولها، فيما تبوح الهالات السوداء تحت عينيها عن الأرق الذي يلازمها منذ سنوات.

والدة “جميلة” تحزن لحال ابنتها التي تغيرت بعد الإصابة، من شابة طموحٍة متميّزة في دراستها، إلى عاجزة منطوٍية على نفسها، شديدة الكآبة، وعن ذلك تقول: “قمت باصطحاب ابنتي إلى وحدة الأمراض النفسية في مدينة “سرمدا”، وقد أكد الطبيب المختص أنها تعاني من مرض “ثنائي القطب” النفسي، ويتميّز هذا الاضطراب بنوبات يكون فيها مزاج الشخص محبطاً مع انخفاض في الطاقة والنشاط، وهو ما يُسمى بـ”الاكتئاب”.

أما الطفل سامر الشيخ مصطفى (8 أعوام) نازح من مدينة “معرة النعمان” إلى قرية “بسنيا”، شمالي إدلب، فيعاني من نوبات هلع وانهيار عصبي منذ وقوع الزلزال وحتى اليوم، وعن ذلك يتحدث والده إبراهيم الشيخ مصطفى (41 عاماً) قائلاً: “انهار منزلنا بفعل الزلزال، وفقدت أحد أبنائي، أما ولدي “سامر” فقد بقي تحت الأنقاض لأكثر من /10/ ساعات، حتى تمكن رجال الإنقاذ والإسعاف من إخراجه، ومنذ ذلك اليوم يعاني من اضطرابات نفسية وصعوبة في النطق”.

ويعترف الأب أن ندرة وجود الأطباء والكوادر المتخصصة دفعه لعرض ولده على السَحَرَةِ بحثاً عن علاج له، لكنه لم يستفد منهم بأي شيء، الأمر الذي دفعه للبحث عبر الإنترنت عن مختص بالصحة النفسية والعقلية، ولا يزال ولده في طور العلاج.

وعن مرض ولده يضيف: “يظهر على ولدي الخوف والشرود الذهني، وبصعوبة شديدة يستطيع إخراج بعض المفردات وتغلب عليها التأتأة، وحين يكون وضعه هادئاً ومستقراً، يبدأ فجأة بالصراخ والبكاء، دون أن نتمكن من تهدئة خوفه إلا بصعوبة بالغة”.

وبحسرة يقول الشيخ مصطفى: “لعل الكبار يستطيعون تحمل الصدمات ويتأقلمون مع واقع الحزن، لكن الأطفال على عكس ذلك، فما يصاحب الكوارث من أهوال، كفيل بزعزعة نفسية الطفل وأمنه مدى الحياة”.

تشاطرهم المعاناة محاسن الجانودي (28 عاماً) من سكان مدينة “جسر الشغور” التي لا تزال تعيش صراعاً داخلياً مع الأفكار الانتحارية منذ مقتل زوجها وولدها بغارة حربية، وعن ذلك تتحدث بالقول: “في ذلك اليوم المشؤوم، اصطحب زوجي معه ولدنا الوحيد البالغ من العمر سنتين إلى السوق لشراء بعض الأغراض، وفجأة سقطت قذيفة على مقربة منهما، وأدت إلى موتهما متأثرين بالجروح البالغة التي أصابتهما”.

وتؤكد أنها تشعر بقلق لا يزول، إلى جانب الحزن الشديد والخوف من المستقبل، وعن ذلك تقول: ” كرهت الحياة، فكيف لي أن أعيش حياة طبيعية بعد أن خسرت زوجي وطفلي، حتى في أحلامي تلازمني الكوابيس، وأستيقظ على الصراخ وأنا أردد أسماء من فقدتهم”.

من جهتها المرشدة النفسية “حياة الأصلان (28 عاماً) من مدينة إدلب تتحدث عن الأمراض النفسية بالقول: “المرض النفسي ليس عيباً، وإنما ابتلاء مثل أي مرض جسدي قد يصيب الإنسان”.

وتشير إلى أن الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، من بطالة وفقر وكثافة سكانية وصعوبة الظروف المعيشية والتفكك الاجتماعي، كلها ساهمت في شيوع وانتشار الأمراض النفسية في إدلب، مؤكدة أن أكثر الأمراض النفسية خطورة هي اضطراب القلق والضغط النفسي الحاد أو الاكتئاب مع نيّة الانتحار، إضافة لاضطراب ثنائي القطب ونوبات الهَوَس الحادة.

وتشير”الأصلان” إلى ضرورة تسليط الضوء على الأهمية الكبيرة للصحة النفسية كحق أساسي من حقوق الإنسان وأنه لا يقل أهمية عن الصحة البدنية، وتؤكد أنه لتحقيق هذه الغاية، يجب رفع مستوى الوعي وتفكيك الوصمة المتأصلة المرتبطة بالمرض النفسي.

وتبين أن وصمة العار الاجتماعية هي جميع السلوكيات والتصرّفات العنصرية ضدّ أشخاص يعانون من مشاكل نفسية، وتتمثل في إلصاق العلامات السلبية عليهم وتصنيفهم على أنهم أقل كفاءة، وهذا يؤدي إلى تجريحهم وإساءة التعامل معهم في المجتمع.

ولفتت إلى أن محاربة الوصمة المجتمعية تكون من خلال الاجتماعات والنشاطات المختلفة التي تساعد المصابين أنفسهم لتقبّل إصابتهم بالمرض النفسي، واتخاذ القرار الحاسم بالحصول على العلاج المناسب والالتزام به.

وقدَّرت دراسة لمنظمة الصحة العالمية، أن شخصاً واحداً من بين كل خمسة أشخاص ممن يعيشون في مناطق متأثرة بالنزاعات يعاني أحد أشكال الاضطراب النفسي، بما فيها القلق والاكتئاب والفصام.

وتتزايد أعداد المصابين بالأمراض النفسية في إدلب، جراء ما عاشه أهلها من فقدان وتشريد، وما اختزنته ذاكرتهم من صور الحرب والزلزال، التي تركت في نفوسهم أثراً بالغاً يرافقهم ويقض مضاجعهم.

زر الذهاب إلى الأعلى