آراء وتحليلات

تاريخ من حكم العسكر.. سوريا بلد التحديات الكبيرة والفرص الضئيلة

محمد محمود بشار

وصل حافظ الأسد قبل خمسة عقود ونيف من الزمن إلى كرسي الحكم عبر فوهات البنادق التي كان يحملها الجيش، فأدخل الانقلاب العسكري الذي تم نعته بـ “الحركة التصحيحية” البلاد في حالة انقسام طائفي وتخلف اقتصادي وتغول للأجهزة الأمنية قل مثيلها في التاريخ الحديث.

سبق مجيئ الأسد الأب إلى السلطة، تاريخ حافل من الانقلابات العسكرية وتعدد الحكام الذين توالوا على كرسي الحكم لعقود من الزمن في سوريا ما قبل الأسد، إلا أن حافظ الأسد ظهر بزي مدني، وغطى شخصيته العسكرية العنيفة بمظهر دبلوماسي هادئ واحتكر كل السلطات لنفسه.

وعلى الرغم من كل الصلاحيات التي منحته القوة المطلقة في الحكم، لم يكن يثق بالدبلوماسية وأناقة الزي المدني، فصب جل اهتمامه بالتموضع داخل المؤسسة العسكرية والأمنية، حيث وجّه أبناءه وأقاربه للانخراط في هاتين المؤسستين. فكان نجله باسل ضابطاً في القوات العسكرية وكان يتقلد الرتب العسكرية بسرعة كبيرة، إلا أن الموت كان أسرع إليه من طموحاته وطموحات والده الذي كان يقوم بتهيئته ليكون ولي العهد والرئيس القادم.

بعد حادثة موت النجل الأكبر في أواسط التسعينات، بدأ حافظ الأسد بفتح الطريق أمام ابنه الثاني وهو بشار الاسد من خلال إدخاله في المؤسسة العسكرية ومنحه الترقية بسرعة فاقت سرعة ترقية باسل في استحصال الرتب العسكرية.

عندما أدرك الموت حافظ الأسد في العاشر من حزيران\يونيو من عام 2000 كان بشار قد ارتقى في الرتب العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق ركن، وهي أعلى رتبة عسكرية كانت موجودة ضمن التشكيلات العسكرية السورية.

وبتعديل دستوري خاطف، تم نحت المواد الدستورية لتناسب الأسد الابن الذي كان يبلغ آنذاك 34 عاما من العمر. بينما كان الدستور ينص على أن عمر الرئيس يجب أن لا يقل عن أربعين عاماً، ولكن بعد التعديل أصبح على مقاس الأبن الذي لم يبدو بأنه كان مفجوعاً بوفاة أبيه، لأن نشوة الجلوس على كرسي الرئاسة كانت أقوى من شعوره بالحزن على موت والده.

تلك النشوة التي رافقت بشار إلى صبيحة الثامن من كانون الأول\ديسمبر من العام الفائت حيث ترك الكرسي بعملية فرار سريعة كانت سرعتها مشابهة تماماُ لسرعة التعديل الدستوري الذي شرعن دستورياً جلوسه على كرسي الرئاسة الذي كان ملتصقاً به لعقدين ونيف من الزمن.

      حكام سوريا الجدد.. عساكر من دون جيش

جاء الحكام الجدد أيضاً عن طريق القوة العسكرية بعد ثورة استمرت أربعة عشر عاماً، صحيح إن عملية التغيير هذه لم تكن انقلاباً عسكرياً، إلا أنها لم تخرج من إطار امتداد حكم العسكر في هذه البلاد التي أرهقها “البوط العسكري” وأذاقها الويلات.

التغيير الذي حصل قبل انتهاء العشر الاوائل من شهر ديسمبر، أظهر هشاشة التركيبة الاجتماعية والانقسام الطائفي الحاد في سوريا.

بينما كان الأسد يحتمي بطائفته العلوية، جاء الحكام الجدد وهم رافعين لراية أهل السنة، فظهرت الحقيقة المرعبة التي تراكم رعبها نتيجة لعقود من حكم آل الأسد العسكري والمستند إلى ولاء الطائفة العلوية تحت غطاء من الشعارات القومية العروبوية والتي كانت بمثابة ذر الرماد في أعين عامة الشعب.

الحكام الجدد ينتمون إلى هيئة تحرير الشام هذه الهيئة التي بدأت بعسكرة مستندة إلى الفكر الجهادي في مقارعة طغيان مؤسسة الأسد العسكرية والأمنية، فأتاحت لهم سنوات الثورة السورية فرصة السيطرة على عدة مناطق سورية في الشمال الغربي مركزها إدلب، حيث أقاموا حكومة تحت مسمى (حكومة الإنقاذ) لإدارة مناطقها. هذه السنوات العديدة من حكم إدلب وماحولها، صقّلت التجربة الإدارية والامنية والعسكرية لهيئة تحرير الشام والتي كانت تحت قيادة الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع الذي كان في تلك الحقبة الزمنية يُعرف باسم أبو محمد الجولاني ويحمل صفة “أمير”.

إلا أن سنوات الحرب في سوريا، أفرزت واقعاً ضم العديد من الأطراف والفصائل العسكرية المختلفة في الايديولوجيات والاجندات والعلاقات والولاءات الخارجية.

في المؤتمر الذي تم عقده بدمشق في 29 كانون الثاني\يناير تحت اسم مؤتمر النصر، أعلنت العديد من الفصائل حل نفسها والاندماج في وزارة الدفاع الجديدة، إلا أن أبرز التحديات أمام الحكام الجدد هي كيفية السيطرة على “عملية الاندماج” التي هي قائمة بالأساس على قرار شكلي من قبل تلك الفصائل التي لديها مناطقها الخاصة والتي هي بالأساس موالية بشكل مطلق لحكام تركيا وهي ترفع العلم التركي وتستخدم العملة التركية وكل اللافتات على المؤسسات الرسمية لديها تتم كتابتها باللغتين التركية والعربية، الأمر الذي يجعل من عملية الاندماج التي تم إقرارها في مؤتمر النصر بدمشق صعبة التطبيق على أرض الواقع في ظل حكم الولاة الأتراك لمناطق سورية عديدة.

      مناطق خارجة عن سيطرة دمشق وجيوش متعددة

في سوريا تطور المشهد العسكري غير الرسمي ليخرج من الحالة الميليشاوية وليدخل حالة فريدة من نوعها حيث باتت كل قوة في منطقتها أقرب إلى جيش كامل متكامل، وذلك لعدة أسباب منها الفترة الزمنية الطويلة التي عاشتها سوريا في الحرب على الأسد وحرب الأسد على الشعب، فأصبح لكل منطقة قواتها الخاصة بها والتي تحميها من شرارة الحرب المستعرة والتي لم ترحم أحداً.

مع التغيير الذي حصل بعد فرار بشار الأسد، عززت كل منطقة من قوتها العسكرية نتيجة لازدياد المخاوف لدى المكونات الأخرى والتي يتم تصنيفها حسب الحالة القانونية والتصنيف العددي بـ “الأقليات”.

الشعب السوري بمختلف أطيافه لديه تجربة مريرة مع حكم العسكر الذي لم يترك سورياً واحداً من دون أن يجعله يتناول جرعات كبيرة للغاية من الذل والإهانة، كانت كافية لتشويه إنسانيته وإبعاده عن الاهتمام بالشأن العام حسب حسابات الطغمة الحاكمة من آل الأسد، حتى بات السوري يشعر بأنه لم يعد ينتمي إلى هذه الدولة الذي ولد وعاش وما يزال يعيش فيها أمام تغول العصابات التي كانت تردد على الدوام وباللهجة السورية: “نحن جماعة الدولة ولاك”.

سوريا اليوم ليس لديها دستور، وليس لديها جيش نظامي، وليس لديها رئيس منتخب، والحكام الجدد يعانون من ماضيهم الذي جعل أغلبية الدول تصنفهم في قوائم الإرهاب وتضع مكافآت مادية بملايين الدولارات لمن يدلو عن أماكن تواجدهم بأي معلومة.

وفي كل دولة كانت المراحل الانتقالية هي الأكثر صعوبة وهذه المرحلة تتسبب اليوم في سوريا بتفاقم المخاوف لدى المكونات السورية غير العربية السنية، لذلك من الصعب جداً أن تتم عملية تسليم السلاح في كل المناطق.

والتحدي الأكبر اليوم أمام الحكام الجدد هو ليس تعدد مناطق النفوذ، بل هو التحدي الاقتصادي وكيفية تحسين مستوى المعيشة للمواطنين السوريين القاطنين في المناطق التي تديرها الإدارة الجديدة برئاسة أحمد الشرع.

فإن استطاع الشرع تقديم انموذج جديد ومغاير للانموذج السابق، وجعل المواطنين السوريين من ذوي الدخل المحدود يستطيعون العيش فوق خط الفقر والعيش نوعا ما برفاهية، وإن تمكن كل الاشخاص والتنظيمات السياسية المختلفة مع توجهات الادارة الجديدة من ممارسة قناعاتهم من دون مضايقات، حينها سيكون للواقع الجديد كلمته التي ستؤثر على المشهد السوري بشكل عام.

ولكن إن كان مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، فهذا يعني أنه بقي من المسافة ألف ميل إلا خطوة، وهذا يدل على أن الطريق مازال طويلاً أمام عبور النفق المظلم.

*كاتب سوري

زر الذهاب إلى الأعلى