آراء وتحليلات

مصداقية الدور الروسي حيال الكرد في سوريا

جميل رشيد

يُعَدُّ التدخُّل الرّوسيّ في سوريّا، نقطةً فارقةً في مسار الأزمة والصراع الدّائر فيها وعليها، إن كان على المستوى السِّياسيّ والعسكريّ، لجهة تغيير موازين القوى، وإعادة تثبيت الدّور الرّوسيّ في منطقة الشَّرق الأوسط، كدولة فاعلة في العديد من الأزمات والصراعات، ووضع قدمها في المياه الدّافئة، بعد أن فقدت مكانتها الدّوليّة إثر انهيار الاتّحاد السّوفياتيّ بداية تسعينات القرن الماضي.

غدت سوريّا ساحة صراع بين روسيّا والولايات المتّحدة الأمريكيّة، وما أطلق عليه “اتّفاق لافروف – كيري” عام 2016، لم يكن سوى تقسيم لمناطق النّفوذ بينهما، فظهر مصطلح “غربيّ الفرات” الخاضع للنُّفوذ الرّوسيّ، و”شرقيّ الفرات” الخاضع للنّفوذ الأمريكيّ.

لم تتعرَّض الخطوط الفاصلة بين الدَّولتين إلى خروقات تُذكر، سوى بعض الاحتكاكات البسيطة أثناء مرور الدَّوريات الرّوسيّة والأمريكيّة في مناطق شمال وشرق سوريّا. فالخطوط السّاخنة بين القيادة العسكريّة في البلدين؛ حافظت على وضعيّة “عدم الاشتباك”، إضافةً إلى التَّنسيق أثناء تحليق الطيران أجواء مناطق نفوذ الطرف الآخر.

شرعت روسيّا في توسيع دائرة نفوذها عبر الإمساك بعدَّة ملفّات سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة، جعلت منها قوَّةً مؤثِّرَةً وصاحبةَ الدَّور الأبرز في الأزمة السُّوريّة، فشكَّلت مسار “أستانا”، وعقدت اتّفاقاتٍ مع تركيّا في سوتشي، فأنشأت مناطق ما تُسمّى بـ”خفض التَّصعيد”، وسمحت لتركيّا لإقامة “نقاط مراقبة” عسكريّة في إدلب، لتكون حصان طروادة في الجغرافيّة السُّوريّة.

نسجت روسيّا علاقاتها مع تركيّا ضمن إستراتيجيّة “استيعابها” وإبعادها عن حلف النّاتو، في مسعى لضمِّها إلى مشروعها “الأوراسيّ”، واعتمادها، مع إيران، ركناً أساسيّاً فيه، فعقدت ضمن اجتماعات سوتشي اتّفاقات وتفاهمات مع تركيّا، كان من أبرزها السَّماح لها بغزو منطقة عفرين، ومن ثُمَّ منطقتي سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض.

لم تبدِ روسيّا أيَّ مقاربات إيجابيّة من الكُرد وحقوقهم في سوريّا منذ تدخُّلها في الأزمة السُّوريّة عام 2015، بل اتَّسمت مواقفها بالممالأة للحكومة السُّوريّة، عبر محاولة بسط نفوذها في المناطق التي حرَّرها الكُرد وشركاؤهم من الإرهاب؛ والاختباء تحت عباءة “شرعيّة الدّولة السُّوريّة”، دون أيِّ اعتبار للحقوق السِّياسيّة لمكوّنات المنطقة.

الخطاب الرّوسيّ تجاه الكُرد حَمَلَ تناقضاتٍ كثيرة، ولم تَغِب عنه البراغماتيّة المفرطة والمكشوفة في التّناغم مع الموقف التركيّ، وفتح المجال أمامها لتتمدَّد في جغرافيّة روج آفا وسوريّا، دون أن يَدُر في خلدها أيُّ حسابٍ لسيادة سوريّا كدولة، ولدور الكُرد وثقلهم السِّياسيّ في معادلة الحَلِّ السُّوريّة.

ازدواجيّة المواقف الرّوسيّة في التَّعامل مع الكُرد، انعكست على فقدانها المصداقيّة داخل المجتمع السُّوريّ. فرغم الزِّيارات المتكرِّرة لوفود من الإدارة الذّاتيّة ومجلس سوريّا الدّيمقراطيّة للعاصمة الرّوسيّة، إلا أنَّها لم تتمخَّض عن نتائج ملموسة ولم تغيّر من موازين القوى على الأرض. على العكس؛ حاولت روسيّا مراراً، وفي أكثر من مناسبة لَيّ ذراع الإدارة الذّاتيّة لصالح كُلٍّ من تركيّا والحكومة السُّوريّة، دون أيِّ اعتبارٍ لمطالبها.

لم تلعب روسيّا دورَ الوسيط النزيه في المفاوضات والحوار بين الإدارة الذّاتيّة وحكومة دمشق في يوم من الأيّام، رغم أنَّ الإدارة فتحت لها المجال للعب هذا الدّور في إطلاق حوار جدّيٍّ يفضي إلى تفاهمات واتّفاقات بين الطرفين.

روسيّا تفاضل بين مصالحها في سوريّا وحقوق الكُرد، فاتّخذت سياسات ومواقف مضادَّة ومتنكِّرة لحقوق الكُرد، وكأنَّ التّاريخ يُعيدُ نفسه مَرَّةً أخرى، ولكن بأشكالٍ مُغايرة، فالمسألة لها جذورها التّاريخيّة القديمة، حيث ساهم الاتّحاد السّوفياتيّ السّابق في تشكيل جمهوريّة كردستان “مهاباد” عام 1946، وكذلك كان السَّبب في انهيارها أيضاً، عندما فضَّلت مصالحها “كدولة” مع شاه إيران على حقوق شعبٍ يسعى نحو حُرّيّته.

المباحثات التي أجراها وفد الإدارة مع المسؤولين الرّوس في موسكو خلال زياراته المتكرّرة لها؛ كشفت عن حقيقة المواقف الرّوسيّة، عندما طالب وزير الدِّفاع الرّوسيّ “سيرغي شويغو” بتسليم جميع مناطق الإدارة الذّاتيّة إلى الحكومة السُّوريّة، دون قيد أو شرط، وهو ما كان موضِعَ امتعاض ومفاجأة بالنِّسبة لوفد الإدارة.

قدَّمت الإدارة عام 2019 مقترحاً مؤلَّفاً من عشرة بنود إلى الرّوس، للعب دور الوسيط في الحوار بينها وبين الحكومة السُّوريّة، إلا أنَّ روسيّا تجاهلت المُقترح، ولم تسعَ بشكل جدّيٍّ إلى إطلاق حوار بين الطرفين، رغم أنَّ الإدارة سمحت بانتشار قوّات الحكومة السُّوريّة وكذلك الرّوسيّة في مناطق شمال وشرق سوريّا.

أدلى عضو وفد الإدارة الذّاتيّة إلى موسكو “سيهانوك ديبو” في إحدى زياراته بتصريحٍ هامٍ، عقب اجتماعه مع وزير الخارجيّة الرّوسيّ لافروف، حيث صَرَّحَ بأنَّ “موسكو كشفت خلال مباحثاتهم معها عن مسألتين أساسيّتين: أوَّلها اعترافها أنَّ تركيّا شنَّت العدوان على عفرين بعلمها، وثانيها؛ أنَّ تركيّا وقَّعت معها على تعهُّدات تضمن بقاءها في سوريّا لفترة محدودة، يعقبها انسحاب من جميع المناطق التي دخلت إليها”.

يُفهم من التَّصريح أنَّ روسيّا وقَّعت على اتِّفاقيّاتٍ وتفاهماتٍ سُرّيّةٍ مع تركيّا، لتستخدمها ورقةَ ضغطٍ ضُدَّها حالما وجدت أنَّها انحازت إلى الولايات المتّحدة والحلف الأطلسيّ.

لم تطرح روسيّا إلى الآن رؤية واضحة بخصوص حَلِّ القضيّة الكُرديّة في سوريّا، رغم التَّصريحات المتباينة التي تصدر بين فترة وأخرى عن بعض المسؤولين الرّوس، بضرورة إشراك الكُرد في مفاوضات الحَلِّ السُّوريّة بجنيف واللّجنة الدّستوريّة، إلا أنَّها لم تبادر بشكل فعّال إلى تمثيل الكُرد والإدارة الذّاتيّة في هيئات المعارضة، نزولاً عند رغبة تركيّا في تهميش الكُرد وإبعادهم عن معادلات الحَلِّ السُّوريّة النِّهائيّة.

فرغم أنَّ الولايات المتّحدة أيضاً لم تساهم بشكل قويّ في دعم تمثيلٍ كُرديٍّ في هياكل المعارضة، إلا أنَّها – على الأقلّ – شاركت في دعم الحوار الكُرديّ – الكُرديّ، ودعم قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، فيما عملت روسيّا على تقويض الإدارة الذّاتيّة ودورها في الحفاظ على الأمن والاستقرار في مناطقها، كما اتَّهمت الكُرد والإدارة الذّاتيّة بتهم “الانفصال والسعي إلى تقسيم سوريّا”، محاولة أن تجعل من الكُرد كبش فداء في صراعها مع الولايات المتّحدة، رغم أنَّ الكُرد اتَّخذوا مواقف محايدة من الصراع بين القوَّتين العظميّين، الولايات المتّحدة وروسيّا.

فإنْ كانت روسيّا راغبة في إعادة سوريّا إلى وضعها الطبيعيّ ولتتعافى من الحرب وأزمتها المستمرّة منذ أكثر من أحد عشر عاماً؛ يتوجَّب عليها بالدَّرجة الأولى إبداء مقاربات إيجابيّة من الكُرد وحقوقهم في سوريّا المستقبل، عبر التَّفاهم مع الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، وتجنّب السَّير وراء السياسات التُّركيّة المعادية لتطلُّعاتِ الكُرد، خاصَّةً بعد أن ثَبُتَ أنَّ الكُرد عنصرٌ وازنٌ في سوريّا، ودفعوا أكلافاً باهظة في محاربة الإرهاب والحفاظ على استقرار مناطقهم، وهو نضالٌ في المحصِّلَةِ يصبُّ في حماية سوريّا من التَّقسيم.

ما حصل من تفاهمات سُرّيّة في قِمَّةِ طهران الأخيرة، وكذلك في لقاء سوتشي بين الرَّئيسين الرّوسيّ والتركيّ، يُضعف من مصداقيّة روسيّا، ويضعها في موقع المُشارك مع تركيّا في استهداف الكُرد والإدارة الذّاتيّة، بعد أن تبيَّنَ أنَّها أطلقت يد أردوغان في شَنِّ اعتداءاته اليوميّة عبر الطيران المُسيَّر والأسلحة الثَّقيلة على مناطق شمال وشرق سوريّا، وهو موقف غير لائق بدولة عظمى تسعى إلى تغيير معادلات التَّوازن العالميّة.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها..

زر الذهاب إلى الأعلى