آراء وتحليلات

انتخابات الإدارة المحلية: البعث يغنّي للبعث!

أيمن الشوفي

تَبُثُّ السلطة صوتها مجدداً على موجة “الاستئناس الحزبي” وهي تعيد تشكيل نفسها في أسفل سلّم السلطة التنفيذية، هناك حيث تقبع مجالس إدارات المدن والبلدات والأحياء. لا تريد التفريط ولو بنزرٍ يسيرٍ من مكوناتها ومكاسبها البراغماتية التي تتزيّن بها أمام أعين الناس في المناطق التي تسيطر عليها. لقد قهرت السلطة المجتمع مجدّداً في انتخابات الإدارة المحلية التي جرت مؤخراً، مستعينةً تارةً بصوت “مروان محفوظ” وهو يغنّي: “ودّي المراكب عل المينا، وقود السفينة يا معلم”، وتارةً أخرى بصوت “دلال شمالي” وهي تغني: “من قاسيون أطلُّ يا وطني!”.   

فلم يكن سهلاً إذاً تبديل هوية الفائزين مسبقاً بمشيئة الحزب الحاكم وبموجب غريزته الاستئناسيّة، ليكون اختراق قوائم السلطة أمراً شبه مستحيل، مع رصدِ إحجامٍ واسعٍ عن المشاركة بالتصويت والاقتراع. لقد تلكّأت أصوات الناس عن قصد، وتجنّبت الارتطام بمطبّات صناديق الاقتراع، فهم يعلمون بأن لا طائل من مشاركتهم، لذا يتركون شؤون الحزب للحزب، ويختارون الاستئناس بإفلاسهم السياسي، فذاك شعارهم الذي يشبههم وهم يردّدونه كل صباح.

ردّاً على الاستئناس البعثيّ!

لم تغب لَعنةُ البعث عن حياة السوريين، بالرغم من أن الدستور الحالي للبلاد كان قد جرّد الحزب الحاكم من “فضيلة” قيادة الدولة والمجتمع، غير أنه كان تعديلاً شكلياً على دستور تُعيد السلطة الحاكمة من خلاله إنتاج نفسها بلا ريب، وهذه المرّة غزت بقوائم رفاقها البعثيين أسفل هرم اتصالها مع الناس بصورة مباشرة، أي مجالس إدارة البلديات في المدن والقرى والأحياء، ولم يخجل وزير الإدارة المحلية في حكومة دمشق “حسين مخلوف” من دعوة السوريين خارج البلاد إلى العودة والمشاركة في انتخابات الإدارة المحلية، ودعاهم أيضاً إلى المساهمة بإعادة الإعمار. فعل كل ذلك بلا مشقَّةٍ، فلم يبتسم خلال تصريحه، ولم تظهر على قَسَمات وجهه دلائل النُّكتة والتَّهريج، دعوةٌ جديّةٌ منه، أضحكت السوريين في الخارج بإسهاب شديد، كما جعلت من هم في الداخل يتحسرون لأنهم لم يخرجوا بعد ليضحكوا مطوّلاً.

أيضاً لم يفوّت الأمين العام المساعد لحزب البعث “هلال الهلال” فرصة إلقاء النِّكات المتّقدة على الرأي العام، فقال: “إن إقامة انتخابات الإدارة المحلية في موعدها؛ ما هو إلا انتصارٌ حتميٌّ على كل الدول المعادية، وصفعةٌ قويّة للذين تآمروا علينا!”. مثل هذه النِّكات السياسية تعجب عموم السوريين، معارضين كانوا لنظام دمشق أم موالين، يضحكون ويشاركون النُّكتة على مواقع تواصلهم الاجتماعي، فهذا استئناس اجتماعي جرى اشتقاقه أصولاً من الاستئناس البعثيّ، فكلٌّ يستأنس على ليلاه!

تلك الانتخابات وجدها العديد من قيادات البعث أيضاً فرصةً للكسب الماديّ المتبجّح، والتَّطاول على معاناة الناس حيث من المفترض أن يخدموهم إن فازوا، فلم يجدوا ضيراً من إشهار نواياهم تلك بكل البراءة التي يمكن تخيّلها، إذ طلب عضو اللجنة المركزية في حزب البعث “حسن الأطرش” تخصيص ألفي ليتر من البنزين لمرشحي الانتخابات، بغية إكمال مسيرة دعايتهم الانتخابية! وهي المكتملةُ قبل أن تبدأ أصلاً! والمضمونةُ بلا أدنى الشكوك!

حراكٌ ضُدَّ الانتخابات واستئناساتها!

عقب الانتخابات مباشرةً قطع محتجّون في بلدة “حزم” التي تفصل ريف السويداء عن ريف دمشق، الطريق الدولي؛ ردّاً على إمعان سلطة النظام بالتنصّل من دورها الاجتماعي الاقتصادي، ورفد المحافظة بإجحافٍ متنامٍ ومستمرٍّ من رداءة الخدمات، بل ومن عدم تأمين حدّها الأدنى. وبالتزامن مع ذاك الحراك؛ قام محتجّون آخرون بإشعال الإطارات على الطريق المحوري داخل المدينة، كل هذا ولم يهنأ بعد الفائزون بالانتخابات البلدية بموجب وصفة الاستئناس الحزبي بمناصبهم الجديدة، بحيث تجاوزت نسبة مرشحي البعث 85 بالمئة من إجمالي المرشحين، وأغلب مجالس البلديات تشكلت من بعثيين بقوائمَ وصلت كاملة إلى مبتغاها الختامي، هناك فقط بإمكانها ترديد الشعار البهيّ، وإغلاق الباب وراءها بهدوءٍ مبالَغٍ فيه وبلا خجل، وهذا الذي اعتادت فعله كلّ حين.

واللافت أن مظاهرَ من صحوةٍ اجتماعية سادت في بعض أجزاء ريف السويداء، أقلّها اتّفق على مقاطعة الانتخابات، وبعضها قرر منع إجرائها بالقوة كما حدث في قرية “الجنينة” شمال شرق السويداء، حيث أغلق الأهالي هناك مركزين انتخابيين، بالإضافة إلى إغلاقهم مقرّ الفرقة الحزبيّة. فحياة الناس المتشبّثة بالرَّداءة تُعفيهم من تصديق وصايا السلطة المنطوقة بألسنة أزلامها وتابعيها المخلصين، كما وتجيز للناس شرعاً عدم حضور المزيد من عروض السلطة المسرحية، وما انتخابات الإدارة المحليّة إلا أحدثها، وأكثرها مقدرة على إتلاف ما تبقّى من رصيدٍ للسلطة لدى آخر حفنةٍ من مصدِّقيها، أولئك الذين ما زال بمقدورهم تصديق الغدّ والاستئناس به، تماماً مثلما يفعل حزب البعث في كل مرة يزّور فيها الواقع والتاريخ على هواه ويستأنس بفعلته تلك، ثم يترك لنا حريّة الاستئناس فقط، لكنه يحرّم علينا تكذيبه في كلّ ما يفعل ويقول، وما سيفعل ويقول!.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر وجهة نظر كتّابها..

زر الذهاب إلى الأعلى