آراء وتحليلات

استحقاقات المصالحة مع سوريا تركياً

محمد عيسى

في لحظة تاريخية نادرة وذات دلالة؛ يجد نفسه فريق الدول المنخرطة في محور ما سمي بـ”أستانا”، وهو يكابد مجتمعاً مآزق وحروباً ومعضلات تكاد تكون حاسمة ومصيرية. ففيما تواجه روسيا ظروف حرب خرجت على كل الحسابات والتقديرات، وهي مع دخولها شهرها الثامن لا تظهر أية بارقة أمل بحصول نهاية سعيدة حولها. والأمر نفسه يجري على الضفّة الإيرانية حيث تندلع ثورة اجتماعية في عموم المدن والمناطق الإيرانية، تنخرط فيها كافة المكونات والأعراق، يقودها الشباب وطلبة الجامعات وتلعب المرأة فيها دوراً بارزاً. في هذا الجو المتلبّد بالغيوم والاحتقانات؛ يستيقظ الطرف التركي من هلعِ كابوسٍ مخيفٍ، وهو الذي يعرف ما صنعت يداه ويدرك حجم ضلوعه في مشاكل المنطقة.

تركيا التي لم تُبقِ لها صديقاً من دول الجوار، ولم توفّر في تهديداتها حتى شركاءها في الأطلسي، حين يذهب رئيسها أردوغان بالقول إلى اليونانيين “سنأتيكم من حيث لا تحتسبون!”. أردوغان والسياسة التركية بعامة لم تكن غير صنوِ السياسة الإيرانية أو يزيد في العداء مع مصالح شعبها، وفي التضاد مع إرادة شعوب المنطقة جراء مشروعها في “أخونة” المحيط وإحياء أحلام الخلافة، ما أدى إلى تحويل المنطقة العربية وسوريا خاصة إلى مرتَعٍ لمنظمات الإسلام السياسي الإرهابية، وإلى منطقة أزمات ومنابع لهجرة السكان، ثم بلاداً تصعب الحياة فيها، ويكاد يكون ضرب من الجنون البقاء فيها بهذه الشروط والظروف، ما عرَّضَ بدوره ويُعرِّضُ الاستقرار والأمن الدولي إلى مخاطر جمّة.

تركيا التي تراقب بقلق بالغ لوحة الصراع الدولي وآفاقه واحتمال انتقال عدوى الثورات الاجتماعية إليها، وبالتالي تفجر أزمات المجتمع والواقع التركي الذي أصبح على مرمى حجر من الانتخابات البرلمانية والرئاسية.

وثمة ما يشبه الانقلاب بعد الآن، بل انقلاب جدي، يطال هذه المرة كل الأطقم الممسكة بالملف السوري في دوائر صنع القرار التركي. وبحسب كلام منشور في صحيفة “الشرق الأوسط” وأيدته صحيفة “الوطن” السورية الموالية لاحقاً؛ فإنه قد تم تبديل عشرة بعثات دبلوماسية وموظفين كبار في الخارجية التركية، من بينهم نائب وزير الخارجية والمسؤول الأول عن الملف السوري “سادات أونال”، والذي عُيّنَ سفيراً دائما لبلاده في منظمة الأمم المتحدة”، و”علاء أوزون” الذي عين سفيراً لدى الأردن في العاصمة عمان، وموظفاً كبيراً آخر قد عين سفيراً في لاهاي بهولندا. وهكذا يتوج أردوغان كلامه السابق “لو حضر الأسد إلى سمرقند لكنت التقيته”، ثم قوله “سألتقي الأسد عندما تكون الظروف مناسبة، وعندما يكون الفريق الأمني قد توصل إلى حلول حول المسائل التي يجري التفاوض حولها”.

ومما يجدر ذكره أن القضايا الخلافية والتي جرى التفاوض حولها بين الطرفين التركي والسوري، قد تمت حتى الآن على مستوى الوفدين الأمنيين برئاسة “علي مملوك” و”حقّان فيدان”، وقد تركزت مطالب الجانب السوري بإعادة إدلب والمعابر، وسحب القوات التركية من جميع الأراضي السورية، مع وقف دعم الإرهابيين ووضع الطريق الدولي (M4) تحت سيطرة السلطات السورية، مع تعهد أنقرة بدعم مطالب السوريين برفع العقوبات في المحافل الدولية.

في الوقت هبَّت فيه المطالب التركية إلى المطالبة بضرورة تطهير الأراضي السورية من المنظمات الإرهابية، وهو تعبير يقصد فيه قوات سوريا الديمقراطية، والانخراط في عملية سياسية تؤدي إلى دمج سياسي وعسكري لقوى المعارضة في مؤسسات الدولة والجيش، مع عودة اللاجئين إلى مناطق التوطين الحدودية التي تزمع أنقرة إنشاءها.

وإلى ذلك يقول متابعون إن التطور الحاصل في العلاقات التركية قد جاء ثمرة لجهود وساطة مكثفة بذلتها وفود من “حزب الوطن التركي” زارت دمشق، وكانت آخر زيارة تضم وفداً برئاسة نائب رئيس الحزب.

وتقول تقارير لمهتمين على اطلاع بالشأن التركي، إن نجاحاً مهماً لجهود المصالحة قد تحقق، بدليل حجم التغيير في أطقم المعنيين بالملف وانتماءاتهم، حيث من اللافت أن الفريق القديم كان من المتشددين في حزب العدالة والتنمية ومن المقرّبين من تنظيم الإخوان المسلمين، فيما جاء الفريق الجديد من أوساط الاستخبارات التركية ومن الأكثر ميلاً لتأييد خطوات أردوغان.

لكن الجديد في كل ذلك وما يسترعي الانتباه؛ هو الموقف السوري المرحِّب، والذي جاء في عنوان جريدة “الوطن” السورية الموالية، والذي يقول “تغيير مهم، وفريق جديد، ذو ذهنية جديدة، وذات مغزى”، وتذهب لتوضِّح “تغيير يخدم أجندات انتخابية وسياسية واقتصادية وجيوإستراتيجية”.

وفي الكلام الآنف الذكر، والذي تشير فيه “الوطن” إلى أن هذا التغيير يخدم أجندات انتخابية ثم سياسية ودوافع أخرى، إنما تريد أن ترسم خط رجعة، ويعكس الكثير من الشكوك الضمنية وعدم اليقين. فهو وإن حمل ترحيباً بصيغته العامة، إنما يخبئ الكثير من الهواجس. وأياً تكن السكة التي تجري عليها عمليات التقارب؛ فإنه من الصعب التيقّن بأن قطار المصالحة سيصل إلى محطته الأخيرة. ولأن التركي قد غدر قبل ذلك، ثم لأنها لم تأتِ – أي المصالحة – في سياق تطور منطقي أو نُضجٍ كافٍ للأحداث وفيها من برود الحدث ما يجعلها أشبه بعقد قران مع ابنة العم أو الخال في ظروف انعدام الحب وغياب الوشائج. نعم هي أقرب إلى أن تكون زواجاً قسرياً والطلاق فيه خاتمة حتمية، وليست، ولن تكون، غير طبخة غير مستحبّة استهوى طعمها الحليف الروسي والإيراني في محور “أستانا”.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتابها..

زر الذهاب إلى الأعلى