تقارير

سوق المهن اليدوية بدمشق.. آخر أسواق الحرف اليدوية المهددة بالاندثار بسبب قرار حكومي

يحاول العم منصور إغلاق محلّه للمرّة الأخيرة دون أن يبكي لكنّه يفشل، فالمحال في سوق الأعمال الحرفية أكثر من مجرّد محال تجارية لعرض البضائع، إذ تعتبر الأعمال الحرفية اليدوية من آخر ملامح دمشق القديمة وحافظة لتراثها، ويعتبرها العم منصور مثل بقية زملائه في المهنة شغفٌ وتاريخٌ متوارثٌ من الواجب الحفاظ عليه، غير أن لمحافظة دمشق رأيٌ آخر.

يمسك العم منصور قرار المحافظة بترميم سوق الأعمال الحرفية في “التكية الدمشقية” بيدٍ مرتجفة وغصةٍ كبيرة ويقول لنصة مجهر: ” هذا ليس فقط رزقي، هذا تاريخي وتاريخ أجدادي وهذا المحل بيتي، فكيف أخليه، ولأجل ماذا!؟”.

وكانت وزارة السياحة في الحكومة السورية، وجهت إنذارات بإخلاء المحال والورش في سوق التكية السليمانية خلال مدة أقصاها شهرين، “للبدء بمشروع ترميم، قد يستمر لنحو سنتين”، ما يعني اضطرار أصحاب الورش للبحث عن أماكن بديلة للاستمرار في عملهم.

ويتخوف التجار من المماطلة بأعمال الترميم لإجبارهم على مغادرة التكية من دون رجعة، بعد رفض مقترح مساعدتهم بإجراء إصلاحات بسيطة، وإصرار الوزارة على إخلاء جميع المحال بموجب إنذارات وجهتها للتجار والحرفيين.

يعمل العم منصور في محلّه للمصوغات الشرقية منذ عشرين عاماً، بعد أن عمل فيه والده لمدة ٣٠ عاماً كاملةً ويشرح كيف كان يأتي مع والده إلى هذه السوق في بداياتها، حيث بقي أصحاب المهن الحرفية لا يستطيعون البيع لمدّة سنةٍ كاملة بسبب سوء البنية التحتية لهذه السوق، ويشرح للمجهر كيف أقنعتهم المحافظة بالاستثمار عن طريق تقديم الكثير من المميزات والصلاحيات حينها.

أما العم أبو فراس، فهو من أواخر “شيوخ الكار” كما يسمونه اصحاب المحال في المنطقة، في صناعة النسيج اليدوي على النول، ويكافح لإنقاذ حرفته واستمراريتها أمام التقدم التكنلوجي والتعقيدات المتزايدة، ويستمر على قطعته النسيجية رغم معرفته بقرار الإخلاء العاجل، ويقول: “إن توقفي الآن يتوجّب تقطيع الخيطان التي بدأت النسج فيها، وهذا يعني تلفها وبالتالي خسارتي لملايين الليرات”.

ويضيف: “لم يبق في دمشق غيرنا، انقرضت مهنة النسج اليدوي من حلب وبقي شيخي كار في حمص وشيخ كار واحد في حماة، وهاهم يساهمون في دثر هذا التراث نهائياً”.

يذكر أن سوق المهن الحرفية في دمشق هو آخر الأسواق المختصة بالتراث المادي الدمشقي والحرف اليدوية، استثمرها الحرفيون من مختلف المحافظات السورية وبنوا فيها إرثاً يمتّد إلى خمسين سنة من العمل اليدوي الذي حفظ تاريخ وإرث البلاد طيلة الفترة الماضية، حيث تعتبر معلماً سياحياً مميزاً في دمشق.

وبحسب إحصائيات حكومية، يتراوح عدد الورش اليدوية بين 30 إلى 35 ورشة، تضم مهناً تراثية مهددة بالاندثار، مثل البروكار والسجاد اليدوي ومصنع الزجاج وحرفيي النحت على الخشب والنحاس، بالإضافة إلى الجلديات، وهي ورش تعيل ما لا يقل عن 250 عائلة.

ومنذ سنوات، تصل إلى أصحاب المحال بلاغاتٌ غير جدية حول إمكانية ترميم التكيّة لم تؤخذ على محمل الجد لتكرارها وكونها لم تتعد الإشاعات والتقويلات، غير أنهم استقبلو هذه المرة بلاغاً مستعجلاً يقضي بإخلائهم المستعجل لمحالهم قبل نهاية السنة، مما سبب موجة غضب عارمة والكثير من الحزن وخيبات الأمل لأصحاب المحال ولكل الأشخاص العارفين لتاريخ هذه التكية والحريصين على تراث دمشق الذي يتعرّض للتشويه والخطر بالزوال.

 وعلى حسب المصوّغاتي أبو حسام والذي ورث المهنة والمحل عن والده: “فإن العقود بين وزارة السياحة والمستثمرين من الحرفيين كانت سابقاً مرضية للطرفين تقتضي تصريح اللجوء إلى المحاكم المختصة عند تقصير أحد الطرفين أو الإخلال بأحد بنود العقد، غير أنها تحوّرت عبر السنين لتتحول إلى عقود إخضاع تسمح للوزارة بإخلاء المحال متى أرادت، ويقول: “عندما بدأنا العمل هنا كان بإمكاننا شراء محلات أخرى في أفخم مناطق دمشق غير أننا  انخدعنا بالمميزات البتي اعتقدنا بأننا سنحصل عليها، واليوم بعد خمسين عاماً من الجهد والعمل يقولون لنا أنهم استقبلونا بما يكفي، والآن يطلبون منا الرحيل دون تعويضٍ أو شكرٍ على الأقل!”.

بينما من جهته لم يرض رئيس لجنة السوق مقابلة مراسلة مجهر، واكتفى بقوله: ” كلنا مع الترميم، وهذا مطلبنا قبل مطلب وزارة السياحة ونحن ندعم تماماً أي إصلاح في سوريا، أما عني فقد أصدرت بياناً على صفحتي على فيسبوك أوضحت فيه امتناعي عن أي تصريح صحفي حتى للإعلام الوطني حتى لا يتم اقتطاع أجزاء منه والتلاعب بها لتبدو وكأننا نعارض الترميم، كما سنلاحق أي شخص يكتب أو يدلو بتصريحٍ عن الترميم بعد الآن”.

وتقول مراسلة مجهر “التقيت معظم أصحاب المحال الذين أجمعوا بغالبيتهم على نفس الجملة باللهجة الشامية (نحن ما منسترجي نحكي شي، روحوا شوفوا رئيس لجنة السوق)، في حين لم يبدو على أحدٍ الموافقة على ما يحصل، خاصّة بعد أن اجتمعوا جميعاً مع وزير السياحة على أملٍ بسيطٍ بالتراجع عن هذا القرار انتهى كعادة هذا النوع من الاجتماعات بالكثير من الوعود غير القابلة للتحقيق ودون أي كلمة حاسمة”.

وتعكس سوق الحرف اليدوية في التكيّة السليمانية بدمشق جزءاً مهماً من تاريخ سوريا.

إعداد التقرير: أورنينا سعيد

زر الذهاب إلى الأعلى