آراء وتحليلات

تصريحات “أوغلو” والاستدارة نحو النظام السوري.. هل يكتب لها النجاح؟

جميل رشيد   

تَصريحاتٌ لافتةٌ وغريبةٌ، نوعاً ما، صدرت عن وزير الخارجيّة التُّركيّ مولود جاويش أوغلو يوم الأربعاء الماضي، بإعلانه تقديم بلاده الدَّعم للنِّظام السُّوريّ في تصفية قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة والإدارة الذّاتيّة.

يبدو للوهلة الأولى أنَّ الوزير فاجأ الأوساط السِّياسيّة والإعلاميّة، إلا أنَّه لم يأتِ بجديدٍ قطّ. فالنِّظامان السُّوريّ والتُّركيّ، أعلنا، ولمرّات عديدة، عن وجود اتّصالات مباشرة بينهما، بل أكَّدا أنَّها لم تنقطع في يومٍ من الأيّام، إن كان على المستوى الاستخباراتيّ أو السِّياسيّ. فعِدَّةُ لقاءات جمعت رئيس الأمن الوطنيّ السُّوريّ علي مملوك وحقّان فيدان رئيس الاستخبارات التُّركيّة “الميت”، آخرها كان بموسكو في إبريل/ نيسان الماضي.

تصريح أوغلو جاء في سياق فشل تركيّ ذريعٍ – إلى الآن – في استحصال موافقة روسيّة وأمريكيّة على شَنِّ عدوانٍ جديدٍ على مناطق شمال وشرق سوريّا. الرَدُّ الإيرانيّ والرّوسيّ في قِمَّةِ طهران الأخيرة، شكَّلَ صاعقة للرَّئيس التُّركيّ، بعد أن وضع كُلَّ آماله فيها. فالمرشد الإيرانيّ خامنئي وضع الخطوط الحمراء أمام أردوغان، ما جعله يرتَدُّ على نفسه، ويعمد إلى اتِّباع أسلوبه القديم – الجديد المعهود في الاستدارة نحو اللّجوء إلى التوسُّل والمراوغة، وتقديم شتّى أنواع التَّنازلات لخصومه “المفترَضين”، بهدف تصفية القضيّة الكُرديّة في روج آفا وسوريّا، بعد أن حقَّقَ الكُرد مكاسِبَ لا بأسَ بها خلال السَّنوات العشر الماضية.

تتمحور السِّياسات التُّركيّة الخارجيّة والدّاخليّة حول نقطة مركزيّة واحدة؛ عدم تمكين الكُرد من نيل حقوقهم المشروعة في أيِّ جزء من وطنهم كُردستان، فهي لا تتورَّع عن استخدام قوَّتها المُفرِطة ضُدَّهم، ولو ترتَّبَ على ذلك ارتكاب مجازر جماعيّة، على غرار ما تنفِّذُه من اعتداءات وهجمات ضُدَّ روج آفا وشمال وشرق سوريّا.

إنَّ مدى نجاح سياسات تركيّا في سوريّا من عدمها؛ مرهونٌ بدرجة استجابة النِّظام السُّوريّ للرَّغبات التُّركيّة في تصفية النِّضال الوطنيّ الكُرديّ في سوريّا، ومن خلالها تسعى لتوجيه ضربة قاضية للإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة. التوجُّهُ التُّركيّ في إبداء مقارباتِ تودُّدٍ من النِّظام السُّوريّ، يقابلها شروط سوريّة، أقَلُّها تصفية المرتزقة المرتبطين بتركيّا حتّى النُّخاع، ممن تستخدمهم رأس حربة في مُجمل صراعاتها في سوريّا والمنطقة. والنِّظام التُّركيّ الذي يَمُرُّ بأزمة داخليّة خانقة، وبعد أن بنى معظم سياساته الخارجيّة على التدخّل السّافر الاحتلالي في سوريّا عبر مرتزقته، بدءاً من إرهابيّي “الجيش الوطنيّ السُّوريّ وهيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة سابقاً” وتنظيم “داعش”، وبحكم بنيته الإسلامويّة المُتطرِّفة والإرهابيّة، غير قادِرٍ على فَكِّ العلاقة والارتباط مع تلك الجماعات الإرهابيّة، التي حوّلت الأراضي السُّوريّة إلى مرتَعٍ للاحتلال، بدءاً من إدلب وعفرين وجميع المناطق المحتلّة من قبلها. فأيُّ مقايضة ومساومة بين النِّظامين أو أيُّ اتِّفاق في الغرف المظلمة، إن افترضنا حصوله؛ مرتبطٌ بمدى تنفيذ الآخر لشروط الأوَّل، وهي معادلة لا يستوي طرفاها مع موازين القوى على الأرض.

لم يَعُدْ خافياً على أحد أنَّ المغازلة التُّركيّة للنِّظام السُّوريّ وتجاوبه إيجابيّاً مع تصريح الوزير التُّركيّ، وإنْ كُتِبَ له ذلك؛ فإنَّه حتماً سيمرُّ عبر الموافقة الرّوسيّة والإيرانية، من منطلق فهم أبعاد نفوذ الدَّولتين الواسع على الجغرافيا السُّوريّة وعدم استطاعة تركيّا وكذلك النِّظام السُّوريّ تجاوزهما في أيِّ حال من الأحوال. ولا يمكن لتركيّا التي فشلت فشلاً ذريعاً في قِمَّةِ طهران، أن تستعيضَ ما لم تنله هناك عبر استمالة النِّظام السُّوريّ لتنفيذ رغباته، وبأيدي السُّوريّين.

قُدرة النِّظام السُّوريّ ومساحة المناورة لديه تبدو أوسع ممّا يتوقَّعها البعض السُذَّج والأتراك، نظراً للدَّعم اللا محدود من حلفائه إيران وروسيّا. فهو قادرٌ على امتصاص الرَّغبة التُّركيّة، بعد أن تبيَّنَ أنَّ الأخيرة أضعف ممّا يُتصوَّر، فضلاً عن أنَّ النِّظام السُّوريّ، مدفوعاً برغبة وطنيّة صَرفة، من غير المتوقَّع أن يُدخِلَ نفسه في صراعات هامشيّة مع الكُرد والإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، لطالما أنَّه يدرك تماماً أنَّ الأخيرة مدعومةٌ من الولايات المتَّحدة، وبالتّالي أيُّ مواجهة معها تعني الاصطدام مع أمريكا، وهي بغنى عن فتح جبهات صراع جديدة على نفسها.

على النَّقيض من ذلك؛ من المُفترَض أن يبادر النِّظام السُّوريّ إلى إبداء موقف وطنيٍّ جريء، يتجاوز في أبعاده السِّياسيّة والأخلاقية الدَّعوات التُّركيّة، ويَعمد إلى فتح قنوات التَّواصل والحوار مع الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، بعد أن غدت رقماً صعباً في معادلة حَلِّ الأزمة السُّوريّة، وهو ما تبيَّنَ أنَّ الخطوات الأولى نحو إيجاد توافقات ونقاط التقاء بينهما قد بدئ بها في الآونة الأخيرة، وبدعمٍ روسيٍّ.

التَّفاهمات العسكريّة بين قوّات النِّظام السُّوريّ وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة خلال الأيّام الماضية والتَّصريحات الإيجابيّة الصادرة من الطرفين، وانتشار قوّات الجيش السُّوريّ في مناطق شمال وشرق سوريّا والخاضعة لسيطرة الإدارة الذّاتيّة، وتشكيل غرفة عمليات مشتركة لمواجهة التَّهديدات التُّركيّة بشَنِّ عدوانٍ جديدٍ على الأراضي السُّوريّة، كُلُّها تُبَدِّدُ تصريحات المسؤول التُّركيّ وتضعها في مَكَبِّ النِّفايات.

يعتمد النِّظام التُّركيّ في تحرُّكاته السِّياسيّة والعسكريّة في الغزو والعدوان على اتٍّفاقيّة أضنه المشؤومة، كمرجعيّة “شرعيّة” يستند إليها في تبرير احتلاله للأراضي السُّوريّة. ورغم مرور عقودٍ على توقيع الاتٍّفاقيّة؛ فلا تزال مفاعيلها السّلبية تنعكس على سوريّا. وطرحت الاتٍّفاقيّة للتَّعديل وعلى طاولة البحث والنِّقاش بين الرَّئيسين التُّركيّ والرّوسيّ في سوتشي إبّان العدوان التُّركيّ على سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض عام 2019، حيث طالب بوتين بتعديل بنود الاتٍّفاقيّة لتكون بالمِثلِ، أي السَّماح بتوغُّل الجيش السُّوريّ داخل الأراضي التُّركيّة مسافة عشر كيلومترات لملاحقة الإرهابيّين، وهو ما لم تلتزم به تركيّا حتّى الآن، لأنَّ التَّعديل لم يدخل حيِّزَ التَّنفيذ لاعتبارات سياسيّة بين روسيّا وتركيّا.

الأجدر بالنِّظام السُّوريّ، أن يعمد إلى إلغاء اتٍّفاقيّة أضنه، ونزع الذريعة التي تتمسّك بها تركيّا. وهي المدخِل نحو إيجاد أرضيّة للتَّوافق الوطنيّ السُّوريّ – السُّوريّ وتحرير الأراضي التي تحتلّها تركيّا. فالتَّصريحات التُّركيّة وتفاهماتها مع روسيّا وإيران في أستانا؛ إنَّما تَستمدُّ قوَّتها من اتٍّفاقيّة أضنة، بالدَّرجة الأولى، رغم أنَّه من السُّهولة بمكانه إلغاءها طالما أنَّ البرلمان السُّوريّ “مجلس الشَّعب السُّوريّ” لم يصادق عليها، وبقيت اتٍّفاقيّة أمنيّة يحكمها المزاج الأمنيّ بين الدَّولتين، وإزالة أسبابها يلغيها بشكل تلقائيّ، لأنَّها لم تُسجَّل كاتٍّفاقيّة دوليّة لدى الأمم المتَّحدة أيضاً. فلا حَرَجَ على النِّظام السُّوريّ في إبطالها، طالما أنَّ المصلحة الوطنيّة السُّوريّة تتطلَّب القفزَ فوقها واعتبارها من الماضي المَنسيِّ.

يُدرِك النِّظام السُّوريّ جيّداً الطموحات التُّركيّة ومحاولاتها الحثيثة بسط سيطرتها على أجزاء واسعة من سوريّا، رغبةً منها في تنفيذ مشاريعها الاحتلاليّة. وتصريح جاويش أوغلو لن يُغيِّرَ من وجهِ تركيّا المعادي لشعوب المنطقة ودولها، بل يشير بكُلِّ وضوحٍ إلى إفلاس سياساتها والدّخول في طور الضُّمور والانكماش، خاصَّة في سوريّا، وكُلُّ الاعتقاد أنَّ النِّظام السُّوريّ يقرأ جيّداً بواعِثَ هذا التَّصريح ودوافعه، وسيرُدُّ عليه عاجلاً في الميدان عبر زيادة التَّنسيق مع قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة.

الآراء المنشورة في المنصة تعبر عن وجهة نظر كتّابها

زر الذهاب إلى الأعلى