آراء وتحليلات

ما هي الرَّسائل الإيرانيّة وراء قصف قوّات (قسد)؟

جميل رشيد

تَحتَدِمُ يوماً بعد آخر حِدَّةُ التوتُّرات والصراعات في منطقة الشَّرق الأوسط، وسط تصاعد خطاب الحرب من قبل جميع الأطراف المتصارعة، ما ينذر بأخذ المنطقة نحو حرب مفتوحة على كُلِّ الاحتمالات.

إيران وباعتبارها طرفاً إقليميّاً فاعلاً في توازنات وصراعات المنطقة، زادت من مساحة تحرُّكاتها السِّياسيَّة والعسكريَّة، لتُصعّد مواقفها ضُدَّ الولايات المتّحدةوحلفائها، وعلى أكثر من جبهة.

النِّقاش الدّائر في العراق حول انسحاب القوّات الأمريكيّة من أراضيها، دون أدنى شَكٍّ تقف إيران وراءه، لطالما أنَّ أذرعها تتحكَّم بالمفاصل الرَّئيسيّة في البلاد.وعملت الحكومات العراقيَّة المتعاقبة ومنذ سقوط نظام صدام حسين وفق ما تمليها عليها إيران. فالضغوط الإيرانيّة على الحكومة العراقيَّة لحمل الولايات المتّحدة على سحب كامل قوّاتها من أراضيها، يتيح لها مساحة أوسع للمناورة وترتيب البلاد وفق ما تقتضيه مصالحها الإستراتيجيَّة في المنطقة، ليغدو العراق قاعدتها وبوّابتها للتمدّد أكثر في سوريّا والوصول إلى لبنان.

إنَّ استهداف الميليشيّات الإيرانيّة لقاعدة قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة في حقل “العمر” النَّفطي بطائرة مُسيَّرة وسقوط ضحايا، يُعَدُّ تصعيداً غير مسبوق من جانب إيران، قد يُشعل منطقة شرق الفرات برمّتها. فإن كان الهجوم خير وسيلة للدفاع، حسب نظرية المفكّر والخبير العسكريّ الألماني “كلاوزفيتز”، فإنَّ استهداف إيران لقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة يُعتَبَر ضربة استباقيَّة، قبل أن تقع بين فكّي كمّاشة قوّات التَّحالف الدّوليّ، التي أطبقت الحصار على ميليشيّاتها شرقيّ الفرات.

الرِّسالة الرَّئيسيَّة التي وجَّهتها إيران عبر استهداف عناصر (قسد)، هي محاولة جرِّها إلى الصراع الدّائر بينها وبين الدّول الغربيَّة، وخلط الأوراق لجهة توسيع رقعة المواجهة، رغم أنَّ (قسد) أعلنت العام الفائت أنَّها لن تشارك في أيّ حرب بين إيران والولايات المتّحدة، ما يقطع الشَكَّ باليقين أنَّ إيران تسعى إلى فرض وقائع جديدة في سوريّا؛ عنوانها العريض تصفية حساباتها مع الدّول الغربيَّة على الجغرافيا السُّوريّة، وخاصَّةً في مناطق شمال وشرق سوريّا.

نقلت تقارير عديدة أنَّ إيران، وقبل الاستهداف الأمريكيّ الأخير ضُدَّ ميليشيّاتها في سوريّا والعراق غداة مقتل 3 جنود أمريكيّين وجرح آخرين في استهداف لقاعدة أمريكيَّة في الأردنِّ، سحبت جميع “مستشاريها وخبرائها” من سوريّا، وأكَّدَت أنَّ لديها مخاوف كبيرة من تسريب مواقع تواجد عناصرها المنتشرين في سوريّا إلى إسرائيل من قبل روسيا وتركيّا. غير أنَّ المسألة الأهمّ، والتي تثير الكثير من الشكوك، هي أنَّ الولايات المتّحدة أخبرت إيران بنيَّتها قصف مواقع ميليشيّات الأخيرة، وهو السيناريو الأرجح، لطالما أنَّ أحداً لم يُصَب بأذى في الضربات الجوّيّة الأمريكيّة والإسرائيليَّة، ما يعزِّزُ من قناعة أنَّ اتّفاقاً وراء الكواليس عُقِدَ بين الولايات المتّحدة وإيران، على غرار ما جرى في حرب غزَّة، حيث نأت إيران بنفسها عنها، بعد أن ورَّطت فيها حركة “حماس”، كذلك أوعزت إلى حزب الله اللُّبناني بعدم الانجرار إلى هذه الحرب.

البراغماتيَّة الإيرانيّة المُفرِطة، تدفعها دائماً إلى اتّباع سياسة مزدوجة وغير واضحة المعالم، فهي تمارس لعبة الجزرة والعصا مع الغرب، دون أن تخسر شيئاً من قوَّتها في المنطقة. كما أنَّ إعلان المسؤولين الأمريكيّين عدم استهداف الأراضي الإيرانيّة قُبيل شَنِّ الضربات الجوّيّة، يؤكِّد أنَّ تفاهمات عديدة عُقِدَت بين الطرفين.

لم تكن إيران في يوم ما عنصر استقرار في سوريّا منذ اليوم الأوَّلِ لتدخُّلها، فهي إلى جانب تشييع فئات واسعة من الشَّعب السُّوريّ في المناطق التي انتشرت فيها، واستقدامها لميليشيّاتها الطائفيَّة للقتال مع الحكومة السُّوريّة، فإنَّها عمدت إلى تغيير ديمغرافيّة سوريّا، مثلها مثل الاحتلال التُّركيّ، كما حصل في مدينتي “الزَّبداني ومضايا”، حيث استغنت عن البلدتين “كفريا والفوعة” ذات الأغلبيّة الشّيعيَّة، ودخلت في مساومات عديدة مع روسيّا وتركيّا من خلال مسار “أستانا”، وبموافقتها الضُّمنيّة احتلَّت تركيّا أجزاء واسعة من الأراضي السُّوريّة، وهذا ما يدركه جميع السُّوريّين.

إنَّ استهداف إيران لقواعد (قسد) في هذا التَّوقيت، هدفه التأثير على قوّتها ومحاولة تقويضها، بعد أن فشلت رهاناتها على بَثِّ فتنة عشائريَّة وعرقيَّة في مناطق دير الزور، عبر الزَجِّ ببعض رؤساء العشائر الدّائرين في فلكها ودفعهالشَنِّ هجمات عشوائيَّة على نقاط (قسد) ومنازل وممتلكات المدنيّين، معتقدة أنَّها قادرة على ليِّ ذراعها في فَكِّ الشَّراكة مع الولايات المتّحدة، وبالتّالي عزلها عن حلفائها والاستفراد بها، ظنّاً منها أنَّها ستدفعها إلى إخلاء مناطق شرق دير الزور، لتتمدَّدَ هي وميليشيّاتها وتستحوذ على حقول النَّفط فيها، لتموّل بها عمليّاتها في المنطقة وخارجها.

سعت إيران أيضاً إلى تقييد قدرات الحكومة السُّورية الاقتصادية، عبر توقيع عِدَّةِ اتّفاقيّات اقتصاديَّة إستراتيجيَّة طويلة الأمد معها، والسَّيطرة على ميناء اللّاذقيّة ومناجم الفوسفات في تدمر، لتتحكَّمبأهمِّ مفاصل الدَّولة السُّوريَّة، إضافة إلى استيلائها وشرائها عقارات كثيرة في المدن الكبرى، وخاصَّةًفي دمشق وحلب، إضافة إلى محاولاتها الحثيثة في منح الجنسيَّة السُّوريّة لأعضاء ميليشيّاتها، وكذلك تقوية ذراع حزب الله في سوريّا ولبنان، عبر تمرير الأسلحة إليه، لتكون القوَّة الضاربة بيدها، تُهدِّد بها كُلّ دول المنطقة.

لا يمكن للمشاريع الإيرانيّة في المنطقة أن تلقى النجاح، نظراً لأنَّها لا تتوافق مع تطلُّعات شعوبها في الأمن والاستقرار. فإيران تسعى إلى تشكيل هلالها الشّيعيّ الممتدِّ من أراضيها مروراً بالعراق وسوريّا وصولاً إلى لبنان، فعقيدتها توسُّعيّة، وتحاول من خلالها بناء مرتكزات لها في بلدان المنطقة، لتساوم بها الدّول الغربيّة في ملفِّها النَّوويّ. فباتت تعمل مثل الأخطبوط؛ تَمُدُّ أذرعها في المنطقة، في العراق وسوريّا ولبنان واليمن، ومتى ما حقَّقت أهدافها؛ يمكنها التخلّي عنهم بسهولة ويُسر.

إنَّ مقتل العديد من عناصر “الحرس الثوري” الإيرانيّ في سوريّا بضربات جوّيّة إسرائيليَّة، بالتَّأكيد لا يُضعف قوَّةَ إيران، حسب بعض المراقبين، بل يزيدها إصراراً على تكثيف تواجدها، حيث أنَّ الضربات لم تؤثّر على قوَّتها العسكريَّة الفعليَّة على الأرض، وهي تداركت الأمربأن أخذت تدابيرها في تفادي خسائر كبيرة. وبكُلِّ الأحوال لا يمكن للضربات الجوّيّة من حمل إيران على الانسحاب من الأراضي السُّوريّة، بل يتطلَّب بالدَّرجة الأولى توافقاً دوليّاً حول سحب جميع القوّات الأجنبيَّة منها. فإن كانت إيران تتذرَّع بأنها وجودها في سوريّا “شرعيٌّ”، على اعتبار أنَّه جاء بطلب من الحكومة السُّوريّة، ولكن لا يَحُقُّ لها أن تتصرَّف وفق ما يحلو لها، وتساهم في تمزيق النَّسيج الوطنيّ والاجتماعيّ السُّوريّ أكثر ممّا هو ممزَّق، عبر مشاريعها الطائفيَّة وجعل الجغرافيا السُّوريّة ساحة للمواجهة بينها وبين الدّول الغربيَّة، وإطالة أمد الأزمة السُّوريَّة.

إيران وباعتبارها إحدى دول المنطقة، كان الأجدى بها أن تبادر إلى احترام إرادة شعوبها وخياراتهم في الوصول إلى أنظمة ديمقراطيَّة، وتساهم في إرساء أسس الأمن والاستقرار الإقليميّ، لا أن تسعى إلى زيادة التوتّر والصراعات فيها. ويبدو أنَّ بُنية الدَّولة الثيوقراطيَّة في إيران، وكذلك توجُّهاتها القوميَّة كدولة فارسيَّة، تحكم سلوكها، فسيطرة رجال الدّين وأصحاب العمائم على قرارها السِّياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ، يدخلها دائماً في أتون الصراعات في المنطقة والعالم. فهي تعتقد أنَّها قادرة على وأد ثورات الشُّعوب في المنطقة والتي لا تتوافق مع مصالحها، فالثَّورة التي فجَّرتها “جينا أميني” قبل أكثر من عامين؛ واجهتها حكومة الملالي بالحديد والنار، ولا تزال مستمرّة حتّى يومنا هذا، ولو بوتائر مختلفة عمّا كانت في بداية انطلاقتها. كما أنَّ حكومة تلجأ إلى إعدام خيرة كوادرها، وخاصَّةً من الكُردِ، لا يمكن أن تجلب الأمن والاستقرار لأيّ منطقة تَحُلُّ فيها.

إن كانت إيران تتذرَّع بتحالف قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة مع الولايات المتّحدة والتَّحالف الدّوليّ، كان عليها أن تَمُدَّ خيوط التَّواصل مع (قسد) لبناء تحالف عريض يلغي مُبرّرات التَّواجد الأمريكيّ في سوريّا، وكذلك سعيها إلى إنهاء الاحتلال التُّركيّ، وإشراك الحكومة السُّوريّة في العمليَّة، لا أن تستهدف قواعد (قسد).فيما الأخيرة لم تستهدف إيران وميليشيّاتها في سوريّا يوماً ما، رغم امتلاكها القوّة والقرار والجرأة لفعل ذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى