تقارير

“قسد” ما بعد السويداء: ركيزة استقرار أم قنبلة مؤجلة؟

روبين عمر – مجهر

بينما كانت مشاهد الاشتباك في السويداء تتصدر واجهة التطورات السورية، أعادت الأضواء تسليطها على واحدة من أعقد القضايا في مسار الانتقال السوري: دمج قوات سوريا الديمقراطية في بنية الدولة الجديدة. ليس بوصفها مجرد قوة عسكرية محلية، بل كحامل سياسي وأمني لتجربة حكم ذاتي أثارت جدلاً إقليمياً ودولياً، وفاقمت التباينات داخل البيت السوري نفسه.

السويداء: انهيار المركز.. وصعود الأطراف

ترى إيرينا تسوكرمان، المحامية الأميركية المختصة بالأمن القومي، أن أحداث السويداء “أعادت تسليط الضوء على مركزية الدولة المتصدعة، وعلى أوجه الشبه مع التحديات التي يواجهها الأكراد في شمال شرقي البلاد”. وأشارت إلى أن النظام لجأ إلى استخدام ميليشيات بدوية لقمع الاحتجاجات، وهو ما “أعاد للأذهان ديناميكيات القمع نفسها التي دفعت المجتمعات المحلية إلى إنشاء منظومات حوكمة بديلة، أبرزها قوات سوريا الديمقراطية”.

بحسب تسوكرمان، فإن اندماج “قسد” لم يعد يُنظر إليه في واشنطن كخيار عسكري تكتيكي، بل كركيزة لاستقرار سياسي لا مركزي يُفترض أن يمنع انهيار سوريا مجدداً في فوضى ما بعد الأسد.

“لا يمكن لأي اندماج أن يكون شكلياً أو مفروضاً

رئيس المجلس الوطني السرياني وعضو المجلس الرئاسي لـ”مسد” في واشنطن، بسام إسحق، أكد أن ما حدث في السويداء شكّل لحظة فاصلة، وقال في تصريحه لـ”مجهر الإعلامية”:

“ما بعد السويداء ليس كما قبلها.. لا يمكن لأي اندماج أن يكون شكلياً أو مفروضاً. المطلوب دولة تحتوي، لا تفرض، وأمن يُبنى على الثقة، لا على العقاب”.

ورأى أن السياسات الأميركية تواجه امتحان مصداقية، خصوصاً بعد صمتها الأولي حيال ما جرى، ما جعل الكثيرين يشعرون بأن واشنطن “لا تعوّل على الشركاء المحليين كما تدّعي”.

حسابات باراك: دمج “قسد” مقابل صفقات مع أنقرة والدوحة

ترى تسوكرمان أن المبعوث الأميركي توماس باراك، يقود توجهاً يربط دمج “قسد” بحسابات إقليمية معقّدة. إذ يسعى إلى إدماجها كجزء من صفقة تضمن النفوذ الأميركي وتُرضي الحلفاء، خصوصاً تركيا وقطر، دون تفجير الوضع الميداني.

تسوكرمان حذّرت من أن “أي محاولة للدمج دون تنازلات هيكلية عميقة من النظام، ودون طمأنة حقيقية لتركيا، قد تتحول إلى سبب لانهيار العملية الانتقالية نفسها”.

“قسد” لن تُدمج في منظومة أمنية مخترقة

الخبير الأميركي في الأمن القومي جون روسوماندو ذهب إلى نقطة أكثر حدة، قائلًا إن دمج “قسد” في الإطار الأمني الحالي غير ممكن، بل مستحيل عملياً.

“لن تقبل قوات سوريا الديمقراطية بأي اندماج يُلزمها بالتنسيق مع عناصر من الجيش أو الشرطة الانتقالية الذين كانوا في السابق جهاديين قاتلوا تحت رايات متطرفة”.

وأضاف: “الضغوط التي يمارسها باراك على “قسد” لا تعبّر عن سياسة متزنة، بل عن رجل أعمال يؤمن بالصفقات النظيفة، ويُغفل التعقيدات السياسية والمجتمعية”.

رغم التركيز الدائم على الاعتراضات التركية، إلا أن تسوكرمان تُلفت إلى أن “قسد” نفسها “ليست كياناً موحداً، بل تحالفاً يضم عناصر كردية، عربية، وآشورية”. وتُحذر من أن “أي اندماج متسرع دون تحديد دقيق للتمثيل والحوكمة قد يُحوّل “قسد” إلى قوة أمنية غير موحدة، ما يُفقدها فاعليتها ومصداقيتها في عين المجتمعات المحلية، ويُعيد إنتاج نموذج الميليشيات المتنافسة بدلًا من نموذج الدولة”.

سيناريو المستقبل: اعتراف محدود وتنازلات متبادلة

ترى تسوكرمان أن ما يمكن أن يُطبّق فعلياً خلال الفترة الانتقالية، هو نموذج الاندماج المشروط، الذي يتضمن:

الاعتراف الجزئي بسيطرة “قسد” على مناطق محددة

منح تمثيل رمزي في الحكومة

فرض قيود شكلية على رموزها القومية أو ارتباطاتها الأيديولوجية

الإبقاء على هيكلها الأمني عملياً، لكن بغطاء سياسي جديد

وترى أن هذا السيناريو قد يمنح واشنطن غطاءً سياسياً لمواصلة دعم “قسد”، دون تفجير العلاقة مع أنقرة.

النهاية: إعادة رسم الخريطة عبر التفاوض القسري

بين تصريحات إيرينا تسوكرمان الدقيقة، وتحذيرات جون روسوماندو، وتشديد بسام إسحق على ضرورة بناء دولة تحتوي لا تفرض، تتقاطع خيوط كثيرة عند معادلة واحدة: قوات سوريا الديمقراطية ليست تفصيلاً جانبياً في المرحلة الانتقالية، بل مركز ثقل تتقاطع عنده مصالح الخارج ومطالب الداخل.

أي محاولة لدمجها بوصفها مجرد ذراع أمنية، أو اختزال دورها في وظيفة إدارية، ستؤدي إلى ارتباك هيكلي في مشروع إعادة بناء الدولة السورية. أما الاعتراف بها من دون تعديل عميق في طبيعة الدولة، فسيظل أمراً مرفوضاً إقليمياً ودولياً.

ضمن هذا التوازن الدقيق، لا مكان للخطأ. لأن الخطأ لن يُكلف فشل المبادرة السياسية فحسب، بل قد يُعيد البلاد إلى حالة صراع متعدد الجبهات.

هكذا، تصبح “قسد” – في التقدير الأميركي – ضرورة اضطرارية لا يمكن تجاوزها، مهما اختلفت الأدوات والوسائل

زر الذهاب إلى الأعلى