سوريا على مفترق طرق: انعطاف أوروبي مدروس.. مناورة ترامب المحفوفة بالمخاطر وتمدد نفوذ تركيا

بقلم إيرينا تسوكرمان
التنقل على الحبل المشدود: أوروبا والولايات المتحدة ومستقبل سوريا المجزأة
تهب رياح التغيير على سوريا، لكن ما تحمله ليس مباشرًا على الإطلاق. إن الخطوة الأوروبية الحذرة، وإن كانت حازمة، لتخفيف العقوبات تشير إلى أكثر من مجرد دبلوماسية – إنها إعادة تقييم استراتيجية شكلتها عقود من الصراع، وتحول التحالفات، وتزايد الحاجة الإنسانية الملحة. في الوقت نفسه، يهدد سعي إدارة ترامب المتسارع لفتح فرص الاستثمار بزعزعة توازن هش أصلًا، مما يعزز، عن غير قصد، طموحات أنقرة الإقليمية، ويُعقّد مسار النفوذ الدقيق في بلاد الشام. تُشرف على هذه المرحلة الانتقالية العصيبة حكومة الوحدة الوطنية للرئيس أحمد الشرع، رمزًا للتفاؤل الحذر بعد سنوات من الاضطرابات ورحيل عهد الأسد. ومع ذلك، يلوح شبح تجدد الصراع الأهلي تحت السطح، مُرددًا صداه في تحذيرات من أصوات مثل وزير الخارجية روبيو، الذي يدّعي أن سوريا تتأرجح على حافة الانهيار. وسواء أكان هذا التهديد مبالغة أم واقعًا مُريعًا، فإنه يُؤكد هشاشة اللحظة الراهنة – حيث تصطدم الانتعاش الاقتصادي والمصالحة السياسية والتنافسات الإقليمية.
عقوبات قيصر ولغز ما بعد الأسد – نظرة متعمقة على السياسة الأمريكية تجاه سوريا في عهد رئاسة ترامب السابعة والأربعين
ما هي عقوبات قيصر؟
لطالما استُخدم قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا – المعروف باسم عقوبات قيصر – كأداة جيوسياسية، كاشفًا عن الحقائق البشعة للحرب الأهلية السورية ومُغلقًا أبواب إعادة التأهيل الدولي. صدر هذا التشريع عام ٢٠١٩ خلال ولاية ترامب الأولى، وقد استلهمه من منشق يُدعى “قيصر” سرّب عشرات الآلاف من الصور التي تُظهر التعذيب وسوء المعاملة والموت في مراكز الاحتجاز السورية. أثارت هذه الصور المروعة استياءً واسعًا في واشنطن، وأدت إلى فرض أحد أشد أنظمة العقوبات شمولًا في السياسة الخارجية الأمريكية الحديثة. لكن المفاجأة: لم يقتصر القانون على الأسد فحسب، بل وُضع لمعاقبة كل من تورط في مساعدة انتهاكات الحكومة السورية – من الميليشيات الإيرانية والأوليغارشية الروسية إلى البنوك اللبنانية والمستثمرين الصينيين.
لننتقل سريعًا إلى يومنا هذا: لقد رحل الأسد منذ زمن بعيد، بعد أن أُطيح به نتيجة خليط معقد من الاستنزاف العسكري وخيانة النخبة والمناورات الدولية. ومع ذلك، لا تزال العقوبات قائمة. لماذا؟ لأنها لم تُفرض فقط لاستهداف الأفراد، بل لإغلاق المنظومة الاقتصادية السورية بأكملها بأسلاك شائكة. وهذا يشمل قطاعات حيوية كالطاقة والاتصالات والبناء والطيران والخدمات المصرفية. لا يمكن لأي جهة دولية أن تمس سوريا ما بعد الحرب دون إثارة عقوبات ثانوية محتملة – حتى لو كانت نيتها إعادة الإعمار، لا القمع. إنها إقامة جبرية اقتصادية بلا تاريخ انتهاء واضح.
ونطاقها استثنائي. هل تريد إعادة بناء مدرسة في حلب؟ من الأفضل التأكد من أن المقاول لم يورد الخرسانة لقاعدة عسكرية. هل تريد الاستثمار في شبكة الكهرباء السورية؟ إذا كانت للشركة أيضًا علاقات تجارية مع حزب الله أو الحرس الثوري الإيراني، فهذا أمر مرفوض. حتى المنظمات غير الحكومية تشعر بالقلق. الممرات الإنسانية مكتظة بالأوراق، والأدوية غالبًا ما تكون في طي النسيان بينما يُحلل المحامون تراخيص مكتب مراقبة الأصول الأجنبية. بينما تحاول الحكومة السورية المؤقتة الجديدة الخروج من المأزق، تُواجه عقوبات قيصر – التي كانت في السابق هراوة أخلاقية – خطر التحول الآن إلى هراوة للإصلاح. كانت النية صائبة. أما الواقع، بعد الأسد، فهو فخ بيروقراطي قد يمنع التعافي، ويُنفّر الحلفاء الإقليميين، ويدفع دمشق نحو قوى جيوسياسية مفترسة مثل إيران والصين.
من يملك سلطة رفعها؟
نظريًا، يمتلك ترامب السلطة التنفيذية لتعديل أو التنازل عن أو تعليق جوانب من عقوبات قيصر. لكن النظرية، كما هي العادة، تصطدم بواقع واشنطن. فالعقوبات نفسها مُقننة قانونيًا، مما يعني أن الإزالة الدائمة أو الإلغاء يتطلب موافقة الكونغرس – وهو أمر ليس بالهين في ظل وجود أعضاء في الكونغرس لا يزالون يتعاملون مع قانون قيصر كنص مقدس.
مع ذلك، يمكن للرئيس توجيه مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة (OFAC) لإصدار تراخيص عامة أو محددة، أو استثناءات، أو إعفاءات مؤقتة. وهنا تبرز حدة المناورات السياسية. قد يختار ترامب، الذي أبدى بالفعل بوادر فتور في وعوده السابقة بدعم غير مشروط لإسرائيل وخفض المساعدات لغزة، التلاعب بهذه الآليات بشكل متهور للتفاوض على صفقات سرية، أو الضغط على الحلفاء، أو حتى تعزيز أجندته الأوسع نطاقًا المناهضة للصين. في هذه الأثناء، قد يبرز نائب الرئيس جيه دي فانس، الذي أجّل زيارته المثيرة للجدل إلى إسرائيل وسط شائعات عن توترات داخلية وردود فعل سلبية من المانحين، كعامل مؤثر في قضية قانون قيصر. قد تدفعه غرائزه الليبرالية وتركيزه على فك الارتباط بـ”الحروب الأبدية” إلى تفضيل الإغاثة العملية – لكن تحالفه المتزايد مع الانعزاليين الشعبويين يجعله غير متوقع.
مع ذلك، فإن الطريق التشريعي مليء بالألغام. ومن المرجح أن تُثير أي محاولة لإلغاء أو تعديل قانون قيصر معارضة شرسة من التحالفات الحزبية الراسخة، ومنظمات حقوق الإنسان غير الحكومية، وجماعات الشتات. تذكروا: لم يكن القانون مجرد معاقبة للأسد؛ بل كان تأكيدًا رمزيًا على القيم الأمريكية. كشف ذلك يتطلب أكثر من مجرد قلم – بل يتطلب زلزالًا سياسيًا.
كيف ستكون العملية؟
تخيل مستنقعًا مليئًا بالروتين، وصراعات النفوذ بين الوكالات، والقنابل الأيديولوجية. هذه هي عملية رفع أو تخفيف قانون قيصر. إنها ليست مسألة دبلوماسية “الضغط على الزر”. أولًا، سيحتاج ترامب إلى تشكيل فريق عمل قادر على تقييم الأوضاع الحالية في سوريا، وفحص الهياكل الحكومية الجديدة، ورسم خرائط المصالح الاقتصادية والسياسية. وهذا يعني التعمق في الحكومة التكنوقراطية الجديدة في سوريا، والتحالفات القبلية، وتأثيرات الميليشيات المتبقية. مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، الذي يتجنب المخاطرة دائمًا، سيتردد في اتخاذ أي إجراء ما لم يُلقِ البيت الأبيض بثقله الكامل وراء مبرر سياسي. سيُصدر خبراء وزارة الخارجية الإقليميون – والعديد منهم من بقايا الإدارات السابقة – تحذيراتٍ مُقلقة بشأن قيام إيران وحزب الله بملء الفراغ. سيُقلق البنتاغون بشأن قواعد الرادار الروسية ونفوذها في المجال الجوي.
ولإحراز أي تقدم ذي معنى، ستحتاج الإدارة إلى استراتيجية تدريجية: أولًا، استثناءات إنسانية ومشاريع تجريبية في المناطق الخارجة عن سيطرة الحرس الثوري الإيراني؛ ثم، إعفاءات قطاعية محدودة (مثل الزراعة والبنية التحتية الصحية)؛ وأخيرًا، وضع معايير سياسية مرتبطة بالعدالة الانتقالية أو الانتخابات. قد يُرضي هذا النهج الكونغرس بما يكفي لتأجيل الرد – ولكن فقط إذا كانت الرسالة مُحكمة.
في هذه الأثناء، ستضغط جهات خليجية فاعلة مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية بقوة خلف الكواليس. تُريد الإمارات العربية المتحدة تسريع عقود البناء. أما المملكة العربية السعودية – التي أنهكتها الحرب ولكنها طموحة استراتيجيًا – فترى في إعادة دمج سوريا في جامعة الدول العربية ثقلًا مُوازنًا لإيران. وتضغط كلتا الدولتين على ترامب لحمله على التحرك، من خلال عرض صفقات تجارية وحقوق إقامة قواعد عسكرية كحوافز.
ما هي التحديات المحتملة؟ لنبدأ بوضوح: البصريات. سيواجه ترامب، الذي انتقاد بالفعل لانتقاداته الخادم الخلفي بشأن دعم إسرائيل وزيادة المساعدات في غزة، أكثر حرارة لثبات سوريا “مكافأة”. سيشير مجمع وسائل الإعلام اليميني في خيانة. سيقوم المحافظون المحافظون بمشاركة شهادتي قيصر في حلقة. وسوف يتهم الديمقراطيون ترامب بتقويض حقوق الإنسان – مرة أخرى. ثم هناك إسرائيل. نتنياهو، معزولة بشكل متزايد بعد اشتباكات مع إدارة ترامب ومواجهة القلق الإقليمي على غزة، قد أشار علنا إلى استياء مساعدات “الحد الأدنى” لسوريا. ينظر إلى أي تليين الولايات المتحدة كباب مفتوح لإعادة ترتيبي إيراني وحزب الله. من المرجح أن تسرب المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، مما يدفع بالفعل إلى فك الارتباط الأمريكي من اليمن والحوثيين إنتل إلى تخريب خطط الإغاثة القيصرية. داخل الولايات المتحدة، فإن الفصائل تصاعد. على جانب واحد: العزلة MAGA الجمهوريين، حريصة على خفض الخسائر، وخفض المساعدات، وفتح سوريا باعتبارها “حددا جديدا” للاستثمار القطاع الخاص الأمريكي. من ناحية أخرى: الصقور الأمني التقليدي الصهاينة الإنجيليين، الذين يرون سوريا كملخص خطي في المعركة ضد إيران واختبار LITMUS للولاء لإسرائيل. سيحاول ترامب بيع الإغاثة القيصرية كعمل ويبينج، الصين-تربح، صنع الصفقة. لكن ما لم يكن بإمكانه إثبات أن عقوبات الرفع تخدم العمال الأمريكيين ويعاقب إيران، فسيقوم بالسير إلى حبل خطابي في أحذية سريعة. ماذا يمكن أن نتوقع أن نرى من المحادثات الأمريكية السورية؟ سيكون هذا أقل معسكر ديفيد، المزيد من الخضار في الفجاس. ترامب غير مهتم ببلدبلية على غرار جنيف أو فرانفير الأمم المتحدة. بدلا من ذلك، ستكشف المحادثات عن طريق التثليث: وسطاء الخليجيون مثل مقترحات قطر أو عملية نقل عمانية، الأردن التي تسهل اللوجستية، والشاحنات الخاصة بالقطاع الخاص تحجمون عقود إعادة الإعمار. نتوقع أن نسمع مصطلحات مثل “معايير الإصلاح”، ضمانات الاستقرار “و” المحاذاة الإقليمية “. ترجمة؟ وتريد الولايات المتحدة أن تعرف أن الزعماء الجدد في سوريا لن يدهم دمشق إلى طهران، ويمنحون موانئ اللاذقية إلى بكين، أو عرض طرطوس كدمري بحري روسي. ستشمل طلب واشنطن الأولي التنسيق ضد الإرهاب والوصول إلى البنية التحتية النفطية والحماية للأقليات المسيحية والكردية. ستركز مطالب سوريا العدادية على التخلص التدريجي، ودعم الإعادة إلى الوطن للاجئين، وتدفق كبير من رأس المال الأجنبي. لكن المفاوضات لن توجد في فراغ. دور تركيا يلوح في الأفق. أردوغان، المحترق بسنوات من المستنقع السوري، يلعب كلا الجانبين تهدد التوغلات العسكرية أثناء مغازلة الحسنات الروسية. يبقى العراق بطاقة البدل، حيث يراقب ميليشيات PMF عن كثب للإعلامات على حل الولايات المتحدة. في هذه الأثناء، ينهار لبنان اقتصاديا وقد تحاول ركوب المفاصل السوري في صفقات إعادة الإعمار.
مناورات جيوسياسية في الخفاء
سوريا اليوم ليست دولةً قوميةً بقدر ما هي جائزةٌ في منافسةٍ إقليمية. كلُّ طرفٍ فاعلٍ – من قطر إلى روسيا إلى إيران إلى إسرائيل – يناور للمطالبةِ بنصيبٍ من فراغِ ما بعد الأسد.
خطةُ قطرَ خفيةٌ لكنها طموحة. فهي تُقدِّمُ نفسها على أنها الجهةُ الإنسانيةُ التي لا غنى عنها في المنطقة، فتُمرِّرُ المساعداتِ إلى المناطقِ التي أهملتها المنظماتُ غيرُ الحكوميةُ الغربية، وتُبني علاقاتٍ مع السلطاتِ المحليةِ الجديدةِ في سوريا. لكنَّ الهدفَ الحقيقيَّ هو السيطرةُ على شبكاتِ الاتصالاتِ، ومشاريعِ البنيةِ التحتية، والخطابِ السياسي. مع تشتُّتِ تركيا وتباطؤِ الإماراتِ في الالتزام، ترى الدوحةُ فرصةً ذهبيةً.
في غضونِ ذلك، تُعيدُ إيرانُ صياغةَ استراتيجياتِها بالوكالة. فبدونِ الأسد كراعٍ، تُضمِّنُ طهرانُ التكنوقراطَ ورجالَ الدينِ والعاملينَ الماليينَ في هيئاتِ الحكمِ المحلية. إذا خففت الولاياتُ المتحدةُ قيودَ قانونِ قيصر دونَ عزلِ المناطقِ الخاضعةِ لسيطرةِ الحرسِ الثوريِّ الإيرانيِّ، فإنَّ إيرانَ ستُحرزُ تقدمًا – ليس عسكريًا فحسب، بل تجاريًا أيضًا. الصين لاعب صامت آخر، يهمس بتوسّعات مبادرة الحزام والطريق، ويقدّم قروضًا لما بعد الحرب بشروط أقلّ بكثير من صندوق النقد الدولي. يعلم فريق ترامب أنه إذا ترددت الولايات المتحدة، فإن بكين ستمهد الطرق، وتُمدّ الشبكات، وتبني المصانع التي تربط مستقبل سوريا بالبنوك الصينية.
ولن ننسى أوروبا. بريطانيا فجأةً تتباهى بأنها الصوت الأخلاقي لغزة، لكنها تُركّز على استقرار البحر الأبيض المتوسط. فرنسا، التي تأثرت ذات يوم بسياستها الفاشلة في سوريا، تتطلّع الآن إلى النفوذ الثقافي والطاقة. أيّ خطوة خاطئة من واشنطن قد تدفع الجهات الأوروبية إلى المضي قدمًا في تفاهماتها الخاصة بشأن سوريا.
باختصار، اللعبة جارية. وبينما قد يظنّ ترامب نفسه سيد الصفقات، فإنّ الأمور على هذه اللوحة تتحرّك بسرعة – وليس دائمًا بأمره. تراجع أوروبا عن عقوباتها على سوريا وتداعياته الأوسع
عندما أعلن الاتحاد الأوروبي قراره بتخفيف العقوبات على سوريا، تجاهله العديد من المراقبين واعتبروه تنازلاً من أوروبا عن قيادة واشنطن – كطفل يحاول تجنب الاستبعاد من لعبة التسلّق. لكن إذا تعمقنا في الأمر، نجد مناورة جيوسياسية متطورة وعالية المخاطر، لا تعتمد على المحاكاة بقدر ما تعتمد على الحفاظ على الذات، وإعادة التموضع الاستراتيجي، والتحوط في خضمّ رقعة شطرنج إقليمية مضطربة.
على عكس عقوبات قيصر، التي تُعدّ قبضة الولايات المتحدة الحديدية المُصمّمة لشلّ الاقتصاد السوري بالكامل – مستهدفةً أي شخص يتعامل تجاريًا مع دمشق تحت تهديد العقوبات الثانوية – لطالما كان نظام عقوبات الاتحاد الأوروبي أكثر جراحيًا وسياسيًا في لهجته. ركّزت هذه العقوبات الأوروبية على الأفراد المرتبطين بالنظام، وقطاعات اقتصادية مُحدّدة، وقيود رمزية تهدف إلى التعبير عن الرفض مع الحفاظ على مساحة للتواصل الدبلوماسي. لذا، عندما يتحرّك الاتحاد الأوروبي لتخفيف هذه الإجراءات، فإنه لا يُمثّل مجرد ضغطة زر؛ بل يُعيد معايرة جهاز قانوني ودبلوماسي مُعقّد يعكس حساسيات أوروبا الفريدة، وسياساتها الداخلية، ومصالح الدول الأعضاء المُتنوّعة.
هذه المعايرة مُتجذّرة في التاريخ. لقد تطوّرت العقوبات الأوروبية على سوريا عبر دورات من التصعيد والانفراج الجزئي، مما يعكس تحوّل الرياح السياسية – من الربيع العربي إلى صعود وسقوط الجماعات المُتطرّفة، ومن اتهامات الأسلحة الكيميائية إلى صراعات القوى الإقليمية. شهدت كل مرحلة موازنة أوروبا بين الإجراءات العقابية ومحاولات المشاركة العملية، غالبًا في ظل السياسة الأمريكية، ولكن أيضًا بدافع المصالح الاستراتيجية الأوروبية واهتماماتها الإنسانية.
دراسة حالة: سابقة ليبيا
يستمد نهج أوروبا دروسًا من تجربة ليبيا مع العقوبات بعد عام 2011. ففي البداية، دمرت عقوبات الاتحاد الأوروبي الصارمة الاقتصاد الليبي، لكنها فشلت في نهاية المطاف في منع الفوضى الداخلية أو إعادة بناء مؤسسات الدولة. وقد ساعد التخفيف البطيء والمشروط للعقوبات، المرتبط بالمحطات السياسية البارزة، في استعادة المشاركة الدولية المحدودة. ويُراقب مسار سوريا عن كثب بناءً على هذا المعيار، حيث تسعى بروكسل إلى تجنب مآزق ليبيا – التشرذم، والميليشيات الخارجة عن السيطرة، وانعدام الشفافية – مع الحفاظ على نفوذها.
لماذا الآن؟ تجد أوروبا نفسها عالقة بين خيارين: إما الاستسلام أو الاستسلام. إن الإبقاء على العقوبات الصارمة إلى أجل غير مسمى يُخاطر بدفع سوريا أكثر نحو فلك روسيا والصين، اللتين لم تُبديا أي تردد في ملء الفراغ بقروض إعادة الإعمار، ومشاريع البنية التحتية، والدعم السياسي – غالبًا بشروط أقل. يُهدد هذا بتجميد أوروبا تمامًا عن مستقبل سوريا الاقتصادي، مما يُفقدها عقودًا مربحة، ونفوذًا سياسيًا، ورأيًا في نظام ما بعد الصراع.
ولكن هناك تفاصيل أكثر. تواجه أوروبا أيضًا ضغوطًا داخلية: إرهاق عام من صراعات الشرق الأوسط التي لا تنتهي، وعبء استضافة ملايين اللاجئين السوريين، واعتبارات اقتصادية في ظل التضخم العالمي وأزمات الطاقة. تُنذر العقوبات المطولة التي تُديم انهيار الاقتصاد السوري بمزيد من النزوح، وعدم الاستقرار الإقليمي، والأزمات الإنسانية التي تنعكس تداعياتها على جيران أوروبا. تدفع هذه الحسابات بروكسل إلى البحث عن مخرج حساس – تخفيف العقوبات تدريجيًا لتشجيع إعادة الإعمار والاستقرار دون أن يبدو الأمر مكافأةً للاستبداد.
تحليلات البيانات الاقتصادية
انكمش الناتج المحلي الإجمالي لسوريا بأكثر من 60% خلال سنوات الصراع، ويُقدّر البنك الدولي أن أكثر من 80% من السكان يعيشون في فقر. وقد فاقمت العقوبات انهيار العملة، والتضخم (الذي تجاوز 200% في بعض السنوات)، وانعدام الأمن الغذائي. ويسعى الاتحاد الأوروبي من خلال إعادة تقييمه للوضع إلى وقف هذا التدهور من خلال إعادة فتح قنوات المساعدات الإنسانية وفتح تدفقات تجارية محدودة، بهدف تحفيز الانتعاش الاقتصادي الجزئي مع مراقبة امتثال النظام.
ومع ذلك، فإن تخفيف العقوبات دون إصلاحات جادة يُهدد بتنفير جهات مؤثرة داخل أوروبا نفسها – منظمات حقوق الإنسان، ومجتمعات الشتات السوري، وقطاعات من البرلمان الأوروبي. ولا تزال ذكرى الفظائع التي ارتُكبت خلال الصراع السوري الطويل حاضرة في الأذهان، ويرى العديد من الأوروبيين أي انفراج سريع في الأزمة خيانة للمبادئ والعدالة. وهكذا، يسير الاتحاد الأوروبي على حبل مشدود، محاولاً التوفيق بين البراغماتية والمبادئ.
يُفسر هذا التوازن الدقيق لماذا نهج الاتحاد الأوروبي تدريجي ومشروط بدلاً من أن يكون شاملاً. من المرجح أن تطالب بروكسل بتحسينات ملموسة في مجال حقوق الإنسان، وإصلاحات حوكمة، وتدابير لمكافحة الفساد قبل تحرير الأموال أو فتح أبواب التجارة. إنهم يريدون ضمان ألا تُثري المساعدات والاستثمارات النخب الفاسدة أو تُديم الانتهاكات الاستبدادية. وبالنظر إلى تاريخ سوريا السيء السمعة في الحكم المُبهم، فإن هذا ليس بالأمر الهيّن. يهدف إصرار أوروبا على آليات الشفافية إلى إنشاء جدار حماية ضد الفساد والاختلاس – وهو درسٌ مُستفادٌ بشق الأنفس من سنوات من جهود إعادة الإعمار الفاشلة في مناطق ما بعد الصراع حول العالم.
كما تحتل العدالة والمصالحة مكانةً بارزةً في حسابات الاتحاد الأوروبي. تُصر أوروبا على أن تخفيف العقوبات يجب أن يرتبط بجهود ملموسة نحو المساءلة عن جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان، أو على الأقل باتخاذ خطوات موثوقة نحو المصالحة الوطنية. هذه قضية شائكة؛ إذ تخشى دمشق التدقيق الدولي والمحاكم الدولية، بينما يُطالب العديد من الضحايا بالعدالة كشرطٍ أساسي للسلام. يسعى موقف أوروبا إلى تجنب إعادة ضبط سياسية تُلغي المساءلة، وبالتالي الحفاظ على مكانتها الأخلاقية. من المرجح أيضًا أن يتبع الاتحاد الأوروبي نهجًا قطاعيًا لرفع القيود. فبدلاً من فتح جميع الأبواب مرة واحدة، يمكن أن تشهد مجالات مثل المساعدات الإنسانية والزراعة والبنية التحتية المدنية – وهي مجالات أقل ارتباطًا مباشرًا بسلطة النظام – تخفيفًا مبكرًا. يسمح هذا الفصل الحذر بمراقبة الامتثال وتعديل السياسات بشكل ديناميكي، وتجنب خطر “الموافقة المسبقة” التي تشجع الجهات السيئة.
الدبلوماسية الإقليمية ركيزة أخرى. يدرك الاتحاد الأوروبي أن استقرار سوريا متشابك مع جيرانها. ستحث بروكسل دمشق على تحسين العلاقات مع لبنان والأردن والعراق، على أمل تقليل التوترات عبر الحدود، والسيطرة على تدفقات اللاجئين، وكبح شبكات التهريب التي تزعزع استقرار بلاد الشام على نطاق أوسع. ومع ذلك، فإن هذا التشابك الإقليمي يزيد من التعقيد: فالجيران أنفسهم لديهم مصالح وتحالفات ومنافسات متباينة يمكن أن تساعد إما في استقرار التوترات أو تفاقمها.
الملف الدبلوماسي الإقليمي: لبنان والأردن
يُعاني لبنان من أزمته الاقتصادية وشلله السياسي، ويرى أن استقرار سوريا أمرٌ بالغ الأهمية لوقف تدفق اللاجئين والميليشيات العابرة للحدود. أما الأردن، الذي يستضيف ملايين اللاجئين ويخشى من امتداد التطرف، فيسعى للحصول على ضمانات بأن أموال إعادة الإعمار لن تُمكّن الجماعات المعادية أو تُزعزع الأمن الداخلي الهش. ويلعب كلا البلدين دورَي حراسة البوابة، مما يؤثر على ديناميكيات التفاعل بين الاتحاد الأوروبي وسوريا.
داخل الاتحاد الأوروبي، تتباين مواقف الدول الأعضاء بشكل حاد. ففرنسا وألمانيا، اللتان تضمان جالية سورية كبيرة في الخارج ومدافعين صريحين عن حقوق الإنسان، تميلان إلى موقف أكثر صرامة، خشية أن تظهرا متساهلين مع نظام متهم بالقمع الوحشي. في غضون ذلك، تدفع دول أخرى ذات مصالح اقتصادية في الشرق الأوسط نحو المشاركة وإعادة الانفتاح. ويعمل البرلمان الأوروبي كجهة رقابية أيديولوجية، مُهددًا بإحباط أي تحركات لتخفيف حدة التوتر تُعتبر مُفرطة في التساهل. يُجبر هذا التشرذم الاتحاد الأوروبي على الانخراط في لعبة دبلوماسية دقيقة، تُوازن بين الأولويات المتنافسة، وتحاول الحفاظ على جبهة موحدة مع إدارة المعارضة الداخلية. على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، تبدو الصورة الأمريكية مضطربة بنفس القدر. فإدارة بايدن خارج السلطة منذ فترة طويلة، وحل محلها دونالد ترامب، الرئيس السابع والأربعون، الذي تُشير إدارته إلى تراجع عن الدعم غير المشروط السابق للقضايا المتعلقة بسوريا وحلفاء الشرق الأوسط. ويبدو أن فريق ترامب يتراجع عن تعهداته السابقة، بما في ذلك وعوده بإعادة المساعدات الإنسانية إلى غزة – التي قُطعت في البداية – مُشكلاً سابقة فريدة من نوعها في مشهد المساعدات في المنطقة. تُدخل هذه السياسة الأمريكية المتناقضة حالة من عدم اليقين في حسابات أوروبا، مما يُجبر بروكسل على التحوط في رهاناتها واتباع نهج أقل اعتمادًا على توجهات واشنطن.
إن تكتيكات الضغط التي تنتهجها إدارة ترامب على سوريا وإسرائيل، إلى جانب الانقسام الداخلي في واشنطن حول سياسة الشرق الأوسط، تعني أن على أوروبا أن تتعامل ليس فقط مع دمشق، بل مع تحالف عبر أطلسي مُتصدّع. إن التحركات الأمريكية لربط المساعدات باتفاقيات إقليمية أوسع – مثل تلك المبرمة مع إيران أو الحوثيين – تُعقّد قدرة أوروبا على فرض جدولها الزمني وشروطها، مما يخلق عملية دبلوماسية معقدة. على الصعيد الإقليمي، برز دور قطر كعامل حاسم. فجهود الوساطة التي تبذلها الدوحة، وقوتها الاقتصادية، وعلاقاتها الفريدة مع إيران والحوثيين ودول الخليج المجاورة، تجعلها وسيطًا رئيسيًا. ويؤثر موقف قطر على الحسابات الغربية، لا سيما مع تفكير الولايات المتحدة في انسحابات حساسة من اليمن ومفاوضات حول غزة وإسرائيل. وتغذي هذه الديناميكية الإقليمية مخاوف الغرب بشأن كيفية تفاعل المساعدات والعقوبات والدبلوماسية، مما يُعقّد أي حلٍّ مُحكم. وتراقب أوروبا هذا التوازن الخليجي بعناية، مُدركةً أن مستقبل سوريا مرتبط بصراعات قوى أوسع في الشرق الأوسط. ومن المرجح أن تُنسّق بروكسل بشكل وثيق مع شركائها الإقليميين لتجنب إثارة زعزعة استقرار جديدة، مع تشجيع دمشق على المضي قدمًا نحو إعادة إعمار مسؤولة.
بالنظر إلى المستقبل، نتوقع تخفيفًا بطيئًا وتدريجيًا للعقوبات بدلًا من رفعها بشكل جذري. ستكون الدبلوماسية محفوفة بالمساومات بين عواصم الاتحاد الأوروبي وواشنطن والقوى الإقليمية وسوريا نفسها. سيشتد السباق على عقود إعادة الإعمار المربحة، وستظل السياسة الداخلية داخل دول الاتحاد الأوروبي عاملًا غير مؤكد، حيث توازن الحكومات بين المشاركة العملية والضغوط العامة والبرلمانية.
من منظور المخاطرة، قد تأتي مغامرة أوروبا بنتائج عكسية إذا شجع تخفيف العقوبات النظام على ترسيخ الضوابط الاستبدادية أو إذا غذّت الأموال الفساد بدلًا من إعادة الإعمار. على العكس من ذلك، فإن الإبقاء على العقوبات لفترة طويلة جدًا يُخاطر بتسليم النفوذ لروسيا والصين لأجيال. يكمن أفضل رهان لأوروبا في فرض شروط صارمة وشفافة، والانخراط إقليميًا، والاستعداد لعكس المسار إذا تعثر التقدم.
رد فعل روسيا: الوسيط الصبور القوي الذي يُرسّخ موطئ قدمه
موقف روسيا من تخفيف العقوبات على سوريا ليس سلبيًا على الإطلاق. أمضى الكرملين العقد الماضي في تحويل سوريا إلى موطئ قدم استراتيجي له في الشرق الأوسط، بنشر أصوله العسكرية، وبناء تحالفات، وترسيخ وجوده اقتصاديًا. يُنظر إلى رفع العقوبات الغربية من منظور موسكو على أنه تحدٍّ وفرصة في آنٍ واحد – فرصة لتأكيد أهمية روسيا في مواجهة النفوذ الغربي.
استثمارات روسيا في سوريا ضخمة ومتعددة الأوجه: قواعد بحرية على البحر الأبيض المتوسط، ومطارات عسكرية، ومبيعات أسلحة، ومشاريع بنية تحتية حيوية مصممة لضمان وجودها لعقود. من وجهة نظر موسكو، لم تُصمَّم العقوبات الغربية لمعاقبة سوريا فحسب، بل لإضعاف النفوذ الروسي أيضًا. لذا، فإن أي تخفيف للعقوبات هو اعتراف ضمني بقدرة روسيا على البقاء، والتي ستستغلها بلا رحمة.
دراسة حالة: الهيمنة الروسية على الطاقة في سوريا
أحكمت شركة روسنفت، عملاق الطاقة الحكومي الروسي، سيطرتها بهدوء على حقول النفط السورية، وإنتاج الغاز، وشبكات التوزيع – مما سمح لموسكو بإملاء شروط تعافي الطاقة في سوريا وانتعاشها الاقتصادي. تُغذّي هذه السيطرة استراتيجية روسيا الأوسع نطاقًا، والمتمثلة في استخدام الطاقة كأداة جيوسياسية، ليس فقط في أوروبا، بل الآن بشكل متزايد في بلاد الشام.
نهج روسيا عملي: إذ تشجع مشاركة غربية محدودة لتجنب عزل سوريا تمامًا، مع وضع نفسها في موقع الحكم النهائي لمستقبل البلاد. تُشجّع موسكو مشاريع إعادة الإعمار مع الشركات الروسية، وتُؤمّن عقودًا تجمع بين العوائد الاقتصادية والولاء السياسي.
يعمل فريق بوتين بالفعل خلف الكواليس لضمان أن أي إعادة انخراط أوروبية مع سوريا تتم عبر قنوات معتمدة من روسيا. يستعد المقاولون والبنوك وشركات الخدمات اللوجستية الروسية المرتبطة بالدولة بهدوء لتوسيع نطاق عملياتها، وتأمين صفقات التعاقد من الباطن، وتعزيز هيمنتها على جهاز إعادة الإعمار في سوريا. تُركّز روسيا بشكل خاص على البنية التحتية للطاقة، ومرافق الموانئ، وتعدين الفوسفات – وهي قطاعات تُحقق عوائد استراتيجية ومالية طويلة الأجل. حساب موسكو بسيط: إذا عاد الغرب، فعليه أن يدفع ثمنًا باهظًا للبوابة.
على الصعيد الدبلوماسي، تستخدم روسيا أيضًا تحول أوروبا كدليل على روايتها الخاصة – وهي أن المحاولات الغربية لعزل حلفائها من خلال العقوبات محكوم عليها بالفشل. وقد بدأت وسائل الإعلام الروسية ومسؤولو وزارة الخارجية بالفعل في تصوير إعادة تقييم الاتحاد الأوروبي على أنها تراجع متردد، وتصويرها كمثال آخر على تفوق موسكو على خصومها. يعزز هذا السرد حملة الرسائل العالمية التي تشنها روسيا، وخاصة في أفريقيا وآسيا الوسطى وأمريكا اللاتينية، حيث تسعى إلى تقديم نفسها كحصن منيع ضد الإكراه الغربي.
لكن دور روسيا ليس سلبيًا أو انتهازيًا بحتًا – بل هو استباقي بشكل متزايد. تفيد التقارير بأن المخابرات الروسية والقنوات الدبلوماسية تمارس ضغوطًا على دمشق لتكون أكثر مرونة مع أوروبا – ليس لأن بوتين يفضل الإصلاح فجأة، ولكن لأن الاستقرار الاقتصادي يضمن موطئ قدم ثابت للمصالح الروسية. يتم دمج المستشارين الروس في الوزارات وأجهزة المخابرات السورية، للمساعدة في صياغة التشريعات وأطر الاستثمار المصممة خصيصًا للتبعية طويلة الأجل. بمعنى ما، قد يُصبح تخفيف عقوبات الاتحاد الأوروبي بمثابة الدَفعة التي تُمكّن روسيا من تشديد قبضتها أكثر، وإن كان ذلك خلف ستار من التعاون الدولي.
في الوقت نفسه، تُبدي موسكو حذرها من تجاوز حدودها. تتذكر النخب الروسية كيف تدهورت الأوضاع في ليبيا والعراق وأفغانستان عندما بالغت الجهات الفاعلة الأجنبية في التزاماتها. تُريد روسيا أن تكون سوريا مستقرة بما يكفي لاستضافة القوات واستخراج القيمة، ولكن ليس لدرجة أن تُعيد توجيه نفسها نحو الغرب. لهذا السبب، ستُرحّب روسيا باستثمارات الاتحاد الأوروبي في قطاعات غير حساسة كالزراعة أو التعليم، مع الحفاظ على نفوذها في مجالات الطاقة والأمن والبنية التحتية العسكرية. إنها رقصة مُدروسة من المشاركة والاحتواء، وهي استراتيجية تقليدية للكرملين.
مع ذلك، يُبدي الكرملين حذره. فهو يُدرك أن تخفيف العقوبات قد يُعيد الشركات الغربية إلى الساحة، مما يُضعف قبضته. ولذلك، تدفع روسيا نحو إطار عمل متعدد الأقطاب لإعادة الإعمار يضمن دورًا روسيًا قياديًا، مع استيعاب مشاركة غربية محدودة تحت أنظار موسكو الساهرة. على الصعيد الدبلوماسي، تعمل روسيا عن كثب مع إيران وتركيا لإدارة الملف السوري المعقد، مستغلةً التوترات لتحقيق أقصى قدر من المكاسب. رسائل موسكو متسقة: يجب احترام سيادة سوريا، والحد من التدخل الغربي، ويجب أن يُقر أي تخفيف للعقوبات بدور روسيا كشريك لا غنى عنه.
هذا الموقف الحازم يخلق احتكاكًا مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، اللذين يسعيان إلى ربط مساعدات إعادة الإعمار بإصلاحات الحوكمة. ترد روسيا بروايتها الخاصة – مُسلّطةً الضوء على النفاق الغربي، والتدخلات الانتقائية، وإخفاقات سياسات تغيير الأنظمة في المنطقة.
تكمن المخاطر التي تواجهها روسيا في الإفراط في التوسع: فموازنة الالتزامات العسكرية، والاستثمارات الاقتصادية، والضغط الدبلوماسي في ظلّ منطقة متقلبة أمرٌ مكلف وحساس سياسيًا. علاوة على ذلك، فإن تدهور الأوضاع الأمنية أو تجدد الأعمال العدائية قد يُعرّض مكاسب موسكو للخطر.
توصي روسيا بتعزيز مكاسبها من خلال تعميق العلاقات الاقتصادية، والاستفادة من عقود الطاقة وإعادة الإعمار كأدوات جيوسياسية، واستخدام القنوات الدبلوماسية لتفتيت التحالفات الغربية. ومن خلال الحفاظ على موقف مرن يسمح بالتدخل الغربي التدريجي – بشروط روسية صارمة – يمكن لموسكو تعزيز موطئ قدمها دون إثارة مواجهة مباشرة.
طموحات الصين: العملاق الهادئ الذي يراهن على نفوذ طويل الأمد
كان تدخل الصين في سوريا محدودًا، ولكنه ينمو باطراد، بما يتماشى مع استراتيجية بكين العالمية للتوسع الاقتصادي دون تورطات سياسية علنية. وعلى عكس روسيا، تفضل الصين ممارسة نفوذها من خلال القوة المالية، ومشاريع البنية التحتية، وسياسة صارمة بعدم التدخل، تجذب الأنظمة الاستبدادية التي تسعى إلى تحقيق انفراج اقتصادي دون شروط سياسية على النمط الغربي.
تمتد مبادرة الحزام والطريق الصينية إلى الشرق الأوسط، وتمثل سوريا ممرًا محتملًا يربط آسيا وأوروبا وأفريقيا. ولا تُعد عقود إعادة بناء الطرق والسكك الحديدية والموانئ والاتصالات مربحة فحسب، بل استثمارات استراتيجية في مجال الاتصال. تقدم الشركات الصينية أسعارًا وحزم تمويل تنافسية – غالبًا ما تكون مصحوبة بقروض من البنوك الحكومية الصينية – وهي جذابة للغاية لدمشق، التي تواجه عجزًا كبيرًا في الميزانية بسبب العقوبات والانهيار الاقتصادي.
أكثر من مجرد أعمال تجارية، تبني سياسة عدم التدخل الصينية الثقة مع سوريا وغيرها، متجنبةً المطالب الغربية بإصلاحات حوكمة، أو تحسينات في حقوق الإنسان، أو الشفافية. يحافظ هذا الموقف المتسم بعدم التدخل على استقلالية النظام، ويمنح دمشق شريان حياة في وقت تأتي فيه المساعدات الغربية مقيدة بشروط. إنه بديل عملي جذاب للقيادة السورية التي تسعى إلى الحفاظ على السيطرة.
تتجاوز طموحات بكين الاقتصاد. فمن خلال ترسيخ وجودها من خلال التجارة والاستثمار، تسعى الصين إلى اكتساب نفوذ دبلوماسي وحسن نية سياسي في منطقة ذات أهمية استراتيجية كانت تقليديًا خارج نطاقها المباشر. إنه اندماج بطيء ولكنه ثابت في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، باستخدام القوة الناعمة والبنية التحتية والتمويل بدلاً من القوة العسكرية.
مع ذلك، فإن التحديات كثيرة. فالمشهد الأمني المتقلب في سوريا، والانقسامات الفصائلية، والحوكمة الهشة، كلها عوامل تُشكل مخاطر على المشاريع الصينية. إن سياسة عدم التدخل تحد من قدرة الصين على التأثير في السياسة الداخلية السورية أو التوسط في النزاعات، مما يتطلب توجيهًا وتنسيقًا دقيقين مع روسيا والقوى الإقليمية.
علاوة على ذلك، ترى الصين في سوريا منصة اختبار لتحدٍّ أوسع لنماذج التنمية التي يهيمن عليها الغرب. إذا استطاعت بكين المساعدة في إعادة بناء سوريا وإظهار نتائجها – طرق سريعة جديدة، ومحطات طاقة، ومتنزهات تكنولوجية – دون إصلاحات ديمقراطية أو إصلاحات حوكمة شاملة، فإنها ستروج لهذه الصيغة في جميع أنحاء الجنوب العالمي. تدرك النخبة السياسية في الاتحاد الأوروبي هذا التهديد، لكن القيود البيروقراطية والانقسامات الداخلية تجعل من الصعب شن هجوم مضاد بسرعة أو مرونة مماثلة.
ما يقلق بروكسل أكثر من غيره هو أن تخفيف العقوبات ببطء شديد يمنح بكين ميزة المبادرة في قطاعات رئيسية – العقارات، والنقل، والخدمات اللوجستية – التي لا تشكل اقتصاد سوريا فحسب، بل أيضًا تحالفها الجيوسياسي لعقود قادمة. إذا كانت استراتيجية أوروبا حذرة بشكل مفرط، فإنها تخاطر بأن تصبح لاعبًا من الدرجة الثانية في بلد ساهمت في تشكيله دبلوماسيًا في السابق.
مخاطر عالية، نفوذ متفاوت، وطريقٌ مُظلمٌ أمامنا
إنّ تراجع أوروبا عن عقوباتها على سوريا ليس تحولاً واضحاً بقدر ما هو سلسلة من الخطوات المُتلعثمة المُدروسة – كلٌّ منها مُصمّمٌ لتجنب رد الفعل العنيف، والحفاظ على النفوذ، والحفاظ على المكانة الأخلاقية، كل ذلك مع مُواكبة الإيقاع الجيوسياسي الجديد الذي تُحدّده سياسة واشنطن المُتقلّبة، وصبر روسيا العسكري، والزحف الاقتصادي الصيني.
الطريق أمامنا ضبابي. أفضل سيناريو: تُنسّق أوروبا تطبيعاً تدريجياً يُكافئ الإصلاحات التدريجية، ويدفع سوريا نحو إعادة الاندماج الإقليمي، ويُرسي وجوداً اقتصادياً فعّالاً يُوازن إعادة الإعمار مع معايير حقوق الإنسان. أسوأ سيناريو: يُغذّي تخفيف العقوبات نخبةً فاسدةً مُتجذّرةً؛ تُقسّم القوى الأجنبية مناطق النفوذ؛ وتُترك أوروبا لتتحمّل الفاتورة الإنسانية لصراعٍ لم تعد تُسيطر عليه.
الواضح هو هذا: لم يعد الاتحاد الأوروبي يملك ترف العقوبات الرمزية. في عالم متعدد الأقطاب، كل تأخير، كل نصف إجراء، كل بيان صحفي أخلاقي يخلق فراغًا سيملأه شخص آخر – عادةً بتحفظات أقل وجهود أكثر حدة. يجب على أوروبا إما أن تمارس قوتها الاقتصادية بانضباط استراتيجي أو أن تشاهد أهميتها في سوريا تتآكل، صفقة خلف الكواليس في كل مرة.
لا يتعلق الأمر بسوريا فقط – إنه اختبار حاسم لمدى قدرة بروكسل على تكييف مثاليتها مع عالم أكثر صرامة وواقعية. ما إذا كان بإمكانها التوقف عن كونها مجرد مانح وأن تصبح صانعة. ما إذا كانت مستعدة للعب اللعبة – أو مجرد كتابة الشيكات.
رقعة الشطرنج الاستراتيجية لأوروبا: المناورة وسط تحول العقوبات على سوريا
عندما اختار الاتحاد الأوروبي تخفيف العقوبات على سوريا، رفض الكثيرون ذلك باعتباره مجرد تقليد لقيادة واشنطن. لكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. بروكسل لا تتبع الولايات المتحدة فحسب؛ إنها تبحر في متاهة جيوسياسية متشابكة حيث تتصادم البراغماتية والمبادئ والحقائق الإقليمية في لعبة شطرنج عالية المخاطر. يعكس نهج أوروبا حسابات داخلية عميقة حول مصالحها الاقتصادية ومخاوفها الأمنية ومسؤولياتها الإنسانية ونفوذها طويل الأمد في منطقة محفوفة بالقوى المتنافسة. لطالما كانت عقوبات أوروبا أكثر جراحية ودقة من عقوبات قيصر الأمريكية – التي تستهدف أفرادًا وقطاعات محددة بدلاً من الخنق الاقتصادي الشامل. الآن، مع سياسة واشنطن تجاه سوريا المشوشة في ظل الإدارة السابعة والأربعين للرئيس ترامب – والتي اتسمت بمساعدات إنسانية غير متسقة وتحالفات متغيرة – تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى إعادة تقييم نفسها. لا يمكنها أن تتحمل أن تكون لاعبًا سلبيًا؛ تكلفة البقاء على الهامش باهظة للغاية.
الاقتصاد السوري في حالة من الفوضى. مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 60%، وارتفاع التضخم إلى ما يزيد عن 200% في بعض السنوات، وانتشار الفقر على نطاق واسع، أدى الانهيار الاقتصادي الناجم عن العقوبات إلى تغذية سوق سوداء تُغذي الفساد وعدم الاستقرار. ولا تزال تدفقات اللاجئين إلى الأحياء الأوروبية تُرهق الموارد والتسامح السياسي. وتواجه بروكسل ضغوطًا متزايدة لتغيير مسارها – لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد السوري ووقف التداعيات الإنسانية دون تأييد الاستبداد. وهنا تبرز المناورات الجيوسياسية الأوروبية حقًا. تلعب بروكسل لعبة طويلة الأمد: فهي تريد مقعدًا على طاولة إعادة الإعمار قبل أن تُثبت روسيا والصين نفوذهما من خلال القواعد العسكرية وصفقات الأسلحة وقروض البنية التحتية. أما موسكو، التي رسخت وجودها في سوريا على مدى العقد الماضي، فتنظر إلى تخفيف العقوبات الغربية على أنه تنازل ضمني عن موطئ قدمها. في غضون ذلك، صُممت استثمارات بكين الهادئة لترسيخ السيطرة الاقتصادية طويلة الأجل. تتمثل استراتيجية أوروبا في استعادة النفوذ، والتحوط من تقلبات الولايات المتحدة، وتحقيق التوازن الدقيق بين المبادئ والبراغماتية.
يُعقّد السياق الإقليمي هذا الوضع أكثر. فاقتصاد لبنان الهشّ وشلله السياسي يجعلان استقرار سوريا أمرًا بالغ الأهمية لمنع أزمة أخرى. يُطالب الأردن، الذي يُوازن بين الأمن الداخلي وأعباء اللاجئين، بأن تتجنب أي مساعدات لإعادة الإعمار تمكين الفصائل المُعادية. في غضون ذلك، برزت قطر كوسيط إقليمي رئيسي، مُستغلةً علاقاتها مع إيران والحوثيين ودول الخليج المجاورة لصياغة النتائج بطرقٍ يجب على العواصم الأوروبية دراستها بعناية.
داخل الاتحاد الأوروبي، تنقسم الدول الأعضاء. تدفع فرنسا وألمانيا نحو موقفٍ أكثر صرامة، مُراعيةً حقوق الإنسان والماضي الوحشي للنظام. تُراقب دولٌ أخرى الفوائد الاقتصادية لعقود إعادة الإعمار. يُحافظ البرلمان الأوروبي على نزاهة بروكسل، مُستعدًا لمعارضة أي تراخٍ مُتصوّر تجاه الانتهاكات الاستبدادية. يتطلب هذا التشرذم الداخلي توازنًا دبلوماسيًا دقيقًا لتشكيل جبهة مُوحّدة.
وسط هذه الشبكة المُعقّدة، لا تُمثّل خطوة أوروبا لتخفيف العقوبات غفرانًا شاملًا، بل نهجًا مُدروسًا ومشروطًا. من المُرجّح أن تشهد قطاعات المساعدات الإنسانية والزراعة والبنية التحتية المدنية تخفيفًا مُبكرًا، مع مراقبة دقيقة للامتثال. يُصرّ الاتحاد الأوروبي على إصلاحات الحوكمة والشفافية وتحسينات حقوق الإنسان القابلة للتحقق قبل فتح باب المشاركة الاقتصادية الكاملة. تلوح في الأفق دروسٌ من تجربة ليبيا الفوضوية بعد العقوبات، إذ تريد أوروبا تجنب تمويل الفساد والتشرذم الفصائلي.
إنّ حسابات المخاطر دقيقة للغاية. فالتساهل المفرط يُهدد بتشجيع النظام الاستبدادي في سوريا وتغذية الفساد. أما التساهل القليل جدًا، فسيُفضي إلى تنازل أوروبا عن نفوذها لموسكو وبكين، مُخسرةً بذلك فرصًا اقتصادية ونفوذًا دبلوماسيًا لعقود. علاوةً على ذلك، لا يزال الرأي العام في أوروبا مُتشككًا بشدة، إذ يرى الكثيرون أيّ انفراجة في العلاقات خيانةً للعدالة للضحايا السوريين. يجب على أوروبا أن تُوازن بين السياسة الداخلية والضرورات الأخلاقية والضرورة الاستراتيجية.
ولإدارة هذه المخاطر، يجب على أوروبا:
فرض رقابة صارمة وشفافة على أموال إعادة الإعمار، والعمل من خلال مؤسسات متعددة الأطراف ومنظمات غير حكومية موثوقة.
الحفاظ على شروط قوية تربط تخفيف العقوبات بالتقدم الموثوق في مجال حقوق الإنسان، وإصلاح الحوكمة، ومبادرات المساءلة.
تعزيز الدبلوماسية الإقليمية مع لبنان والأردن والعراق لتثبيت الحدود، وإدارة تدفقات اللاجئين، ومكافحة شبكات التهريب.
التحرك بسرعة لاستعادة الاستقرار الاقتصادي قبل أن تُعزز روسيا والصين قبضتهما، لا سيما في القطاعات المدنية حيث يُمكن للشركات الأوروبية المنافسة.
التنسيق متعدد الأطراف مع الولايات المتحدة ودول الخليج (ولا سيما قطر) والهيئات الدولية لمواءمة الظروف وتعزيز النفوذ الدبلوماسي.
صياغة رسائل عامة واضحة لشرح الأساس المنطقي العملي والمبدئي وراء تخفيف العقوبات، مع إشراك المجتمع المدني وجماعات الشتات لتعزيز الشرعية.
هذه الرقصة الجيوسياسية دقيقة ومعقدة – فأوروبا ليست ساذجة ولا متهورة. إنها جهد مدروس لحماية النفوذ، وتعزيز الاستقرار الإقليمي، وإدارة شرق أوسط متطور حيث تتغير التحالفات القديمة وتبرز مراكز قوى جديدة.
عبر المحيط الأطلسي، تُثير سياسات واشنطن المتذبذبة حالة من عدم اليقين. إن عدم انتظام المساعدات الإنسانية التي تقدمها إدارة ترامب لغزة، بالإضافة إلى الانقسامات الفصائلية الداخلية حول استراتيجية الشرق الأوسط، يُلزم أوروبا بالتحوط، وأحيانًا بالقيادة وفقًا لشروطها الخاصة. في هذه الأثناء، تراقب موسكو وبكين الوضع باهتمام بالغ، على أهبة الاستعداد لاستغلال أي تردد.
في هذه البيئة المشحونة، تُعدّ مناورة أوروبا الاستراتيجية حول العقوبات على سوريا دليلاً على الواقعية السياسية: مزج البراغماتية العملية بالدبلوماسية المبدئية، والحساسية الإقليمية بالطموح العالمي. إنها رقصة بطيئة وحذرة – لكن فقدان الإيقاع يُهدد بفقدان مستقبل النفوذ في الشرق الأوسط كلياً.
رقعة الشطرنج الاستراتيجية الأوروبية: المناورة وسط تحول العقوبات على سوريا
عندما اختار الاتحاد الأوروبي تخفيف العقوبات على سوريا، رفض الكثيرون ذلك باعتباره مجرد تقليد لقيادة واشنطن. لكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. فبروكسل لا تتبع الولايات المتحدة فحسب؛ بل تخوض متاهة جيوسياسية متشابكة تصطدم فيها البراغماتية والمبادئ والحقائق الإقليمية في لعبة شطرنج عالية المخاطر. يعكس نهج أوروبا حسابات داخلية عميقة حول مصالحها الاقتصادية، ومخاوفها الأمنية، ومسؤولياتها الإنسانية، ونفوذها طويل الأمد في منطقة تعج بالقوى المتنافسة. لطالما كانت عقوبات أوروبا أكثر دقةً ودقةً من عقوبات “قيصر” الأمريكية – إذ تستهدف أفرادًا وقطاعاتٍ محددةً بدلًا من خنقٍ اقتصاديٍّ شامل. والآن، ومع ارتباك سياسة واشنطن تجاه سوريا في عهد إدارة الرئيس ترامب – التي اتسمت بمساعداتٍ إنسانيةٍ غير متسقةٍ وتحالفاتٍ متغيرة – تجد أوروبا نفسها مضطرةً لإعادة تقييم موقفها. لا يمكنها تحمّل دور اللاعب السلبي؛ فتكلفة البقاء على الهامش باهظةٌ للغاية.
يعيش الاقتصاد السوري حالةً من الفوضى. فمع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 60%، وارتفاع التضخم إلى ما يزيد عن 200% في بعض السنوات، وانتشار الفقر على نطاقٍ واسع، غذى الانهيار الاقتصادي الناجم عن العقوبات سوقًا سوداء تُغذّي الفساد وعدم الاستقرار. ولا تزال تدفقات اللاجئين إلى دول الجوار الأوروبي تُرهق الموارد وتُضعف التسامح السياسي. وتواجه بروكسل ضغوطًا متزايدة لتغيير مسارها – لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد السوري ووقف التداعيات الإنسانية دون تأييد الاستبداد.
وهنا تبرز المناورات الجيوسياسية الأوروبية حقًا. تلعب بروكسل لعبة طويلة الأمد: فهي تريد مقعدًا على طاولة إعادة الإعمار قبل أن تُرسّخ روسيا والصين نفوذهما من خلال القواعد العسكرية وصفقات الأسلحة وقروض البنية التحتية. موسكو، التي انغمست في سوريا على مدى العقد الماضي، تنظر إلى تخفيف العقوبات الغربية على أنه تنازل ضمني عن موطئ قدمها. في غضون ذلك، صُممت استثمارات بكين الهادئة لتعزيز سيطرتها الاقتصادية طويلة الأجل. تتمثل استراتيجية أوروبا في استعادة النفوذ، والتحوّط من تقلبات الولايات المتحدة، والموازنة بعناية بين المبادئ والبراغماتية.
يزيد السياق الإقليمي من تعقيد هذا الأمر. فضعف اقتصاد لبنان وشلله السياسي يجعلان استقرار سوريا أمرًا بالغ الأهمية لمنع أزمة أخرى. الأردن، الذي يوازن بين الأمن الداخلي وأعباء اللاجئين، يُطالب بأن تتجنب أي مساعدة لإعادة الإعمار تمكين الفصائل المعادية. في غضون ذلك، برزت قطر كوسيط إقليمي رئيسي، مستغلةً علاقاتها مع إيران والحوثيين ودول الخليج المجاورة لصياغة النتائج بطرق يجب على العواصم الأوروبية دراستها بعناية.
داخل الاتحاد الأوروبي، تنقسم الدول الأعضاء. تدفع فرنسا وألمانيا نحو موقف أكثر صرامة، مع مراعاة حقوق الإنسان والماضي الوحشي للنظام. تتطلع دول أخرى إلى الفوائد الاقتصادية لعقود إعادة الإعمار. يُبقي البرلمان الأوروبي بروكسل على نزاهة، مُستعدًا لمعارضة أي تراخي يُنظر إليه على أنه تجاوزات استبدادية. يتطلب هذا التشرذم الداخلي توازنًا دبلوماسيًا دقيقًا لتشكيل جبهة موحدة.
في خضم هذه الشبكة المعقدة، لا يُعدّ تحرك أوروبا لتخفيف العقوبات غفرانًا شاملًا، بل نهجًا مُدروسًا ومشروطًا. ومن المرجح أن تشهد قطاعات المساعدات الإنسانية والزراعة والبنية التحتية المدنية تخفيفًا مبكرًا، مع مراقبة دقيقة للامتثال. ويُصرّ الاتحاد الأوروبي على إصلاحات الحوكمة والشفافية وتحسينات حقوق الإنسان القابلة للتحقق قبل فتح باب المشاركة الاقتصادية الكاملة. وتلوح في الأفق دروسٌ مُستفادة من تجربة ليبيا الفوضوية بعد العقوبات، إذ تريد أوروبا تجنب تمويل الفساد والتشرذم الفصائلي.
إنّ حسابات المخاطر بالغة الرقة. فالتساهل المفرط يُهدد بتشجيع النظام الاستبدادي في سوريا وتغذية الفساد. أما التساهل القليل جدًا، فسيُفضي إلى تنازل أوروبا عن نفوذها لموسكو وبكين، مُخسرةً بذلك فرصًا اقتصادية ونفوذًا دبلوماسيًا لعقود. علاوة على ذلك، لا يزال الرأي العام في أوروبا مُتشككًا بشدة، إذ يرى الكثيرون أيّ ذوبان للجليد خيانةً للعدالة للضحايا السوريين. يجب على أوروبا أن تُوازن بين السياسة الداخلية والضرورات الأخلاقية والضرورة الاستراتيجية. لإدارة هذه المخاطر، يجب على أوروبا:
فرض رقابة صارمة وشفافة على أموال إعادة الإعمار، والعمل من خلال مؤسسات متعددة الأطراف ومنظمات غير حكومية موثوقة.
الحفاظ على شروط قوية تربط تخفيف العقوبات بالتقدم الموثوق في مجال حقوق الإنسان، وإصلاح الحوكمة، ومبادرات المساءلة.
تعميق الدبلوماسية الإقليمية مع لبنان والأردن والعراق لاستقرار الحدود، وإدارة تدفقات اللاجئين، ومكافحة شبكات التهريب.
التحرك بسرعة لاستعادة زمام الأمور الاقتصادية قبل أن تُعزز روسيا والصين نفوذهما، لا سيما في القطاعات المدنية حيث يمكن للشركات الأوروبية المنافسة.
التنسيق متعدد الأطراف مع الولايات المتحدة ودول الخليج (ولا سيما قطر) والهيئات الدولية لمواءمة الشروط وتعزيز النفوذ الدبلوماسي.
صياغة رسائل عامة واضحة لشرح الأساس المنطقي العملي والمبدئي وراء تخفيف العقوبات، وإشراك المجتمع المدني وجماعات الشتات لتعزيز الشرعية.
هذه العملية الجيوسياسية دقيقة ومعقدة – فأوروبا ليست ساذجة ولا متهورة. إنها جهد مدروس لحماية النفوذ، وتعزيز الاستقرار الإقليمي، وإدارة شرق أوسط متطور حيث تتغير التحالفات القديمة وتبرز مراكز قوى جديدة. عبر المحيط الأطلسي، تُثير سياسات واشنطن المتذبذبة حالة من عدم اليقين. إن عدم ثبات المساعدات الإنسانية التي تُقدمها إدارة ترامب لغزة، إلى جانب الانقسامات الفصائلية الداخلية حول استراتيجية الشرق الأوسط، يُلزم أوروبا بالتحوط، بل والقيادة أحيانًا وفق شروطها الخاصة. في هذه الأثناء، تراقب موسكو وبكين الوضع بحذر، مُستعدتين لاستغلال أي تردد.
في هذه البيئة المشحونة، تُجسّد مناورات أوروبا الاستراتيجية حول العقوبات على سوريا نهجًا واقعيًا: مزج البراغماتية العملية بالدبلوماسية المبدئية، والحساسية الإقليمية بالطموح العالمي. إنها حركة بطيئة وحذرة، لكن فقدان الإيقاع يُهدد بفقدان مستقبل النفوذ في الشرق الأوسط تمامًا.
التطبيع السريع لأحمد الشرع: دراسة حالة في الواقعية السياسية وإعادة التوازن الجيوسياسي
يُمثل ظهور أحمد الشرع كشخصية مُستعدة للعودة إلى الساحة الدبلوماسية الدولية في الجمعية العامة للأمم المتحدة المُقبلة نقطة تحول في ملحمة إعادة دمج سوريا في الدبلوماسية العالمية. يُعد هذا التطور مُلفتًا للنظر ليس فقط بسبب ماضي الشرع المُثير للجدل والمكافأة الأمريكية التي وُضعت على رأسه، ولكن أيضًا لما يكشفه عن الحسابات المُتغيرة بين القوى الإقليمية والعالمية بشأن مستقبل سوريا.
الخلفية التاريخية والسياسية: نبذة مُعقدة عن الشرع
يرتبط المسار السياسي لأحمد الشرع ارتباطًا وثيقًا بتاريخ سوريا المُضطرب على مدى العقود الماضية. كان الشرع، المسؤول البعثي المخضرم، ونائب الرئيس السابق، والعضو البارز في الدائرة المقربة لنظام الأسد، يُنظر إليه على نطاق واسع في العواصم الغربية وبين جماعات المعارضة السورية على أنه متشدد مسؤول عن سياسات ساهمت في القمع وتفاقم التوترات الطائفية. جعله ماضيه المتطرف وارتباطه الوثيق بالحكم الاستبدادي هدفًا طبيعيًا للعقوبات، وأبرزها تصنيف وزارة الخزانة الأمريكية له، والذي تضمن مكافأة مالية تهدف إلى عزله دوليًا.
على الرغم من ذلك، حافظ الشرع على نفوذ كبير داخل الجهاز السياسي والأمني السوري. تمتد شبكاته إلى ما وراء دمشق، إلى لبنان المجاور، حيث بنى علاقات مع مختلف الفصائل السياسية، وإلى أجزاء من الخليج، وخاصة قطر، التي رسخت مكانتها كوسيط رئيسي في النزاعات الإقليمية. تؤكد هذه الشبكة الواسعة من العلاقات لماذا أصبح تهميش الشرع أمرًا صعبًا بشكل متزايد بالنسبة للجهات الفاعلة التي تسعى إلى حلول دائمة في سوريا. الدوافع الجيوسياسية للتطبيع
ينبع التسارع المفاجئ لتطبيع الشرع من تضافر ضغوط استراتيجية وتغير الأولويات الدبلوماسية. ومن أبرز هذه الأولويات إدراك القوى الأوروبية والأمم المتحدة العملي بأن التفاعل المستدام مع هياكل السلطة السورية يستلزم إشراك شخصيات مؤثرة في النظام – حتى تلك التي كانت منبوذة سابقًا.
تسعى أوروبا، التي تُصارع الأعباء الاجتماعية والاقتصادية الهائلة التي فرضتها أزمة اللاجئين السوريين، إلى تحقيق الاستقرار في المنطقة وتهيئة الظروف المواتية لعودة اللاجئين. ويُنظر إلى إشراك شخصيات مثل الشرع كخطوة عملية نحو فتح قنوات حوار أساسية للتفاوض على أطر إعادة الإعمار والتسويات السياسية. وبهذا المعنى، يُمثل حضور الشرع في الأمم المتحدة رمزًا لاستراتيجية أوروبا المتطورة: الابتعاد عن العزلة المفرطة نحو تفاعل مُدروس يُعطي الأولوية للاستقرار والإصلاحات التدريجية.
في الوقت نفسه، كان للتواصل الدبلوماسي القطري دورٌ أساسي في تسهيل هذا التحول. مهدت جهود الوساطة التي بذلتها الدوحة، مدعومةً بموقعها المحايد والمؤثر في سياسات الخليج، الطريق لإعادة دمج شخصيات سورية مثيرة للجدل. ويكتسب دور قطر أهميةً خاصة بالنظر إلى علاقاتها الفريدة مع إيران والحوثيين وغيرهما من الجهات الفاعلة الإقليمية، مما يمنحها نفوذًا في صياغة نتائج مواتية لتهدئة التوتر الإقليمي وإعادة فتح الاقتصاد. وبالتوازي مع ذلك، خلقت التحولات في السياسة الأمريكية في ظل رئاسة ترامب “السابعة والأربعين” بيئةً أقل عدائيةً لإعادة انخراط سوريا مع المجتمع الدولي. وقد أدى نهج الإدارة الأكثر تعاملًا تجاه سياسة الشرق الأوسط، بما في ذلك خفض أولوية سوريا بشكل ملحوظ لصالح منافسة القوى العظمى مع الصين وروسيا، إلى تخفيف موقف واشنطن، مما مكّن بشكل غير مباشر المبادرات الأوروبية ومبادرات الأمم المتحدة من التقدم دون عرقلة أمريكية.
التداعيات الاقتصادية والدبلوماسية
يُشير تطبيع “الشرع” إلى فرص محتملة لإعادة تدفقات المساعدات والاستثمارات الدولية إلى سوريا، وهي خطوات حاسمة بالنظر إلى اقتصاد البلاد المنهار. وقد ساهمت العقوبات والعزلة في انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تجاوزت 60%، وفي تضخم مفرط، وأزمات إنسانية واسعة النطاق. إن إعادة دمج الجهات الفاعلة الرئيسية في النظام، القادرة على التأثير في عقود إعادة الإعمار، والتوسط في الصفقات، والتنسيق مع الشركاء الإقليميين، قد تُتيح موارد لم تكن متاحة سابقًا.
ومع ذلك، فإن هذا يزيد أيضًا من مخاطر الاشتراطات. يجب على الجهات الفاعلة الدولية ضمان ألا تُسهم جهود الإنعاش الاقتصادي في ترسيخ الفساد أو مكافأة الاستبداد. إن هياكل الحكم الغامضة في سوريا وتاريخها الحافل بهيمنة النخبة يتطلبان آليات رقابة قوية تُرافق أي تخفيف للعقوبات أو تعهدات تمويل.
دبلوماسيًا، قد يُسهّل وجود “الشرع” إجراء مفاوضات أكثر جوهرية حول قضايا خلافية مثل إعادة اللاجئين، والتعاون الأمني الإقليمي، والتجارة عبر الحدود. لعلاقاته الراسخة مع لبنان والأردن – وهما دولتان متأثرتان بشدة بعدم الاستقرار السوري – دور محوري في صياغة سياسات تُعالج الشواغل الإنسانية وإدارة الحدود. ومع ذلك، لا تزال هذه المكاسب الدبلوماسية هشة، إذ تواصل جماعات المعارضة المحلية وجهات المجتمع المدني مقاومة إضفاء الشرعية على عناصر النظام ذات السجلات الحقوقية المشكوك فيها.
المخاطر والتحديات: اجتياز منطقة محفوفة بالمخاطر
على الرغم من الفوائد المحتملة للمشاركة، فإن التطبيع السريع لشخصية مثل الشرع محفوف بالمخاطر. فهو يُخاطر بتنفير فصائل المعارضة السورية ومجتمعات الشتات التي ترى في مثل هذه الخطوات تقويضًا للعدالة والمساءلة. إن غياب آليات عدالة انتقالية موثوقة يعني أن إشراك نخب النظام السابق قد يُنظر إليه على أنه إفلات من العقاب، مما يُعقّد آفاق المصالحة.
علاوة على ذلك، فإن تخفيف العقوبات عن شخصيات بارزة يُشكك في سلامة الأطر القانونية الدولية التي تهدف إلى ردع انتهاكات حقوق الإنسان. وهذا قد يُضعف مصداقية أنظمة العقوبات ويُشجع المتشددين داخل سوريا الذين يُعارضون الإصلاح. إقليميًا، تُعقّد المصالح المتباينة بين الدول المجاورة البيئة الدبلوماسية. فبينما قد يرحب لبنان والأردن بجهود تحقيق الاستقرار، لا تزال دول الخليج الأخرى حذرة من أي مصالحة تُعزز نفوذ إيران عبر سوريا. وتتطلب هذه الأجندات المتضاربة توازنًا دبلوماسيًا دقيقًا لتجنب تفاقم التوترات الطائفية أو إعادة إشعال الصراعات بالوكالة.
حالة اختبار في الواقعية السياسية والدبلوماسية
يُجسّد تسارع أحمد الشرع في التطبيع وحضوره المتوقع في الجمعية العامة للأمم المتحدة تعقيدات إعادة دمج سوريا في الدبلوماسية الدولية. تُسلّط حالته الضوء على كيف يُمكن للبراغماتية الجيوسياسية، والوساطة الإقليمية، وتغيّر الأولويات العالمية أن تتجاوز الانقسامات الأيديولوجية السابقة والنبذ الناجم عن العقوبات.
يُمثّل هذا التطور، بالنسبة لصانعي السياسات، فرصةً وتحدٍّ في آنٍ واحد. فهو يُتيح سبيلاً عملياً للمشاركة وتحقيق الاستقرار المُحتمل، ولكنه يتطلّب ضماناتٍ صارمةً لضمان ألا يُقوّض هذا الإدماج المساءلة أو يُرسّخ الاستبداد. ستكون إدارة هذا التوازن اختباراً حاسماً لقدرة المجتمع الدولي على التعامل مع المشهد السياسي السوري المُتصدّع، ورسم مسارٍ عمليٍّ نحو السلام وإعادة الإعمار. تقييم تحذير وزير الخارجية روبيو في ظل الواقع السياسي الجديد لسوريا في عهد الرئيس أحمد الشرع: الهشاشة الاقتصادية، والديناميكيات الإقليمية، والاستراتيجية الخطابية
يُمثل عهد ما بعد الأسد في سوريا، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، نقطة تحول مهمة في مسار البلاد الطويل من الصراع والتشرذم والتعافي المتعثر. ويشير ظهور الشرع رئيسًا لحكومة الوحدة الوطنية السورية، إلى جانب حضوره التاريخي مؤخرًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى تحول حاسم نحو إعادة التأهيل الدولي وتعزيز الاستقرار المحلي. وقد لاقت قيادته استحسانًا عامًا، ما يرمز إلى الخروج من العزلة والاستبداد اللذين ميّزا النظام السابق. إلا أن تصريحات وزير الخارجية روبيو الصارخة التي تُحذر من انهيار الدولة الوشيك واندلاع حرب أهلية في غضون أسابيع تُمثل تناقضًا صارخًا، مما يثير تساؤلات حول الأساس التجريبي والهدف الاستراتيجي وراء هذه التحذيرات.
يكشف التعمق في الواقع الاقتصادي السوري عن دولة لا تزال تُصارع تحديات هيكلية هائلة، لكنها ليست على شفا الانهيار الفوري. بعد انكماش مطول تجاوز 60% في الناتج المحلي الإجمالي خلال سنوات من الصراع المدمر والشلل الاقتصادي، أظهر الاقتصاد السوري علامات مبدئية على الاستقرار والنمو المتواضع بدءًا من عام 2023 وحتى عام 2024. تتراوح تقديرات النمو الحالية في خانة الآحاد المنخفضة – حوالي 2 إلى 3% – والتي، على الرغم من تواضعها، تشير إلى انحراف عن الاتجاه السابق للانحدار الحاد. وقد كان هذا النمو مدفوعًا إلى حد كبير بأنشطة إعادة الإعمار التي مولتها دول الخليج الحريصة على استعادة نفوذها، بالإضافة إلى انتعاش الإنتاج الزراعي مع عودة السكان النازحين ببطء إلى سبل عيشهم الريفية. ومع ذلك، فإن هذا الانتعاش الاقتصادي الهش يخفي نقاط ضعف عميقة. لا يزال التضخم، على الرغم من انخفاضه من ذروته التضخمية المفرطة، مرتفعًا في نطاق 25 إلى 30% سنويًا، مما يضغط على القوة الشرائية للأسر ويفاقم انعدام الأمن الغذائي. تكون الضغوط التضخمية حادة بشكل خاص في السلع الأساسية، بما في ذلك القمح والسكر وزيت الطهي والوقود – وهي سلع ضرورية للبقاء اليومي والنشاط الصناعي. يُعزى الاستقرار النسبي لليرة السورية، التي يتراوح سعرها بين 4000 و4200 ليرة مقابل الدولار الأمريكي، بشكل كبير إلى تدفق التحويلات المالية من الشتات السوري، وبعض التدفقات المحدودة من العملات الأجنبية المرتبطة بعقود إعادة الإعمار. ومع ذلك، فإن هذه التدفقات غير منتظمة وتخضع للتقلبات الجيوسياسية، لا سيما مع تغير أنظمة العقوبات والسياسات الإقليمية بشكل غير متوقع.
لا تزال البطالة مرتفعة بشكل مثير للقلق، حيث تُقدر بنحو 50% أو أكثر، مما يعكس تدمير القاعدة الصناعية السورية، وإغلاق منشآت التصنيع الرئيسية، واختلال سوق العمل الرسمي. ولا يزال الاقتصاد غير الرسمي، الذي يشمل الزراعة والتجارة الصغيرة والمشاريع متناهية الصغر الممولة بالتحويلات المالية، المصدر الرئيسي لكسب الرزق لمعظم السوريين، لكنه يفتقر إلى الاستقرار ونمو الإنتاجية. ويُصيب الفقر أكثر من 80% من السكان، وهو رقمٌ مُذهل يُبرز الحرمان والضعف المُنتشرين. وعلى الرغم من هذه الصعوبات، لم يتدهور التماسك الاجتماعي، بشكلٍ ملحوظ، إلى اضطرابات واسعة النطاق. وقد استوعبت شبكات المجتمع المحلي والانتماءات القبلية وشبكات الأمان الاجتماعي غير الرسمية الكثير من الضغط، مما حال دون اندلاع احتجاجات واسعة النطاق أو اضطرابات اجتماعية حتى الآن. ويعكس هذا الصمود حذر السكان الناتج عن سنوات من الصراع، وصمودًا جماعيًا يُحافظ على استقرار هش. وتُظهر الخدمات العامة صورةً مُختلطةً مماثلةً من التقدم التدريجي والهشاشة المُستمرة. تحسنت إمدادات الكهرباء، وهي مؤشر حيوي للبنية التحتية، حيث تشهد المراكز الحضرية ثماني إلى عشر ساعات من الكهرباء يوميًا مقارنةً بانقطاعات شبه كاملة في السنوات السابقة. ومع ذلك، فإن هذا التحسن غير متكافئ ويعتمد بشكل كبير على الدعم وواردات الوقود الخارجية، مما يجعله عرضة للصدمات المستقبلية. كما أن خدمات توفير المياه والصرف الصحي متأخرة بشكل كبير، حيث تواجه العديد من المناطق مشاكل في الوصول المتقطع والتلوث تهدد الصحة العامة. أما البنية التحتية للرعاية الصحية، التي تضررت من سنوات الحرب وهجرة الأدمغة، فتتم إعادة بنائها ببطء، لكنها لا تزال منهكة وتفتقر إلى الموارد، مع استمرار النقص الحاد في الأدوية والكوادر المدربة. وعلى صعيد الحوكمة والأمن، نجحت حكومة الشرع في ترسيخ سيطرتها على غالبية الأراضي السورية، والتي تقدر بنحو 70 إلى 80 في المائة، بما في ذلك المراكز الحضرية الرئيسية وشرايين النقل الرئيسية. ويمثل هذا تحسنًا ملحوظًا مقارنةً بالتشرذم والسيادة المتنازع عليها التي اتسم بها جزء كبير من الحرب الأهلية. ومع ذلك، لا تزال سوريا مقسمة بحكم الواقع في عدة مناطق. تحكم إداراتٌ يقودها الأكراد أجزاءً واسعةً من شمال شرق سوريا، بينما تُهيمن ميليشياتٌ مدعومةٌ من تركيا على مناطق حدودية في الشمال الغربي، وتحتفظ الفصائل الإسلامية بموطئ قدمٍ في جيوبٍ من البلاد. تُشكّل هذه الانقسامات بؤرًا أمنيةً مُستمرة، لكنها لم تتفاقم بعدُ إلى صراعٍ أوسع، مما يعكس توازنًا مؤقتًا وغير مستقرٍّ للقوى.
سياسيًا، اعتمدت قيادة الشرع نهجًا أكثر شمولًا وواقعية في الحكم، سعيًا إلى تجسير الهوة بين المذاهب والطوائف من خلال بناء التحالفات وترتيبات تقاسم السلطة. ورغم أن عودة اللاجئين لا تزال محدودة بسبب المخاوف الأمنية والصعوبات الاقتصادية، إلا أنها بدأت تُعيد الاستقرار الديموغرافي في بعض المناطق. وقد عزز هذا الاعتدال السياسي والتواصل شرعية سوريا في نظر الأطراف الإقليمية والمجتمع الدولي، مما ساعد على تمهيد الطريق لتجديد المشاركة الدبلوماسية والاستثمار في إعادة الإعمار. واستهدفت إصلاحات الحكم المبكرة بناء القدرات المؤسسية، وتدابير مكافحة الفساد، وتعزيز استقلال القضاء تدريجيًا. ورغم أن هذه الإصلاحات لا تزال مقيدة بالمصالح الراسخة والنفوذ المستمر للأجهزة الأمنية، إلا أنها تُرسي أسسًا حاسمة لبناء دولة أكثر استدامة. وتُعقّد البيئة الجيوسياسية الإقليمية الأوسع نطاقًا استقرار سوريا الهش وآفاق تعافيها. وتحتفظ إيران بموطئ قدم استراتيجي في سوريا من خلال شبكتها من الميليشيات التابعة لها، والمستشارين العسكريين، والعلاقات الاقتصادية، حيث تعتبر سوريا ممرًا حيويًا لحزب الله في لبنان، وحصنًا منيعًا ضد النفوذ الإسرائيلي والغربي. بينما تدعم إيران حكومة الشرع بشكل عملي، إلا أنها لا تزال حذرة من الإصلاحات التي قد تقوض نفوذها، وتواصل تشغيل الميليشيات على طول المناطق الحدودية بطرق تتحدى سيادة دمشق وتُعقّد الحكم.
روسيا، التي غيّرت مسار الصراع السوري بشكل حاسم من خلال تدخلها العسكري عام 2015، تلعب الآن دورًا مزدوجًا كضامن أمني ووسيط سياسي. تهدف موسكو إلى تأمين أصولها العسكرية في سوريا، والحفاظ على نفوذها الإقليمي، وتسهيل جهود إعادة الإعمار التي تدعم حكومة الوحدة الوطنية. يتطلب هذا الموقف موازنة مصالحها مع دعوات تخفيف العقوبات والاستقرار السياسي، مما يحد من وتيرة ونطاق الإصلاحات التي يمكن لسوريا السعي إليها.
يعكس وجود تركيا في شمال سوريا مخاوف أنقرة الأمنية من الميليشيات الكردية، التي تعتبرها تابعة للإرهاب. تسيطر القوات المدعومة من تركيا على العديد من المناطق المتنازع عليها، مما يمنع حكومة الشرع من ممارسة سلطتها الكاملة ويديم التشرذم الإقليمي. هذا الوضع يضخّ تقلبات مزمنة في المناطق الحدودية الشمالية ويُعقّد مسار سوريا نحو السيادة الكاملة. في غضون ذلك، استأنفت دول الخليج، بما فيها قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مشاركتها بحذر مع سوريا، مدفوعةً بتغير حسابات القوة الإقليمية والمصالح الاقتصادية في عقود إعادة الإعمار. ويُدخل دعمها المالي، وإن كان محدودًا مقارنةً باحتياجات سوريا الهائلة، ديناميكيات تنافسية مع إيران وروسيا، ويوفر رأس مالٍ أساسي لمشاريع البنية التحتية والبرامج الإنسانية. إلا أن مشاركتها تُنذر أيضًا بتسييس جهود إعادة الإعمار وتأجيج التنافس.
لا تزال إسرائيل متيقظة تجاه التمركز الإيراني في سوريا، حيث تشن غارات جوية متقطعة ضد أهداف تابعة لإيران وحزب الله. تهدد هذه الضربات بزعزعة استقرار التوازنات الأمنية الحساسة وتفاقم التوترات، مما يعزز الوضع الجيوسياسي الهش في سوريا.
في ظل هذه الصورة المعقدة، تعكس تحذيرات وزير الخارجية روبيو من الانهيار الوشيك والحرب الأهلية تفاعلًا معقدًا بين المخاوف الحقيقية والإشارات الدبلوماسية المدروسة. يؤكد خطابه على المخاطر المستمرة الكامنة في تعافي سوريا الهش، مما يساهم في الحفاظ على الضغط الغربي من أجل الإصلاحات السياسية وتحسين حقوق الإنسان، مع التحذير من تخفيف العقوبات قبل الأوان. يسعى هذا المبالغة الاستراتيجية إلى إبقاء أصحاب المصلحة الدوليين متفقين حول نهج حذر ومشروط للتطبيع.
ومع ذلك، تشير الأدلة إلى أنه على الرغم من حدة نقاط الضعف في سوريا، فإن سيناريو الانهيار الفوري ليس حتميًا. إن غياب الاضطرابات الحضرية الجماعية، والتحسينات الاقتصادية المطردة وإن كانت هشة، وترسيخ الحكومة سيطرتها على الأراضي وشمولها السياسي، كلها عوامل تُشير إلى عدم إمكانية حدوث انهيار قريب المدى. لذا، تبدو تحذيرات روبيو مُعدّلة للتأثير على النفوذ الدبلوماسي بدلاً من وصف مصير لا مفر منه.
في حال فشل الدولة، فمن المرجح أن يكون ذلك نتيجةً لتضافر عوامل عدة. فالانقطاع المفاجئ لتحويلات المغتربين أو التمويل الدولي قد يُحدث صدمة اقتصادية ذات آثار مُتتالية على الفقر والأمن الغذائي والخدمات العامة. كما أن الفراغ الأمني في المناطق الحدودية المُتنازع عليها قد يُمكّن الجماعات المُسلحة من توسيع نفوذها، وإعادة إشعال العنف وتقويض سلطة الحكومة. ويُنذر الركود السياسي أو النكسات في إصلاحات الحوكمة بتنفير فئات مجتمعية رئيسية وتفتيت الوحدة الهشة التي تحققت في ظل الشرع. علاوة على ذلك، تُشكّل التنافسات الإقليمية التي تشمل إيران وروسيا وتركيا ودول الخليج وإسرائيل خطرًا مُستمرًا من صراعات بالوكالة وتدخل خارجي قد يُزعزع استقرار التوازن الدقيق.
في ضوء هذه الحقائق، يواجه المجتمع الدولي تحدي الموازنة بين التعامل الحذر والمراقبة الدقيقة وفرض الشروط. إن التخفيف التدريجي للعقوبات المرتبط بتحقيق تقدم ملموس في مجال الحوكمة وحقوق الإنسان، إلى جانب تقديم مساعدات إنسانية ومساعدات إعادة إعمار قوية، أمرٌ ضروري لدعم مسار التعافي في سوريا مع التخفيف من مخاطر الانتكاس. يجب أن تسعى الدبلوماسية الإقليمية إلى إدارة المصالح المتضاربة وتعزيز التعاون الأمني لمنع التصعيد. وينبغي أن تُعطي جهود الاستقرار الاقتصادي المستدامة الأولوية للأمن الغذائي، والسيطرة على التضخم، وخلق فرص العمل لتعزيز المرونة الاجتماعية.
في نهاية المطاف، تُتيح قيادة الرئيس أحمد الشرع فرصةً نادرةً لكسر حلقة الصراع والعزلة في سوريا. إن حوكمته العملية، إلى جانب المشاركة الإقليمية والدولية المتزايدة، تُوفر أساسًا للتفاؤل الحذر. تُمثل تحذيرات الوزير روبيو تذكيرًا ضروريًا بالمخاطر المُقبلة، لكن البيانات والتطورات تُشير إلى أن سوريا ليست مُقدّرة للانهيار الوشيك. بل تقف سوريا عند مفترق طرق هشّ، حيث يُمكن للالتزام المُستدام والدبلوماسية الاستراتيجية والإصلاح الصبور أن يُعيد الاستقرار والسيادة والازدهار تدريجيًا.
إذا عادت سوريا إلى دوامة الحرب الأهلية أو انهيار الدولة التام، حتى مع رفع العقوبات الغربية والدولية تدريجيًا، فإن العواقب ستكون كارثية ومتعددة الأوجه، مما سيُغرق المنطقة في حالة من عدم الاستقرار المتجدد، مع عواقب عالمية بعيدة المدى.
كارثة إنسانية وأزمة لاجئين
ستكون التداعيات الإنسانية من بين أشد الآثار إلحاحًا وشدةً. سيتحمل سكان سوريا، الذين دمرهم بالفعل أكثر من عقد من الصراع والنزوح والحرمان الاقتصادي، وطأة تجدد العنف. ستُدمر البنية التحتية الحيوية، مثل المستشفيات والمدارس وشبكات المياه والصرف الصحي وشبكات الكهرباء – التي لا يزال الكثير منها هشًا أو أُعيد بناؤه جزئيًا – أو ستُصبح غير صالحة للعمل مرة أخرى. سيواجه السكان المدنيون نقصًا حادًا في الغذاء والمياه النظيفة والأدوية والمأوى، مما يُفاقم سوء التغذية وتفشي الأمراض ومعدلات الوفيات. سيزداد النزوح الداخلي في سوريا بشكل كبير، مع إجبار الملايين على الفرار من المناطق المتنازع عليها حديثًا، غارقين في عجز الوكالات الإنسانية الدولية عن العمل بأمان أو على نطاق واسع في مناطق الصراع النشطة. علاوة على ذلك، ستواجه الدول المجاورة، وخاصة لبنان والأردن – المثقلة بالفعل باستضافة أكبر عدد من اللاجئين للفرد في العالم – وتركيا، تدفقات جماعية متجددة. ونظرًا لتحدياتها الاقتصادية والسياسية الخاصة، فقد تشهد هذه الدول المضيفة توترات اجتماعية حادة، ومخاوف أمنية متزايدة، وزعزعة استقرار سياسي، مما قد يؤدي إلى إثارة الاضطرابات أو صعود العناصر المتطرفة داخل حدودها.
بالنسبة لأوروبا والمجتمع الدولي الأوسع، ستختبر موجة جديدة من اللاجئين وطالبي اللجوء مرة أخرى حدود سياسات الهجرة، وضوابط الحدود، وأطر المساعدات الإنسانية. ومن الناحية السياسية، من شأن هذا أن يؤجج ردود الفعل المحلية في العديد من دول الاتحاد الأوروبي، مما يعزز الحركات القومية والمعادية للهجرة، ويعقد التماسك الدبلوماسي، ويهدد الإجماع الهش حول سياسة الشرق الأوسط.
الفراغ الأمني والعودة المتطرفة من وجهة نظر أمنية، وانهيار سوريا سينتقل الظروف الفوضوية التي سمحت في الأصل الجماعات المتطرفة مثل إيزيس والتنظيم التابعة لتنظيم القاعدة. إن تفكك سلطة الدولة ستمكن مختلف الميليشيات والفصائل القبلية والمنظمات الجهادية من احتشائها من الأقاليم ذاتية الحكم، مما يحتمل أن يرد على التمرد والإرهاب عبر الحدود. يمكن أن تستغل هذه المجموعات الحدود المسامية لشن هجمات على البلدان المجاورة وتعطيل الاستقرار الإقليمي. ستضطر الدول المجاورة مثل إسرائيل والأردن وتركيا والملكية الخليجية لدعم أمن الحدود والاستعداد العسكري، وربما الانخراط في عمليات عبر الحدود أو صراعات وكيل، مما يؤدي إلى مزيد من التوترات الإقليمية. قد تعمق مشاركة تركيا التي تم نقلها بالفعل في شمال سوريا، مع تعقيد علاقاتها مع الجماعات الكردية وروسيا. سيواجه روسيا وإيران، المديران الخارجيان من حكومة سوريا الحالية، معضلة استراتيجية. مع انهيار سوريا، يخاطر موسكو بفقدان قاعدة بحرية البحر المتوسط في طرطوس وجودة الهواء في خميم، والتي تعتبر حيوية لإسقاط قوة روسيا في الشرق الأوسط وخارجها. كما استثمرت طهران، استثمرت بشدة اقتصاديا وعسكريا في سوريا، تخاطر أيضا بفقدان ممرا حرجا لتفويتها الإقليمي يمتد عبر العراق إلى لبنان وحصفة حزب الله. لمنع الخسائر الكاملة للتأثير، قد تتصاعد كل من روسيا وإيران إيران من المشاركة العسكرية، ونشر المزيد من الموارد، أو دعم الميليشيات الوكيل، وتكثيف النزاع ورفع خطر المواجهات المباشرة مع القوى الغربية أو الإقليمية. هذا التصعيد يمكن أن يؤدي إلى تفاقم مختلف منافسات الطاقة، مما أدى إلى زيادة المخاطر التي تتجاوز سوريا نفسها. التشرذني السياسي والتدخل الدبلوماسي سياسيا، سيقوض الانهيار الجهود الناشئة في المصالحة وشرعية حكومة الوحدة الحالية بموجب الرئيس أحمد الشرع. على الرغم من استقباله الإيجابي وصورته الإصلاحية، فإن حرب أهلية متجددة ستضعف بشدة قدرته على الحكم بفعالية أو إجبار الانقسامات الداخلية وفقدان السيطرة على المناطق الرئيسية أو تجزئة السلطة على غرار طائفية أو عرقية. من المرجح أن يتم تعليق المبادرات الدبلوماسية الدولية التي تقودها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجهات الفاعلة الإقليمية – غير فعالة. تدابير بناء الثقة وخطط العودة للاجئين وإعادة الإعمار سوف تتوقف. قد تصبح الدول الأوروبية والخليج مترددا في الانخراط أو الاستثمار، خشية إهدار مواردها أو الاستيلاء عليها من قبل أمراء الحرب. علاوة على ذلك، فإن استراتيجية الاتحاد الأوروبي المعايرة بعناية للإغاثة العقولية المشروطة لتحفيز الإصلاحات والمصالحة ستقاصر. قد يتبع إعادة فرض عقوبات أو تصعيد التدابير العقابية، ولكن مع انخفاض العائدات، حيث ستكون الدولة المكسورة أقل قدرة على الامتثال أو التفاوض.
تحديات الانهيار الاقتصادي وإعادة الإعمار اقتصاديا، ستغرق سوريا أعمق في أزمة. وجهات إعادة الإعمار تواجهها بالفعل عقبات حديدية: دمرت البنية التحتية، رحلة رأس المال، وانهيار القطاع المصرفي، والقيود المرتبطة بالجزاءات، وفساد واسع النطاق. إن النزاع المتجدد سيتوقف أي انتعاش ناشط، وتدمير الأصول التي تم تأهيلها، وتدمير الثقة الهشة اللازمة للاستثمار الأجنبي والمحلي. التضخم، الذي تجاوزت بالفعل عدة مئات في المئة في بعض الأحيان، سوف ترتفع دون حسيب ولا الحساب فيه. من المحتمل أن يواجه الجنيه السوري انخفاضا حادا شديدا، مما دفع الملايين إلى أقل من خط الفقر. البطالة – بالفعل أعلى من 50٪، وسيلدرت، خاصة بين الشباب، مزيد من تأجيج الاضطرابات الاجتماعية والتجنيد في الميليشيات أو الجماعات المتطرفة. من شأن الشركات الدولية والمانحين، التي سبقها انعدام الأمن وعدم الاستقرار السياسي، أن تنسحب أو تأخير الاستثمارات، وخلق حلقة مفرغة من التخلف والاعتماد على المساعدات الإنسانية. هذا اليأس الاقتصادي سوف يتغذى على المظالم، وإدامة دورة الصراع. لا يمكن تفسير العقوبات وأمين المراسلة السياسية الأمريكية تحذيرات روبيو حول الانهيار الوشيك في سوريا من خلال عدسات متعددة. من ناحية، تدهور المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية – النزوح الجماعي، انهيار الخدمات، ارتفاع مصداقية التشدد إلى السيناريو الرهيب. من ناحية أخرى، قد تحتوي خطابه على خطابه عنصرا في فرط النعول الاستراتيجي الذي يهدف إلى الهجرة الدعم الدولي والدولي لتخفيف العقوبات المزروعة أو زيادة الضغط الدبلوماسي على دمشق ومؤيدها. إذا كانت تحذيرات روبيو حقيقية، فهي تسليط الضوء على إلحاح منع الانهيار من خلال تخفيف العقوبات المعاي المعاي للتدخلات – تعادل تحسينات الحكم، وزيادة المساعدة الإنسانية، والإشراك الدبلوماسي الإقليمي. ومع ذلك، إذا كانت هذه التحذيرات تخدم في المقام الأول كفاياتية سياسية، فهناك خطر تشويه السياسة وتشجيع القرارات المتنقلة التي تتجاهل الحقائق على الأرض. في كلتا الحالتين، يعقد خطر فشل الدولة توقيت ونطاق الإغاثة الجزاءات. تخاطر المبكر في تخفيف المخاطر التي توفر الموارد للمفسدين الذين يستطيعون تعميق النزاع؛ بعد الحفاظ على العقوبات القاسية مخاطر طويلة جدا الدمار الاقتصادي الذي يقوض الاستقرار. تتمثل التحدي في أوروبا والمجتمع الدولي في تحقيق عقوبات باستخدام التوازن كأداة للنفاد مع تجنب العواقب غير المقصودة التي تفاقم الهشاشة. إن انهيار سوريا في حرب أهلية متجددة أو وضع الدولة الفاشلة، على الرغم من أن العقوبات التي تنعسل، سيسيز أزمة إنسانية مدمرة، تكثف التهديدات الأمنية الإقليمية، وتحطير التقدم السياسي، وتحهد البلاد مرة أخرى إلى الهاوية الاقتصادية. المخاطر الجيوسياسية عميقة، مما أجبر جميع الجهات الفاعلة – أوروبا، والولايات المتحدة وروسيا وإيران والصين والجيران الإقليميين – إلى استراتيجيات إعادة معايرة وسط مناظر طبيعية من عدم اليقين والمخاطر المتزايدة. يطلب الوضع الدبلوماسية الدقيقة والمرنة، والمراقبة اليقظة، والتنسيق الدولي القوي لإدارة الانتقال الدقيق من الصراع نحو السلام والتعمير المستدامين. إذا تحققت أكبر تنبؤات في رفع العقوبات على سوريا – حيث يفقد المستثمرون في نهاية المطاف رأس مالهم ورائحة التطرف، فإن الدولة الفاشلة تنشأ على طول الحدود الإقليمية والدولية لا تزال أقل من الكارثي. سيتم الشعور بالصدأ عبر المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية، مما يكشف الأرصدة الهشة التي صيانتها بشدة على مدار سنوات.
لتبدأ، سيتم تحطيم ثقة المستثمرين في إعادة الإعمار السوري تماما. على الرغم من الالتزامات المؤقتة من خلال صناديق الثروة السيادية، فإن المولدون الخليجيون، والاتقاصات الدولية حريصون على الاستفادة من عقود إعادة الإعمار، فإن بيئة المخاطر لا تزال معادية للغاية. من شأن عدم الاستقرار المطول والفساد المتفشي والفساد الضعيف والتهديد من أجل النزاع المتجدد في الخسائر الكارثةية. لن تكون هذه مخاطر مالية مجردة ولكن المصارف الخرسانية على العواصم التي خصصت بها العديد من دول الخليج والشركات الأوروبية بالفعل، حيث تتوقع العائدات المسترنة على الأقل أدنى من الاستقرار وحكم القانون على الأقل. إن فشل هذه الاستثمارات سيعود إلى عودة إلى عواصم المستثمرين، وتذرد عدم الثقة والشكوك الذي قد يتجمد مشاريع جديدة لعدة عقود. إن طموحات أوروبا في الاستفادة من المشاركة الاقتصادية كأداة للتأثير والقوة الناعمة في مستقبل سوريا ستكون تقوض بشدة، مما يقلل من المركز الاستراتيجي في بلاد بروكسل. إن دول الخليج، وخاصة قطر والإمارات العربية المتحدة – وضعت أيضا حصصا سياسية عالية على إعادة الإعمار السوري – ستجد رأس المال الدبلوماسي تآكل، مشجعة، ومصالحهم الاستراتيجية تعرض للخطر. على أرض الواقع، فإن ظهور دولة سورية مذهلة، فاشلة من المتاخمة لإسرائيل ستتصعزع انعدام الأمن الإقليمي بشكل كبير. إن انهيار السلطة المركزية سيسيز فراغ قوة فوضوية مستغل من قبل الميليشيات المتطرفة وفصائل جهادية ووكلاء متشددين راسخين معاد لإسرائيل وجيران عرب معتدلين على حد سواء. ستصبح مناطق مثل مرتفعات الجولان والحدود الشمالية الإسرائيلية نقاط فهرس للنيران الصاروخية عبر الحدود وتجنزات حرب العصابات والعمليات الإرهابية. إن إسرائيل، يقظا من أي وقت مضى تهديدات الوجودية على عتبة بابتها، ستكثف بالتأكيد الضربات الوقائية العسكرية والعمليات السرية لتحييد هذه التهديدات. ستؤدي هذه التصاعيات إلى إثارة المواجهات العسكرية الأوسع نطاقا ورسمت في صلاحيات إقليمية وعالمية ذات مصالح متضاربة، مما يهدد بإشعال بلاد أوسع في منطقة متقلبة بالفعل. في هذا السياق، يصبح دور تركيا كممثل إقليمي محوري ومحفوف بالتعقيد. وتتبع أنقرة تاريخيا سياسة عدوانية في شمال سوريا، مما أدى بدافع الشواغل الأمنية بشأن الميليشيات الكردية واستقرار الحدود، ومواد الطموحات لتوسيع بصمة الإقليمية. في حالة تنزلق سوريا إلى الفوضى، ستتدخل تركيا بالتأكيد بشكل شبه عسكريا، وتقديم نفسها كمثبت مكلف بضمان حدودها، ويعضون التهديدات المتشددة، وإدارة تدفقات اللاجئين. لكن هذا التدخل سيذهب بعيدا عن مجرد أمن الحدود. ستسعى تركيا إلى إنشاء مناطق عازلة ومراقبة البنية التحتية الرئيسية ومناطق غنية بالموارد مثل حقول النفط وفرض نفوذ سياسي على هياكل الحكم في شمال سوريا. مثل هذه التحركات ستشكل توسع استراتيجي للهيمنة التركية في بلاد الشام.
يعتمد توقيت ومدى تدخل تركيا على العديد من العوامل المتشابكة. تدهور سريع في الظروف الأمنية على الحدود الجنوبية، تصاعد هجمات المتشددين داخل أراضيها، أو زيادة اللاجئين الذين لا يمكن السيطرة عليها سيؤديون إلى الاستجابة العسكرية الحاسمة في أنقرة. السياسة التركية المحلية، لا سيما الضغوط القومية، والطلب العمل القوي ضد التهديدات الوجودية المتصورة، على الرغم من أن القيود الاقتصادية والتعب في الحرب قد تعزز على ارتباطات طويلة الأجل. على الجبهة الدبلوماسية، ستعمل تركيا على قياس ردود الفعل الدولية بعناية؛ سيقوم الدعم التاكيت أو على الأقل إذعان من واشنطن وموسكو أنقرة، في حين أن الإدانة الدولية أو العقوبات قد تفرض تكاليف كبيرة والحد من طموحات أنقرة. ومع ذلك، فإن تدخل تركيا تخاطر تكثيف مستنقع الإقليمي. في حين أن قوات أنقرة قد تفرض قدرا من النظام، فإن الاحتلال الطويل أو الوجود العسكري قد يثير مقاومة شرسة من السكان المحليين والجماعات الكردية والفصائل المتناحرة. من المرجح أن يؤدي ذلك إلى استهلاك التمرد والتوترات الطائفية والعنف بين الأوضاعين، مما يقوض الاستقرار تركيا تسعى إلى إنشاء. بالإضافة إلى ذلك، فإن جهود تركيا لتوسيع نطاق السيطرة السياسية والإقليمية ستشمس مصالح إيران وروسيا والقوات القومية السورية المخاطرة بالوكالة وصراع إقليمي عميق. إن خطر تحول شمال سوريا إلى ساحة معركة بين الهيمنة الإقليمية المتنافسة سيزيد بشكل كبير، مما زاد من زعزعة استقرار الشام. الآثار الأوسع نطاقا على الجغرافيا الوسطى في الشرق الأوسط عميقة. ستواجه إسرائيل تحديات أمنية مكثفة وقد تشعر بالاضطراب إلى توسيع نطاق البصمة العسكرية، والتي يمكن أن تنسقها سرا أو علنا مع الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى، بما في ذلك دول الخليج، لمواجهة النفوذ التركي والإيراني. سيواصل لبنان والأردن تحمل ضغوط هائلة من تدفقات اللاجئين وخلع الاستقرار. سوف تجد الملكية الخليجية، المتزور بالفعل في التنافس المعقد وتنظيمها، سياساتها السورية اختبارها لأنها توازن بين المصالح الاقتصادية والشواغل الطائفية والتحالفات. ستنظر روسيا وإيران، الراسخة في المصفوفة السياسية والعسكرية السورية، تدخل تركيا بمثابة تحدي لهيمنتها، مما يحتمل أن تصلب مواقفها وتعقد أي احتمالات للقرار الدبلوماسي. الخلفية الاقتصادية لهذا السيناريو صارخة بنفس القدر. لا يزال الاقتصاد السوري الذي مزقته الحرب في العدل: انخفض الناتج المحلي الإجمالي إلى جزء بسيط من مستويات ما قبل الحرب، ومعدلات البطالة ومعدلات الفقر مذهلة، وتفاقم الضغوط التضخمية بسبب انخفاض قيمة العملة – لم يضغط على الملايين أقل من خط الكفاف. البنية التحتية العامة تعمل خدمات الرعاية الصحية والتعليم والمياه والكهرباء في الحد الأدنى من السعة. الأمن الغذائي الأساسي غير مستقر، مع الملايين يعتمدون على المساعدات الإنسانية الدولية. تكمن تكاليف إعادة الإعمار في عشرات مليارات الدولارات، لكن تمويل هذا في سياق عدم الاستقرار السياسي والعقوبات لا تزال معركة شاقة. تم تصميم تخفيف العقوبات المتوقعة لفتح هذا الاستثمار، ولكن مخاطر الإغاثة المبكرة أو التي تديرها بشكل سيء قمع الأموال في شبكات فاسدة ومزبرة ميليشيا بدلا من مشاريع إعادة الإعمار.
تخاطر نظام العقوبات الفاشلة يؤدي إلى تفاقم الكارثة الإنسانية. مع استمرار الانهيار الاقتصادي، سيكون المزيد من السوريين مشردين داخليا أو أجبروا على السعي لجأوا في الخارج، مما يضعوا المزيد من الضغط على الدول المجاورة وأوروبا. يتدفق اللاجئون المخاطرة في تخفيف استقرار الدول الهشة السياسية مثل لبنان والأردن وإطعام التوترات الاجتماعية والانقسامات الطائفية. تواجه الوكالات الإنسانية تحديات هائلة تسليم المساعدات في البيئات غير الآمنة؛ من المرجح أن يؤدي أي صراع متجدد إلى قيود الوصول ومزيد من المعاناة. على هذه الخلفية، فإن المناقشة حول توقيت ونطاق الإغاثة من العقوبات مثيرة للجدل للغاية. من ناحية، تطبل العقوبات التي تديم البؤس الاقتصادي، تقوض آفاق إعادة الإعمار، وتغذى المظلات التي تغذي التشدد وعدم الاستقرار. من ناحية أخرى، فإن رفع العقوبات دون إصلاحات حوكمة قوية، وتحسينات أمنية، وآليات المساءلة تخاطر بالتعزيز الاستبداد، وتمكين الفساد، وتغذية المزيد من الصراع. يواجه أوروبا ومبادئ التوازن والبراغماتية، انقسامات داخالية بين الدول الأعضاء بين دعاة المشاركة ومؤديها بموقف متشدد، مع التنقل أيضا على علاقة معقدة مع الولايات المتحدة، والتي بموجب إدارة الرئيس ترامب تعتمد أكثر من المعاملات وغير المتوقعة السياسة الشرقية. في نهاية المطاف، إن الفشل في تنفيذ نهج معايرة وشرط وإقليميا ومنسق لمخاطر الإغاثة الجزاءات تغرق سوريا إلى فوضى أعمق، مع عواقب تمتد إلى حد بعيد حدودها. ستأتي التدخل المحتمل في تركيا كقوة استقرار بسعر بصمة تركية موسعة وزيادة التوتر الإقليمي، أو معقدة الجهود المبذولة لبناء سلام دائم أو حوكمة مستقرة. يمكن أن يواجه الشرق الأوسط الأوسع عصر جديد من النزاعات الوكيل متعدد الأقطاب والكوارث الإنسانية وهياكل الدولة المكسورة، وتقوض الأمن لإسرائيل والخليج والغرب على حد سواء. لا يمكن أن يكون المخاطر أعلى. يظل مصير سوريا Linchpin من النظام الإقليمي. كيف ستشكل المجتمع الدولي والقوى الإقليمية وسوريا نفسها في هذه اللحظة التي تم فرضها من المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط منذ عقود قادمة. إن نهج إدارة ترامب في تسريع الإغاثة من العقوبات وفتح الفرص الاستثمارية في سوريا هو سيف ذو حدين يلعب مباشرة على شبكة الإنترنت الجيوسياسية المعقدة وغالبا ما تكون على الأرجح في الطموحات الاستراتيجية القديمة في تركيا. يأتي هذا الجدول الزمني العدواني للمشاركة الاقتصادية وسط مشهد سوري متطور، حيث يظل الاستقرار السياسي ديناميات القوة الهشة والمحلية سائلة، مما يجعل المبكر يتحرك مقامرة محفوفة بالمخاطر. مصالح تركيا في شمال سوريا متعددة الأوجه ورسمة بعمق. منذ بداية الصراع السوري، سعت أنقرة إلى إنشاء منطقة عازلة على طول حدودها الجنوبية لمنع توحيد الجماعات الكردية مثل YPG، والتي تربطها بتمرد حزب العمال الكردستاني داخل تركيا. أما ما وراء الأمن، تهدف تركيا إلى توسيع مجال نفوذها من خلال تعزيز الميليشيات المدعومة باللغة التركية والهياكل السياسية، والسيطرة على المعابر الحدودية الرئيسية، وتأمين البنية التحتية الحاسمة، مثل إمدادات المياه والطاقة، واكتساب الرافعة المالية في عملية إعادة الإعمار في نهاية سوريا. هذا التوسع الإقليمي والسياسي ليس مجرد دفاعي؛ إنه يمثل عرضا محسوبا للهيمنة الإقليمية، وتحديد تركيا كممثل لا غنى عنه في شؤون ليفانتيني.
إن تسرع إدارة ترامب في فتح القنوات الاقتصادية – والتي غالبًا ما تُصوَّر على أنها “طُعم استثماري” – يمكن أن يُعزز موقف تركيا عن غير قصد من خلال ضخ رأس المال في بيئة متقلبة دون حل النزاعات السياسية والأمنية الكامنة أولاً. مع تخفيف العقوبات، تستعد الكيانات المدعومة من تركيا لكسب موطئ قدم اقتصادي يُترجم إلى شرعية سياسية وسيطرة مُعززة على الحكم المحلي. يمكن أن تتدفق أموال إعادة الإعمار إلى المناطق الخاضعة للنفوذ التركي، مما يعزز سلطة أنقرة الفعلية ويرسّخ وجودها على المدى الطويل. يتماشى هذا المسار مع إلحاح تركيا. داخليًا، تواجه أنقرة تحديات كبيرة: تتطلب الضغوط القومية المتزايدة اتخاذ إجراءات قوية “لتأمين” الحدود السورية؛ وتتطلب الصعوبات الاقتصادية في الداخل استقرار بيئتها الخارجية؛ وتتطلب السياسة الداخلية نجاحات ملحوظة في الخارج. وبالتالي، فإن تركيا لديها الدافع للاستفادة بسرعة من أي فرص تُتيحها تحولات السياسة الغربية. يمكن أن تصبح تدفقات الاستثمار المبكرة وعقود إعادة الإعمار أداةً استراتيجيةً لأنقرة لمأسسة مكاسبها، وتطبيع وجودها، وتأكيد نفوذها على البنية السياسية والاقتصادية المستقبلية لسوريا.
من وجهة نظر واشنطن، ينبع تخفيف العقوبات السريع من إدارة ترامب من رؤية عالمية قائمة على المعاملات والأعمال. وينصب التركيز على تحقيق نتائج سريعة: تحفيز الانتعاش الاقتصادي لمنع المزيد من الانهيار الإنساني، وتقليص نفوذ إيران المتزايد من خلال دعم وسطاء السلطة البدلاء، وتشجيع التنمية التي يقودها القطاع الخاص لتجنب مخاطر الاعتماد المطول على الدولة. يرى هذا النهج في الحوافز الاقتصادية رافعةً للاستقرار وموازنةً للهيمنة الروسية والإيرانية. ومع ذلك، فإن إعطاء الأولوية للسرعة وآليات السوق على الحلول السياسية الشاملة ومفاوضات أصحاب المصلحة المحليين، يُخاطر بتهميش الجهات الفاعلة الرئيسية وعدم مراعاة فسيفساء القوة المعقدة في سوريا.
والأهم من ذلك، أن استراتيجية إدارة ترامب تقلل من تقدير خطر أن يؤدي الانخراط الاقتصادي السابق لأوانه إلى ترسيخ التشرذم. بدلاً من تعزيز المصالحة الوطنية والحكم المركزي، قد يُمكّن تدفق رأس المال الاستثماري الميليشيات المجزأة المتحالفة مع تركيا وسماسرة السلطة المحليين، مما يُفاقم الانقسامات وربما يُشعل صراعات جديدة. وقد يُؤجج هذا التشرذم التوترات الإقليمية، مما يدفع القوات الروسية والإيرانية إلى الرد بقوة لحماية مصالحها، مما يزيد من خطر اندلاع اشتباكات بالوكالة.
علاوة على ذلك، قد يُؤجج تهميش الجماعات الكردية – التي لعبت دورًا محوريًا في مكافحة الإرهاب وهزيمة داعش – الاستياء وزعزعة الاستقرار في شمال سوريا، مما قد يُعيد إشعال فتيل التمرد والعنف العابر للحدود. تُعقّد حملة تركيا لقمع الحكم الذاتي الكردي، والتي عززها بشكل غير مباشر التدخل الاقتصادي الغربي في المناطق الخاضعة للسيطرة التركية، الجهود المبذولة للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة.
ومع ذلك، يُجادل مؤيدو نهج الإدارة الأمريكية بأن العقوبات والعزلة غير المحددة لم تُسفرا إلا عن إطالة أمد الأزمة الإنسانية والتفكك الاقتصادي في سوريا، مما خلق أرضًا خصبة لعودة التطرف وعدم الاستقرار الإقليمي. يزعمون أن تجاهل الوجود التركي الواضح ونفوذه في شمال سوريا أمرٌ غير واقعي. لذا، فإن الانخراط الاقتصادي، حتى في ظل ظروف سياسية غير مثالية، قد يُسهم في استقرار المناطق المضطربة، ويُتيح نفوذًا على أنقرة من خلال إشراكها في أطر إعادة الإعمار الرسمية والرقابة الدولية.
ومع ذلك، فإن هذا الحساب البراجماتي ينطوي على مخاطر في حد ذاته. فمن خلال تسهيل ترسيخ تركيا لدورها في سوريا، قد تُقرّ إدارة ترامب، عن غير قصد، أجندة أنقرة التوسعية، مما يُقوّض آفاق السيادة السورية والنظام الإقليمي المتوازن. وقد يُنفّر هذا حلفاء الولايات المتحدة، ويُعقّد ديناميكيات حلف شمال الأطلسي (نظرًا لعضوية تركيا)، ويُثير خلافًا دبلوماسيًا مع روسيا وإيران، اللتين تنظران إلى التوغلات التركية بحذر.
علاوة على ذلك، قد يُؤدّي هذا النهج المتسرّع إلى نتائج عكسية اقتصاديًا. فقد يجد المستثمرون الذين تجذبهم الفرص المبكرة أنفسهم عُرضةً لبيئات غير آمنة، وخطوط مواجهة مُتغيّرة، وفراغات حوكمة، مما يُعرّض عائداتهم للخطر ويُبطئ تقدّم إعادة الإعمار. وقد تُفاقم الإخفاقات الاقتصادية الناتجة عن ذلك المظالم المحلية، وتُغذّي عدم الاستقرار، وتُقوّض المصداقية الدولية.
إنّ تخفيف العقوبات المُعجّل من قِبَل إدارة ترامب ودفعها للاستثمار، على الرغم من أنهما يهدفان ظاهريًا إلى تعزيز الاستقرار والانتعاش الاقتصادي، يتماشى بشكل وثيق مع الأهداف الاستراتيجية التركية في سوريا. يُهدد هذا التوافق بتعميق التشرذم الإقليمي، وتصعيد التوترات الجيوسياسية، وتقويض الجهود المبذولة للتوصل إلى تسوية سياسية سورية مستدامة وشاملة. إن اتباع نهج أكثر اعتدالاً واستنارة سياسية، يوازن بين الحوافز الاقتصادية وحل النزاعات بشكل فعّال وإشراك أصحاب المصلحة، قد يُسهم بشكل أفضل في تحقيق الاستقرار على المدى الطويل.
بين الأمل والخراب: توجيه مستقبل سوريا وسط صراعات القوى العالمية
تقف سوريا عند مفترق طرق، حيث يصطدم وعد إعادة الإعمار والتطبيع بمخاطر التشرذم وتجدد العنف. يعكس التخفيف المُتأني للعقوبات من قِبَل أوروبا محاولةً براغماتيةً لاستعادة النفوذ وتعزيز الاستقرار، لكنه يسير على خطٍّ دقيق بين المشاركة وتمكين الصمود الاستبدادي. إن اندفاع إدارة ترامب لإطلاق العنان للحوافز الاقتصادية يُهدد بترجيح كفة الميزان أكثر، مما يُمكّن، عن غير قصد، هيمنة تركيا المتزايدة، ويُعمّق الانقسامات داخل سوريا.
تُضفي قيادة الرئيس الشرع لمسةً نادرةً من التفاؤل الحذر، إلا أن الطريق أمامنا لا يزال محفوفًا بالمخاطر، تُخيم عليه الصعوبات الاقتصادية والتحديات الأمنية وآثار الحرب التي لم تُمحى. وإذا تحققت أسوأ التوقعات – كالانهيار في الفوضى أو قيام دولة فاشلة مجاورة لإسرائيل – فإن العواقب ستمتد إلى ما هو أبعد من حدود سوريا، لتجرّ القوى الإقليمية إلى دوامةٍ أكثر تقلبًا. إن التحدي الذي يواجه المجتمع الدولي واضح: تعزيز سوريا مستقرة وشاملة تقاوم التطرف والتشرذم دون التضحية بالمبادئ أو الأمن الإقليمي. وهذا لا يتطلب حوافز اقتصادية فحسب، بل يتطلب أيضًا دبلوماسية دقيقة، وشروطًا صارمة، ومشاركة إقليمية منسقة. لا يكمن في الميزان مستقبل سوريا فحسب، بل استقرار الشرق الأوسط على نطاق أوسع – والمصالح الاستراتيجية لأوروبا والولايات المتحدة وشركائهما في مشهد جيوسياسي دائم التغير.